يرتبك المثقف من تسارع الأحداث. هو، في العادة، يشتغل على المفاهيم ونحْت الجُمل، ويجد الفكر والمقولات ميدانه الأوّل. بالنسبة إلى المثقف في الخليج؛ فإنّ المعضلة تأخذ شكلاً آخر. قلّما تنجح موازين السياسة وعلاقاتها في إفراز حدث جامع، ويلتقط المثقف الخليجي هذه الخيبة ستاراً للتعالي على الحدث السياسي وتسخيفه. فضلاً عن سيكولوجيّة الجُبن وسوء التوقعّات، فالمثقف في هذه المنطقة الهشّة تنتابه شكوك سميكة تجاه المشروع التغييري الذي يتولّد من رحم «الشارع»، المُتّهم تقليدياً بالأدلجة الدينيّة وكبْح الأسئلة النقديّة. جدرانٌ كثيرة من العلاقة الملتبسة بين المثقف والثورة الشعبيّة انخفضت في البحرين خلال أقل من شهر.
لم تكن ثورة الرابع عشر من فبراير بصدد تحديد جاد لأفقها الواضح. كانت، في المنظور الحركي، موجةً عارمة أخذت ارتدادها من تونس ومصر. يمكنها النجاح في تثبيت مسارها، تماماً كما كان محتملاً لها أن تصبح حدثاً ماضياً في اليوم التالي لها. منذ البدء، وضعت الثورة لنفسها الحدود غير المحدودة، وخرجت على طوْق المحتملات. أبرزت مبكراً نوعاً من ثقافة الثورة، أو الثورة المثقفة. برغم أنّها تمخّضت عبر التحاور الإلكتروني، ووضعت بيانها التأسيسي وطرائقها الاحتجاجيّة وبؤرة تجمّعها (دوّار اللؤلؤة) من خلال نقاشات «شعبيّة» مفتوحة داخل الفضاء التخيّلي؛ إلا أنّها ـــــ وبنحو غير مسبوق ـــــ كانت الثّورة الإلكترونيّة الأكثر تحقيقياً لرؤيتها في الواقع.
على هذا النّحو، كانت ثورة «الورود» تكسر مدارها المجهول بوتيرةٍ سريعة، وبقدْر الجنون والغباء السّلطوي الذي واجهها. فرضت الثورة معادلاتها الجديدة، تلك التي عجزت النخبة عن فعْلها في ما مضى. بدأت المعارضة توحّدُ صفوفها، وسقطت محظورات سياسيّة طالما اعتبرت من الاستراتيجيّات التي يستحيل التفكير فيها، وفتحَ انسحاب كتلة «الوفاق» البرلمانيّة (18 نائباً) الطرقَ المسدودة في إعادة تجميع قوى المعارضة ودخولها في خطاب تنسيقي ومتناغم. جرى ذلك في إطار تحوّل نوعي لكبرى المرجعيّات الدينيّة المحلّية، حيث أظهر الشيخ عيسى قاسم صرامة واضحة في مجابهة الموقف الرسمي، كما حرص على تقديم انسجام غير قابل للتأويل مع حركة الثورة وطلائعها الشابة.
نجح المعتصمون ومعهم قوى المعارضة في تحويل الاعتصام في دوار اللؤلؤة إلى مرتكز احتجاجي متعدّد الألوان، وهذا عمل وظيفي أزعج السّلطات الى حدّ الهلوسة، فأسرعت في فضّه بطريقة وحشيّة، وإسقاط المزيد من الشهداء والجرحى. ضمن الفصل الأول، قدّم الجيش المساعدة في تشتيت حركيّة الثورة وتعطيل فعلها المُبادِر. في أقل من 24 ساعة، التحق هذا الخيار بالفشل مع تقدّم شباب الثورة إلى قوات الجيش، رافعين الورود، بصدور عارية، وهي آلية متقدمة في الترميز السلمي للثورة.
كان سقوط أول شهيد برصاص الجيش سبباً في مزيدٍ من زعزعة العقل السلطوي للجماعة الحاكمة التي ألقت بولي العهد الشيخ سلمان بن حمد ليؤدي دوره في مناورة «الحوار»، ترافق ذلك مع فتح الدّوار وتجدّد الاعتصام الذي نجح في استقطاب مختلف النخب الثقافية والسياسية والمهنيّة، وحقّق بذلك معادلة الشعب في مقابل النظام. المعادلة إياها سبّبت خراباً مدمّراً لبنية النظام الأمنيّة والسياسيّة، وفقد معه السيطرة على الصراع الداخلي. وهو الأمر الذي دفع بالجهاز الأمني إلى تفعيل كل الأوراق القذرة، بما في ذلك التسعير الطائفي المكشوف في الإعلام الرسمي وإطلاق ميليشيا النظام (في ما عرفوا ببلطجية النظام) وتوزيع الخراب في المناطق. كان يُراد من الخطة التحوّل إلى مشروع تدميري في الدرجة الأولى، لا فضّ الاعتصام فحسب، وهو ما يتطلّب قوّة عسكريّة تحمل عقيدة الاجتثاث بالأصالة، لا التبعيّة. كان الجيش السعودي جاهزاً لتنفيذ المهمة.
المثقفون في البحرين، مثل كثيرين، لم يكن بيدهم الكثير في إطلاق الثورة. وبمعزل عن أولئك الذين يمثلون بنداً مُلحقاً في تشكيلات الحماية الذاتية داخل جسد السّلطة؛ فإنّ المثقفين المنتجين في البحرين وجدوا أنفسهم ملزمين باتخاذ مواقف سريعة، وإنْ متفاوتة. المؤكّد أن أغلبهم كان يضع أمامه تداعيات خذلان المثقف للثورة الشعبية. كان رهاب «قوائم العار» حاضراً في لاوعي الفعل الثقافي المؤيّد، لكن امتدادات التأييد وتجلّيها الميداني أسبغت على مواقف المثقفين في البحرين جدّية واعية للثورة لذاتها. أسرة الأدباء والكتّاب في البحرين ـــــ المؤسسة النخبويّة ذات التاريخ المتصدّع ـــــ وثّقت موقفها المناصِر للثورة ومطالبها، وتحرّرت تدريجاً من هواجس الارتماء «الشعبوي» والإشكالات النظريّة التي طالما استُخدمت ذريعةً للحؤول دون أي التحام بحركة الشارع.
مثل مثقفين كثر، واكبَ علي أحمد الديري، وباسمة القصّاب، ونادر كاظم الثورة اعتماداً على موروث سابق من الخطاب الاحتجاجي، يرافقه تداول متزن للتغيير الثقافي (الثورة الثقافية) الذي يُراد تمريره داخل ثورة الشباب. وإذا كان حجم القتل «الموزون» لم يدفع بمثقفين معروفين مثل قاسم حداد وأمين صالح للخروج من حيّز التردّد/ التأرجح بين نقد السّلطة والولع بتسجيل الاعتراض على جموح الشعار الشعبي؛ فإنّ استدعاء التدخّل السّعودي، بوصفه قتلاً هستيرياً؛ سيضع المثقف الخليجي أمام امتحان عسير لإثبات جدوى وجوده الثقافي من الأصل. فهو الآن وجهاً لوجه أمام مهمته الأصليّة، أي نقد العقل الاقتلاعي البشع الذي تمارسه آلة الحرب بقيادة «وهابيّة» مشحونة بأحقاد الظلام المذهبي. وفي هذا المشهد، لن يُتاح للمثقف الاحتماء طويلاً بالخطاب السديمي، والرهان على إشعار النفس بالأمان والارتياح، عبر بيانات التقريع المزدوج.
(البحرين)



عنوان الملفّ مستوحى من جملة شهيرة لهاملت بطل شكسبير: «ثمة شيء عفن في مملكة الدنمارك».