أحمد الزعتريمَن لديه مشكلة مع انفعالات سمير ووسام وعدنان جبران الجسديّة على المسرح، سيأتي يوم يكتشف فيه أنّ هذه الطاقة الانفعالية ليست سوى رؤية تعبيريّة للموسيقى، وخصوصاً إن كانت مستلهمة من شِعر محمود درويش. أخيراً، صدرت أسطوانة «في ظلّ الكلام»؛ المشروع الذي قدّمه الإخوة جبران أينما ذهبوا: في أربعين درويش في رام الله، وفي الناصرة، وقطر وفرنسا وطنجة...
نقف أولاً عند هذه التجربة كنوع لا يزال محصوراً في الجانب الاختباري: أن يتزاحم الشِّعر والموسيقى في طاقتيهما التعبيريّة. لكن أي فنٍّ يحاكي الآخر؟ هنا يقول شوبنهاور «كل الفنون تطمح إلى محاكاة الموسيقى»، خلافاً لما يحاول بعضهم الترويج له من أنّ الموسيقى ندٌّ للإلقاء. في ذروة الانفعال الشعريّ، يقبض الإخوة جبران على درويش في حالات نادرة، مطمئناً إلى صوته المُنهَك، حارساً لقصيدته المتأخرّة، ولموتٍ يشيّعه «زهرٌ فوضويّ اللون».
تتضمّن الأسطوانة 13 مقطوعة بدأت حكايتها من آخر أمسية لدرويش في «مهرجان آرل للشعر» في جنوب فرنسا، حيث شاركه سمير ووسام، في ارتجال موسيقي طغى عليه الإلقاء الشعريّ... هناك، قرّر الإخوة أن يسجلّوا عملاً مشتركاً، وكان أن رحل درويش، فتحوّل العمل إلى ذكرى. تبدأ «في ظلّ الكلام» بتمهيد: ما ستسمعه الآن لن يكون إلا مناسبة للحزن، لمَ لا والمقطوعة على أكثر المقامات الشرقيّة ضيقاً: الصبا؟ صوت درويش يبدأ في المقطوعة الثانية، من قصيدته الأخيرة «لاعب النرد»: «من أنا لأقول لكم ما أقول لكم/ وأنا لم أكن حجراً صقلته المياه/ فأصبح وجهاً/ ولا قصباً ثقبته الرياح/ فأصبح ناياً/ أنا لاعب النرد/ أربح حيناً وأخسر حيناً»... وصولاً إلى الذروة حيث «أَمشي/ أهرولُ/ أركضُ/ أصعدُ/ أنزلُ/ أصرخُ/ أَنبحُ...».

مناسبة للحزن على أكثر المقامات الشرقيّة ضيقاً: «الصبا»

يستمر صوت درويش في إلقاء «لاعب النرد» في المقطوعتين الثالثة والرابعة، ثم ينتقل سلسلاً من «يا حبّ هُبَّ علينا/ عواصفَ رعديّةً كي نصير إلى ما تحبُّ/ لنا من حلول السماويِّ في الجسديّ/ وذُبْ في مصبّ يفيض من الجانبين»، إلى قصيدة «دروس من كاما سوطرا» من ديوان «سرير الغريبة». هنا تتجلّى قدرة الإخوة جبران التعبيريّة. هكذا سينجحون في القبض على ذلك الحنوّ والطاقة الإيروتيكيّة الهائلة في القصيدة، كما لو كان طقساً أندلسيّاً مترفاً. وبسلاسة مرة أخرى، نعود إلى «لاعب النرد» في المقطوعة السادسة: «في الحديقة وردٌ مَشاع، ولا يستطيع الهواءُ/ الفكاكَ من الوردةِ».
وبعد أن يستعيد الإخوة مقطوعة «مجاز» من أسطوانة بالاسم عينه، يرجع درويش لقراءة مقاطع أخرى من «لاعب النرد»، وصولاً إلى «على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة»، من ديوان «ورد أقل»، وبمحاكاة لافتة من الإخوة جبران؛ فلا انفصال بين غنائيّة القصيدة، أو عنفوانها أو حتى الضعف في حنينها، وبين عزف الإخوة جبران. هنا التجربة مكتملة، لا تنافُر مع الإلقاء الذي يشبه إلقاء قصيدة «مديح الظلّ العالي»، بل استدراج ذكي للذروة.
عودة هنا إلى «لاعب النرد»، ثم إلى قصيدة «قافية من أجل المعلّقات» من ديوان «لماذا تركتَ الحصان وحيداً»، وصولاً إلى مقطوعة «سفر» وصوت درويش ينبعث من خلالها من «الجداريّة»: «هذا الهواءُ الرَّطْبُ لي/ واسمي -/ وإن أخطأتُ لفظ اسمي على التابوت -/ لي./ أَما أَنا - وقد امتلأتُ/ بكُلِّ أَسباب الرحيل -/ فلستُ لي./ أَنا لَستُ لي/ أَنا لَستُ لي..».
يقول درويش في حوار له «الإيقاع هو الذي يقودني إلى الكتابة. ومهما كان عندي أفكار أو صور، فهي ما لم تتحوّل ذبذبات موسيقيّة لا أستطيع أن أكتب... إني أبدأ من اللحظة الموسيقيّة إذاً...». لا أحد يعلم ماذا سيقول درويش نفسه عن هذه التجربة: القصيدة الطافحة بالغنائيّة، والموسيقى بالتعويل على تعبيريّة العود، أو فتنة الشِّعر بالموسيقى.