يعود التغيير في المجتمعات، بحسب علماء الاجتماع، إلى تضافر عوامل عدّة، يختلف وزن كلّ منها في التأثير، تبعاً للشروط الخاصة بالمجتمع المعني. ويقع العامل الديموغرافي في مقدمة هذه العوامل، إذ يرى إميل دوركهايم أنّ الكثافة السكانية تُحدث كثافة معنوية، تشحذ الهمم في الابتكار وتحسين الإنتاج، لتلبية الاحتياجات الناجمة عن النمو السكاني، وذلك عبر تقسيم جديد للعمل، يُحدث بدوره تغييراً في بنية المجتمع نفسه. فأسباب التغيير، بحسب البعض، هي التقدم التقني في الإنتاج أو البنية التحتية الاقتصادية التي تفرض تغييراً في بنية العلاقات في المجتمع. ولا يختلف الأمر بالنسبة إلى العامل الثقافي، المتمثل بالأيديولوجيا أو الدين الذي درسه ماكس فيبر في تأثير البروتستانتية على نشوء الرأسمالية. لكن، ثمة تغيير عرفته بعض المجتمعات، من نوع خاص وذو مهابة ومكانة خاصة، نظراً لمفاعيله التي تضرب بعيداً في المستقبل، إنه الثورة.لا شك في أنّ العالم العربي يعيش لحظات مفصلية في تاريخه. إنّها لحظات استراتيجية خاصة. لحظات ثوروية، تمثّل قمة الزمن الفاصل بين مرحلتين مختلفتين تماماً. الأولى: ما قبل؛ وهي معروفة بسماتها القمعية باسم القضية المقدسة أو الحق الإلهي. والمرحلة الثانية: ما بعد؛ وهي تختلف كلياً عن الأولى، ويمكن تلمّس ملامحها من خلال قراءة متأنية لتوالي الأحداث الحاصلة في كلّ من تونس ومصر، وليبيا واليمن وتداعياتها على المجتمعات العربية. مجتمعات ستغيّر جذرياً، بلا شك، وجه العالم العربي في المستقبل القريب.
وإذا كانت وسائل الإعلام تستخدم كلمة ثورة في وصف ما يحصل من حولنا في العالم العربي، فإنّنا سنتريث في إطلاق هذه الصفة، لسبب منهجي هو أنّنا لا نزال في قلب الظاهرة أو الواقعة الاجتماعية التي لم تكتمل. ظاهرة يفترض ألّا تخضع للدراسة السوسيولوجية قبل اكتمال مسارها، فهي في طور التكوّن، فضلاً عن أنّ مفهوم الثورة استخلص من الثورات التاريخية الكبرى التي اتصفت بالعنف، خلافاً للتحركات السلمية التي نعيشها اليوم. لذا سنستخدم تعبير التحرك الشعبي لوصف ما يحصل، والتغييريين للإشارة إلى «الثوّار». لذلك، نرى أنّ ما سنورده ليس إلا ملاحظات أولية تخدم دراسات مستقبلية محتملة، وهي إجابات مؤقتة عن أسئلة مباشرة يطرحها الموضوع.

الإعداد للتحرّك

استفاد الشباب من تكنولوجيا الاتصالات المتطورة في الإعداد لتحركهم السلمي في إطار حقهم الدستوري بالتظاهر وحرية التجمع والتعبير. والحقيقة أنّ إعداداً آخر كان يجري على مستوى الواقع وفي الأذهان، في قلوب الناس وعقولهم ووعيهم السياسي، سواء كان ذلك بنحو واع أو غير واع، في سلسلة من النضالات الجزئية ومن الاضطرابات والأفعال التي تبدو كأنّها غير مترابطة. فالتحرك الشعبي هو نتيجة ذلك التراكم التدرجي من النقد والاستياء من الطبقة الحاكمة أو الحاكم الفرد المستخف بعقول الناس، المتلاعب بأعمارهم ومصائرهم قبل أن يتحكم بلقمة عيشهم ومستقبل أولادهم. وهذا ما أنجزته أحزاب المعارضة في المجتمع العربي، والتنظيمات والشخصيات المبعدة أو المطاردة من النظامين الليبي والتونسي.

الفاعلون ومسار الأحداث

أطلق التحرك الشباب، أو مجموعة «الفايسبوك»، مدفوعين بشحنة ثورية وباقتناعات فكرية تكوّنت من ثقافة العصر. ثقافة حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية واحترام الحريات العامة ومبادئ التمثيل الشعبي، وليس من موقف إيديولوجي مسبق. يحمل هؤلاء الشباب مشاعر عالية النبل في التضحية والإخلاص لقضية التغيير.
معظمهم ينتمي إلى الطبقة الوسطى، والاستثناءات قليلة جداً. ولعل أبرز مكامن قوتهم أنّهم لا يهدفون إلى الاستيلاء على السلطة، بل التغيير في السلطة. وبعدما استوثقت الأحزاب السياسية في مصر من جدية الشباب، تبنّت تحركهم وانضمّت إليهم أحزاب المعارضة والشخصيات الوطنية، بهدف المشاركة أو الوصول إلى السلطة، ثم التحق بهم جمهور تلك الأحزاب وصولاً إلى عامة المواطنين. وألّفوا معاً أمانة عامة، تضم كلّ الأطراف في مجلس قيادة ميداني، يدير المعركة في ما يشبه الديموقراطية المباشرة، نظّمت فيها الاختلافات من دون أن تخرج إلى العلن. ولم تفلح محاولات التفريق بينهم بالإيحاء للشباب بأنّ الأحزاب ستفاوض عنهم. وبقيت الأحزاب السياسية في خلفية الصورة، ولم تتقدم على الشباب، وإن بدا أحياناً، ولوقت قصير، أنّها ستفاوض نيابة عنهم، لكن سرعان ما تبدّد هذا الشعور.
انحازت المؤسسة الدينية الرسمية إلى السلطة، لكن سرعان ما خرج أئمة المساجد، وبعض رجال الدين، عن إرادة المؤسسة الدينية الرسمية، والتحقوا بصفوف الشباب. وكان للمساجد دورها المهم في حشد الجماهير: الخطب والتجمع في المساجد قبل التظاهر، الصلاة في الساحات، وإقامة الصلاة في مواجهة محاولات تفريق المتظاهرين، صدور فتاوى دينية داعمة للمحتجّين، الحشد في أيام الجمعة من كل أسبوع. يشير كلّ ذلك إلى حضور الدين عنصراً مساعداً في التحركات. وكان دور حركة الإخوان المسلمين، في خلفية المشهد، فعالاً في حماية المتظاهرين من الشرطة أو البلطجية، وتأمين الجانب اللوجستي للاعتصام في ميدان التحرير، وسياسياً إعلانهم الصريح بعزوفهم عن الترشح لرئاسة الجمهورية، وعدم السعي للحصول على أغلبية في مجلس النواب، وتحديد سقف للمقاعد التي سيسعون إليها. ولم يختلف الأمر كثيراً في المشهد التونسي مع حزب النهضة المحظور.
أما الجيوش، فلم تعد العصا الغليظة للسلطة في مواجهة قوى التغيير، وبدلاً منها، طوّرت الأنظمة الحاكمة أجهزة قمعية بديلة. ففي مصر أكثر من مليون شرطي، مقابل أقل من نصف مليون جندي في الجيش. وفي تونس، تعززت الشرطة وجهاز أمن الدولة. أما في ليبيا، فقد هُمّش الجيش الوطني وأُضعف لصالح الكتائب الأمنية بقيادة أبناء القذافي، وطوّر سلاح الطيران لمهمات أفريقية.
هكذا تحددت، في ضوء موقف الجيش، نتائج النزاع بين شرعيتين؛ السلطة والتغييريين، شرعية السلطة المطعون فيها والشرعية الشعبية (الثورية) على أن الشعب مصدر السلطات. وكما في كلّ النزاعات، يحسم الطرف الثالث النزاع، كما حصل في تونس ومصر واليمن، بينما غرقت ليبيا في حرب طاحنة بعد انقسام القوات المسلحة. وإذا كان الجيش التونسي قد أقنع الرئيس بن علي بالخروج بهدوء، كان الجيش المصري أكثر صبراً على الرئيس مبارك، وعبّر في البيان الرقم (1) عن موقفه الوسطي، وفي البيان الثاني أدّى الناطق العسكري التحية لدماء الشهداء (تعظيم سلام)، من دون أن يحيي الرئيس، وبذلك أشار إلى الانحياز لميدان التحرير. فهل يكون كلّ هؤلاء الكتلة التاريخية التي تُحدث التغيير، وفق غرامشي؟
ولا بد هنا من الإشارة إلى البنى المجتمعية المساعدة على التغيير أو المعوقة له. فقد لاحظنا أنّ التحركات الشعبية نجحت في المجتمع المديني الأكثر تقبلاً للتغيير، إذ إنّ الانتماء الوطني فيه هو الغالب على حساب الانتماءات الأولية كالقبيلة والعشيرة والمذهب، كما في البحرين واليمن وليبيا؛ خلافاً لمدن مصر وتونس وصنعاء وشرق ليبيا، مع ملاحظة خصوصية الغرب الليبي من الأقليات العرقية من البربر والطوارق والنبو، حيث يسود الحذر من انتقام قاس للسلطة.
يبدأ التحرك عادة عقب حادث بسيط يصبح كالقشة التي تقصم ظهر البعير، فتدور الأحداث على غير المتوقع. وككرة الثلج، تتوالى الصدامات وتلتفّ الجماهير تدريجاً حول النواة الجديدة المتكونة، وتعمّ حالة من الغليان الشعبي، في زمن تزداد حرارته، فيكون الإنسان جامعاً بين أنبل المشاعر في التضحية والفداء من أجل التغيير، وأكثرها قسوة وعدائية تجاه السلطة المستبدّة.
تنطلق الشرارة من ذلك الحادث العرضي، ويعمّ الاستياء مما حدث. تتسع رقعة اللهب من حادث يفترض أن يمر عابراً، كعشرات الحوادث المشابهة السابقة، لكن الأمور تدور على غير ما يتوقع الجميع، وتصبح المواجهة حتمية بين طرفين هما: التغييريون والسلطة.
ترى السلطة في الحدث شغباً، فتعمد إلى معالجته كالعادة بالقمع، فيزداد التغييريون تصميماً على المواجهة والتحدي، ويستشعرون القوة في تجمُّعهم، ويلقى فعلهم استحساناً، لا بل إعجاباً وتشجيعاً من المحيطين بهم، فتتجدد العزيمة، لمزيد من الاعتراض والمواجهة.
نجح المحتجّون في تصعيد التحرك تدريجاً، مما حافظ على قدراتهم. فهم لم يلعبوا كلّ أوراقهم دفعة واحدة، بينما كانت السلطة تقدم تنازلات شكلية. وكلّ تنازل كان يؤكد نجاح التحرك، فتتعزز الآمال، ويصبح النصر أقرب، ويزداد المحتجون عزماً وإصراراً.
وبالمقابل، هنالك ردود الفعل الخرقاء للسلطة باستخدام القمع والبلطجة (وقنابل المولوتوف ومعركة الجمال والخيل)، وسحب الشرطة من الشارع وإطلاق المساجين ووضع الشعب أمام خيارين: الدكتاتورية او الفوضى وانعدام الأمن. فكانت اللجان الشعبية في الأحياء لحمايتها.

الشعارات والرموز

قد تكون الشعارات والرموز حاسمة في بعض الأحيان، كتحديد الخصم بدقة على أن يكون الشخص الذي يجسد عيوب النظام ومفاسده. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الرموز المتمثلة بالشهداء أو استحضار أسماء المناضلين من التاريخ، أو الأماكن كالساحات والميادين التي تطلق عليها أسماء متصلة بأهداف التحرك، كالحرية والتحرير والتغيير أو الثورة. فضلاً عن الأهازيج التي تلهب المشاعر الشعبية، والنوادر التي تمجد الشباب وترذل الحكم والحكام.
حتى تظهر النتائج النهائية لهذه التحركات، يمكن وضع عدد من الملاحظات. فقد اكتشفت الشعوب العربية، وخاصة بعد إطاحة رأس النظام التونسي، أنّ الشعوب أقوى من حكامها، وكسر حاجز الخوف من السلطة، الى الأبد. كذلك اكتشفت الطليعة الشبابية قوة الحركة السلمية في وجه عنف الأنظمة، وحجم التأييد الشعبي والتعاطف العالمي مع الحركات السلمية. بالإضافة إلى ذلك، انتقلت العدوى ـــــ المثال التونسي ـــــ إلى البلدان العربية الأخرى، مع مراعاة الخصوصية الوطنية في كلّ تحرك. ويمكننا أن نستنتج أنّ الصراع في المجتمع ليس طبقياً بالضرورة، وإن كانت طليعة التحرك من الطبقة الوسطى، فإنّها تواجه شريحة هجينة من تحالف السلطة وبعض رجال الأعمال الذين أثروا على حساب المال العام. وفي ما يتعلق بالخارج، فتدّخله، في كلّ من الحالتين التونسية والمصرية، لم يكن متاحاً، رغم الأهمية الاستراتيجية لموقع مصر في قلب الشرق الأوسط والصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، لأنّ أيّ تدخل كان سينعكس سلباً على المتدخّلين.
ختاماً، يجب ألّا ننسى أنّ الشباب والقوى المؤتلفة معهم، ينتمون إلى أيديولوجيات متباينة، لكن تجمعهم الرغبة في التغيير، كما تجمعهم ثقافة العصر في نبذ العنف، واحترام كرامة الإنسان وحقه في الحرية والعدالة والمشاركة في صنع المستقبل.
* رئيس الجمعية اللبنانية لعلم الاجتماع