في 16 حزيران الفائت، صدر حكم عن محكمة جديدة المتنيتيح لأمّ لبنانيّة منح جنسيتها لأولادها القصّر من أب أجنبي متوفٍّ. لكنّ النيابة العامّة ما لبثت أن استأنفت الحكم بعد أقلّ من شهر. الحدثان ترافقا مع ردود فعل متفرّقة من أهل السياسة والمجتمع المدني، ممّا يطرح أسئلة تتعدّى مسألة حق اللبنانية في منح جنسيّتها لأولادها، إلى دور القاضي في النظام اللبناني

نزار صاغيّة*
بتاريخ 30-6-2009، أعلن النائب فؤاد السعد موقفاً غاضباً إزاء الحكم الصادر عن محكمة جديدة المتن (المؤلفة من القضاة جون القزي ورنا حبقا ولميس كزما) بشأن منح الأم اللبنانية جنسيتها لأولادها القصّر من أب أجنبي متوفٍّ. وقد بدا النائب كأنه لا يعرف أين يصوّب سهامه: فهو تارة يتناول القاضي بعبارات تنمّ عن ازدراء كبير، فهو فعل ما فعل لغايات سياسية في فترة الانتخابات وأيضاً لأنه يعشق السبق الصحافي. وهو طوراً يطعن في النيابة العامة التي تركت الأمر للقاضي، كما يطعن في السياسيين الذين يتركون المجال مفتوحاً أمام القاضي لتحقيق مآربه، وعلى رأسهم وزير الداخليّة زياد بارود الذي رفض استئناف الحكم، أو أيضاً النواب الذين يلزمون الصمت كأنّ شيئاً لم يحدث. ومن يقرأ بيان النائب السعد يشعر بأنّه في حالة هلع، في حالة استنفار: فهو يرى مخاطر لا يراها أحد سواه، تماماً كما تفرّدت كاهنة طروادة «كساندرا» في رؤية حريق المدينة. وهو يريد أن يوقظ همم الأمّة جمعاء لتعي خطورة ما يراه: ثمة قاضٍ اجتهد في تفسير النص! ثمة قاض تجاوز حرفية النص، فمنح أمّاً لبنانية حقّ منح الجنسيّة لأبنائها! يا للخطر الداهم! فإذا لم يوقَف هذا القاضي عند حدّه، سيتحوّل إلى فجوة في حصن المدينة، يتسلّل (وتعبير التسلّل هو للنائب السعد) منها الأغراب أبناء الأرحام اللبنانية (ومن وراء ظهر النظام المعارض للتجنيس) فينالون جنسية أمهاتهم!
وإذا جاء موقف وزير العدل إبراهيم نجار أقل حدة وأكثر اتزاناً، إلّا أنّه بالكاد يخفي استياءه من الحكم ومن كيل المدائح للقاضي: فالتغطية الإعلامية للحكم مبالغ بها (وهو استعادة لفكرة السبق الصحفي) ولا اجتهاد عند وضوح النص (وتالياً نفهم أن القاضي أخطأ وهو يستحق التأنيب لا الثناء)، والدولة قد «تضطر» بأية حال إلى استئنافه (بما ينزع عن الحكم مشروعيته بشكل كامل). وقد انعكس فعلياً هذا الاضطرار استئنافاً قدمته النيابة العامة، متجاهلة أنه سبق أن تركت الأمر لتقدير المحكمة!

مرجعيّة القاضي ليست النص القانوني بل قبل كلّ شيء مصلحة المجتمع
والواقع أنّ هذه المواقف المعلنة ـــــ التي تتناقض تماماً مع الترحيب الواسع الذي لقيه الحكم في الإعلام والمجتمع المدني ـــــ إنّما تؤول ليس فقط إلى المسّ بقضية المرأة وحقها في منح الجنسية (وهي القضية التي يركّز عليها الإعلام والجمعيات في تصديهما للخطاب) إنما في الوقت نفسه، وربما بدرجة أكبر، إلى ردع القضاء عن تقويم القوانين أو تفسيرها، خلافاً لرغبات النظام، مع ما يستتبع ذلك من تضييق لدوره ولمساحات التفكير القانوني.
وعلى هذا الأساس، سيتناول هذا المقال الموضوع من هذه الزاوية فقط. فهل يكون القضاء مجرد ناطق باسم السلطة، ضامناً لمشيئتها أم أن من شأنه أن يصبح منبراً، بل مسرحاً تُعرض أمامه القضايا الاجتماعية في صيغة قانونية على نحو يوسّع قاعدة التفكير القانوني ويمكّن المجتمع من أقلمة قوانينه بشكل مستمر على ضوء التطورات الحاصلة فيه؟ هذا ما سأتناوله أدناه.

القاضي خادم للقانون أم رائد اجتماعي؟

كما سبق بيانه، من الواضح أنّ غضب السعد يهدف إلى ردع القاضي عن الخروج عن الإطار التقليدي للوظيفة القضائية. فالقاضي هو خادم لنص القانون الذي حدّد بوضوح الحالات التي يمكن فيها الأم نقل الجنسية (وهي حالة الأم المجنسة لبنانية التي يتوفى زوجها الأجنبي وأولادها لا يزالون قصّراً).
وتالياً، لا مجال لتحليل هذا النصّ أو تفسيره على النحو الذي يجعله أكثر توافقاً مع المبادئ القانونية، كمبدأ المساواة مثلاً. وهذا الأمر يعني ليس فقط أن «لا اجتهاد عند وضوح النص» بل أيضاً أن لا اجتهاد حتى لو بدا النص الواضح بذاته جائراً أو غير قابل للفهم على ضوء المنظومة والمبادئ القانونية ككل. فللمشرّع وحده حقّ تعديل نصوصه، وله وحده حقّ تقويم مدى انسجام القوانين في ما بينها. أمّا القاضي، فهو خادم للنص الواضح وتالياً للسلطة التي تضعه. وإذا تماشى موقف السعد عموماً مع الموقف التقليدي للسلطة اللبنانية، وتحديداً مع موقف كبار القضاة، فإن حدّته توحي بأن النائب لا يكتفي بإعلان موقف أو رأي، بل يدعو النظام ككل إلى التحرك إلى ردع القاضي الذي تؤشر أحكامه إلى أن له فهماً آخر لوظيفته، إلى ردع القاضي لئلّا يتحول إلى مثال يحتذى من جانب أقرانه، وأهم من ذلك لئلّا يخرج الفهم الحديث للوظيفة القضائية من حيّز التابو إلى حيز المسائل القابلة للنظر.
ومن هذا المنطلق، تصبح الإساءة الخطابية إلى القاضي والطعن في مزاياه واستقلاليته أمراً ضرورياً، يزداد إلحاحاً بقدر ما يزداد الوهج الاجتماعي لحكمه: فالهجوم خير وسيلة للدفاع: وبدل أن يكون هذا القاضي مثالاً يحتذى به، عليه أن يصبح عبرة لمن اعتبر: وبدل أن يكون الترحيب الإعلامي مؤشر نجاح وعلامة قبول اجتماعي (قد يشجع قضاة آخرين على السير في مساره)، يقتضي إظهاره على أنه وصمة عار على جبين هذا القاضي الذي يعشق السبق الإعلامي خلافاً للمناقبيّة القضائية. ولا بأس في سياق كل ذلك من اتهامه بالتسييس منعاً لتضامن القضاة ذوي التوجّهات السياسية المغايرة من التضامن معه عملاً بمبدأ «فرِّق تسُدْ».
وانطلاقاً من ذلك، يظهر خطاب النائب بوضوح عمق المجابهة بين فهمين مختلفين للوظيفة القضائية:
- فهم تقليدي قوامه أن القاضي خادم لنص القانون وللسلطة التي تضعه، وأحياناً كثيرة، وباسم موجب التحفظ، شاهد زور على أعمالها. وهذا الفهم تتبناه السلطة بمعناها الوسع (السلطة السياسية وكبار القضاة الذين يتحكّمون في المؤسسات القضائية)،
- فهم حديث وقوامه أن للقاضي هامشاً واسعاً في تقويم القوانين وتفسيرها على النحو الأكثر ملاءمة للمصلحة الاجتماعية، وله تالياً دور رياديّ في تطوير القوانين وإعادة الانسجام إليها (وهذا ما حاول القاضي القيام به). وهذا الفهم يستند إلى مستلزمات الحياة الحديثة (تعقيدات الحياة الحديثة، وتسارع التطور الاجتماعي على نحو يعجز المشرّع عن اللحاق به، وحماية الأقليات إزاء تعسف الأكثرية) ولكن أيضاً إلى تطور وسائل عمل القاضي (تطور العلوم الإنسانية وآليات التأويل، تكريس مفهوم المبادئ القانونية كضابط للعمل التشريعي، تعدّد مصادر التشريع وعلى رأسها المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي تعلو القوانين). وبذلك، ودون أن يصبح القاضي حراً من أي قيد، فإن ولاءه ينتقل من المشرّع إلى المجتمع: فمرجعيته ليست النص القانوني إنما قبل كل شيء مصلحة المجتمع ومستوى وعيه والتي تمثّل المعايير الأساسية التي يجري على أساسها تفسير النص القانوني ومقارعته عند الاقتضاء، بسائر النصوص والمبادئ العامة التي تناقضه. وهذا ما حمل عدداً من أعلام التفكير القانوني في أوروبا (أبرزهم François Ost) إلى القول بأن القضاء يشهد تحولاً أساسياً في وظيفته منذ منتصف القرن العشرين مفاده الانتقال من وظيفة خادم القانون إلى وظيفة الرائد الاجتماعي مع ما يستتبع ذلك من تعديل جذري في منطلقاته ووسائل عمله، إحداها بالطبع التخلي تماماً عن مبدأ «لا اجتهاد عند وضوح النص» فلا نص يصمد بذاته أمام تطور المعايير والوسائل المشار إليها أعلاه. وهذا ما لحظه عدد من الفقهاء الفرنسيين الذين سجلوا أن محكمة التمييز الفرنسية أحجمت عن الإشارة إليه منذ عقود. ومن هذا المنطلق، يبدو صدور هذا الحكم، في فترة شهد فيها حق الرحم بمنح الجنسية نضجاً كبيراً على مستوى الوعي الاجتماعي (ندوات، اعتصامات، مشاريع قوانين)، أحد أبرز تجليات هذا الفهم الحديث للوظيفة القضائية.
ولعل أسوأ ما في هذه المواجهة بين الفهمين المذكورين، أنها تدور حتى اللحظة، ليس بشكل عقلاني فكري إنما بشكل سلطويّ قوامه الردع والإساءة وفرض الفهم التقليدي للوظيفة القضائية وكأنه أمر حتمي مسلّم به لا يمكن تصور ما يخالفه، مع ما يستتبع ذلك لجهة إبقاء الرأي الآخر في عداد الممنوعات التي لا يجوز حتى التفكير فيها.
وإذا مثّل خطاب النائب السعد مؤشراً إلى هذا الأمر، فإنّ الإمعان في عمل المؤسسات القضائية وفي أعمال وزارة العدل يظهر أن هذا الخطاب ليس سوى الجزء الظاهر من خطاب عام طاغٍ، خطاب عام يشتد قسوة بقدر ما تزداد مظاهر الممانعة حضوراً. ويكفي في هذا الصدد التذكير على سبيل المثال بتلويح وزارة العدل بالملاحقة المسلكية على خلفية نشر حكم قضى بنقل طفل من منزل والده صاحب الحضانة شرعاً إلى منزل والدته المطلّقة منه، عملاً بمصلحة الطفل الفضلى، وذلك بحجة الحؤول دون التعرض لصلاحية الطوائف (!!). بل بلغ بيان وزارة العدل إذ ذاك مستوى عالياً من القسوة قوامه التلويح باتخاذ عقوبات مسلكية، ليس فقط في حق القاضي الذي اتخذ القرار بل أيضاً بحق من سرّبه إلى الإعلام (10 تشرين الثاني 2007)!! وهنا، يلحظ القارئ، ومقارنةً بخطاب السعد، أن أعنف ردات الفعل على الأحكام القضائية تأتي بمناسبة أحكام آلت إلى تكريس حقوق الطفل والمرأة.

ثمّة من لا يريد للفهم الحديث للوظيفة القضائية أن يخرج من حيّز التابو إلى حيّز المسائل القابلة للنظر
وبالطبع، هذا الانحياز للفهم التقليدي للوظيفة القضائية (وهو بالمناسبة انحياز فكري لا يستند إلى أي نصّ صريح جازم) ليس بريئاً، بل هو يمثّل ترسيماً لحدود مبدأ فصل السلطات على نحو يوسع صلاحيات الطبقة السياسية على حساب القضاء، وتالياً تضييقاً لمجالات الخطاب القانوني إزاء الخطاب السياسي بما فيه من إقصاء وجمود. وهذا ما يسمح لنا بالانتقال إلى الفقرة الثانية.

تضييق المشاركة المجتمعية في تقويم القوانين وتطويرها

وهذا الأمر يتأتّى بشكل طبيعي عن تضييق الوظيفة القضائية. وإثباتاً لذلك، يكفي الإمعان في الأجواء المؤثّرة في الحكم (اعتصامات ومظاهرات وندوات ومشاريع قوانين لإقرار حق الأم بمنح الجنسية) ولكن أيضاً في انعكاساته (نشر الحكم وتعليقات عليه في مجمل وسائل الإعلام الرئيسية، إبراز القضاء ومرجعية القضاء بعد فترة من الأخبار الآيلة إلى نزع الثقة عنه، عدّه انتصاراً هاماً لقضية المرأة، تحفّز الأمهات الموجودات في الظروف نفسها للجوء إلى القضاء، بل نقل أخبار ولو على سبيل المداعبة بشأن رغبة بعضهن في نقل نفوسهن من منطقة إلى أخرى للاستفادة من توجّه القاضي، امتناع وزير الداخلية عن استئناف الحكم، تحفّز رئيسة لجنة المرأة والطفل زوين في إعادة تفعيل مشروع القانون المجمد في إدراج اللجنة في الاتجاه نفسه ألخ..).
وهذا إن دل على شيء، فعلى مستوى تفاعل يكاد يكون نموذجياً بين القضاء والمجتمع:
فالمجتمع هو في قلب القضاء، الذي يتأثّر حكماً في توجّهاته وتحركاته، فيأتي حكمه كنتيجة لبلوغ المجتمع مستوى من الوعي والنضج بشأن المساواة بين المرأة والرجل وتحديداً بشأن حق الأم بمنح الجنسية لأبنائها، الذي اجتاز مسافات خلال السنوات الماضية.
وإذا بدت الأم الفائزة بالحكم قبل صدوره كأنها لا تعلّق آمالاً كبرى على الدعوى، فهي اليوم (أقله قبل خطاب السعد) تكاد تكون الداعي الأول إلى لجوء قريناتها الى القضاء لترسيخ المكسب المذكور. واذا جهدت الجمعيات سابقاً في «اللوبيينغ» بما يشبه حملة علاقات عامة بالقرب من السياسيين بهدف تعديل القانون بعيداً عن المحاكم، فإنها بنتيجة الحكم، تبدو كأنها تعيد النظر (على الأقل هي مدعوّة إلى إعادة النظر) في استراتيجياتها، ولا سيما لجهة تعزيز الرهان على مسرح القضاء، كخير مسرح لعرض قضاياها الاجتماعية. فـ«تتسلّل إليه» (الأمهات والجمعيات على راية النائب سعد) مدعمة بأحدث ما وصل اليه الفكر القانوني، فتقول ما تقوله، وترد عليها الدولة بما لديها من دفوع، مع ما يستتبع ذلك من حراك مجتمعي بارز، محوره الخطاب والمنطق القانونيان. وليس من المضمون بالطبع أن تنتزع الأمهات والحركة النسائية الجنسية في مجمل الدعاوى التي قد تتقدم بها (فالقاضي الناظر في الدعوى ليس دائماً رائداً ولا دائماً مقتنعاً بالقضية كما أن ضمانات استقلاليته منقوصة قانوناً)، ولكنها بالتأكيد، تنتزع أمرين يميزان تحركها قضائياً عن أي تحرك آخر: فهو التحرك الوحيد الذي يلزم الدولة الإعلان عن موقفها منه من خلال المحاكمة، وهو التحرك الوحيد الذي يتوجه إلى سلطة رسمية (القاضي) تكون ملزمة بإجابته أو رفضه بقرار معلّل قانوناً.
ويكفي لإدراك أهمية ذلك، مقارنته بمواقف السلطة التنفيذية إزاء المطلب ذاته: فهي إما تصمّ آذانها أو تقول الشيء ونقيضه (مشروعا القانون الموجّهان من وزارة الداخلية) أو تركُن إلى البيروقراطية تمييعاً للمسؤولية ومعها للقضية (الامتناع عن وضع المشروع على جدول أعمال اللجان النيابية أو مجلس الوزراء) أو تعلل مواقفها على نحو غير قانوني (اقتراح نعمة الله أبي نصر بإضافة بند التعامل بالمثل دون التنبه إلى أن حق منح الجنسية يتوجه إلى مواطنات لبنانيات وأن البند المذكور يتصل فقط بالحقوق الممنوحة للأجانب، إلخ..). علماً أن هذه هي حال السلطة التنفيذية في مجمل القضايا الحساسة، التي يبقى القضاء عملياً المرجع الرسمي الوحيد القادر للنظر فيها. فمن منا لا يذكر حكم مارسيل خليفة الصادر في موازاة تجنب السلطة اتخاذ أي موقف يبدو موجهاً ضد دار الإفتاء (القاضية غادة أبو كروم)؟ ومن منا لا يذكر حكم حاطوم بشأن إعلان الخطف جرماً متمادياً غير قابل للعفو في ظل إغفال السلطة لهذه القضية بهدف طي صفحة الماضي (القاضي الراحل جوزف غمرون)؟ أو أيضاً مواقف القضاة المشرفة لجهة استبعاد النص القاضي بترحيل اللاجئ في لبنان لتعارضه مع المادة 14 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومع معاهدة منع التعذيب التي تمنع ترحيل شخص إلى بلد قد يتعرض فيه للتعذيب؟ أو أيضاً مواقف القضاء بشأن منح المرأة الأجيرة التعويضات العائلية لدى صندوق الضمان الاجتماعي عملاً بمبدأ المساواة نفسه الذي تجرأ الحكم موضوع هذا المقال فاستشهد به؟
وبالطبع، موقع القضاء كمسرح يزداد أهمية ومشروعية على قدر ما يكون القاضي مستقلاً وقادراً على التوسع في تأويل النص. فعلى قدر ما يكون القاضي كذلك، على قدر ما يتحفّز المواطن على اللجوء إليه، وعلى قدر ما يتحفّز المحامي على تطوير خطابه القانوني وعلى قدر ما يتحفّز الإعلام على متابعة القضايا وإفراد مساحات واسعة لها لما فيها من إثارة وإشكاليات intrigue . فبذلك يصبح القضاء مسرحاً للآراء على تنوعها ومختبراً ريادياً للحلول وتالياً الباب الأكبر لاقتراح قوانين انطلاقاً من مشاكل واقعية ويصبح القانون (الذي استوردناه أو نقلناه أو كتبناه دون تفكر أو حماية لبعض المصالح) مجتمعياً حياً وليس مجرد نص جامد. وهذا هو تحديداً ما أراد النائب فؤاد السعد كبحه ليبقى النص جامداً على صورة النظام الذي وضعه.
بقي أن نذكر لمن نسي أن النائب فؤاد السعد هو نفسه الذي استبقى تقرير اللجنة المكلّفة تحديد مصير المفقودين في إدراجه طوال سنوات، صامّاً آذانه عن أي مطالبة، بما يمثّل إحدى أبرز الإهانات للناس نزولاً عند مقتضيات السياسة. فهل من يشك بعد في نبوءات الكاهنة كساندرا؟
* محامٍ وباحث في القانون