الرياض | يمكن وصف المرحلة التي تعيشها البحرين حالياً بـ«المكارثية»، وهي بطبيعتها مرحلة «كارثية»، حيث يضرب الجنون الأمني ضربته لكل من يتحرك على غير هواه. هناك «مخطط إرهابي» يستهدف البحرين، ويحاول القضاء على قطاعاتها الاقتصادية والاجتماعية وتدمير أمنها واستقرارها بالتحريض ونشر «ثقافة الغدر» والتآمر المُخزي على الوطن. هكذا تختصر العقيدة الأمنية تشخيصها للأزمة في البحرين، ثم تتفتق عقول صقور النظام عن الحل الخلاصي الذي يُطبَّق ليقود البلاد والعباد إلى الهاوية.في ظل الأزمة التي تعيشها البلاد، يرى أصحاب القرار أنّ على تلفزيون البحرين الحكومي أن يكون مبدأ المشهد الإعلامي ومُنتهاه، وهو الذي لا يختلف كثيراً عن بقية تلفزيونات الأنظمة العربية القمعية في الكذب غير الاحترافي وتشويه المحتجين المطالبين بحقوقهم، وفبركة مشاهد «التخريب» و«حيازة الأسلحة» مرفقة بتحليلاتٍ تستفز كل ذي عقل. لكنه يجد رواجاً أكثر من أقرانه في بيئة خصبة ومعبأة طائفياً تتلقف أكاذيبه لتوظيفها في السجال الطائفي المستعر خليجياً. لذلك، يواصل لعبه على الوتر الطائفي الذي لا يجد غيره سبيلاً لنشر دعاياته بين الجماهير.
بالإضافة إلى الاحتقان الطائفي في الخليج، يساعد تلفزيون البحرين غياب القنوات الفضائية المؤثرة ذات الثقل عن تغطية المشهد البحريني. تغيب «العربية» بالتأكيد، وتتبعها «الجزيرة» (مع وجود تغطية مميزة للجزيرة الدولية!)، ويبقى وجود «بي بي سي» العربية والإعلام الأجنبي مشكلة للنظام. لكن ما العمل مع وسائل إعلام أجنبية غير اجتراح المزيد من الأكاذيب؟ وحتى لو اعتُدي على مراسل «أي بي سي»، يمكن مواجهة ذلك بتكذيب من وزير الخارجية نفسه.
المزعج حقاً على المستوى المحلي وجود بقايا من رأي آخر وصحافة مهنية وموضوعية في تغطيتها للأحداث. الإعلام البديل مثّل متنفساً ووسيلة لمواجهة أكاذيب الإعلام الرسمي، ومعه صحيفة اسمها «الوسط» أرادت أن تكون موضوعية في تغطيتها وأن تنقل الحقيقة كما هي، وتفسح المجال لرأي آخر غير رأي الحكم وإعلامه، علماً بأنّها آخر صحيفة مستقلة في البلاد بعد احتجاب «الوقت» في أيار (مايو) 2010 وسيطرة الطبلة الحكومية على بقية الصحف البحرينية.
هنا، أدرك أصحاب العقلية الأمنية القمعية أنّه لا يمكن الاكتفاء بالكذب وحده، وأن المطلوب تسيّد الكذب الساحة من دون إزعاج المستقلين والمعارضين. هكذا، بدأت حملة اعتقالات للمدونين لتَسْتَكمِل اعتقال المعارضين السياسيين، ثم جاء الدور على «الوسط» (راجع المقال أدناه) لفرض سيطرة كاملة على الجو الإعلامي في البلاد.
إنها حالة «السلامة الوطنية»، وهي اسم خفيف الظل لحالة الطوارئ المفروضة في البحرين. وهي أيضاً اسم معبّر عن طبيعة الحالة المراد فرضها من وجهة نظر النظام؛ إذ إنّ سلامة الوطن أولوية، والوطن هو النظام نفسه وأركانه الكبار. ومن ينتقد النظام ويعارضه، يعرّض سلامة الوطن للخطر. لذلك، لا سلامة له، ولا لرأيه وفكره وصوته، فيكون قمعه واجباً وطنياً وإنجازاً أمنياً يستحق الاحترام والتقدير. وهكذا يسلم «الوطن» من شرور الفاسدين والمخربين الذين خرجوا على «الثوابت» الوطنية التي هي ألف باء العقيدة الرسمية واللغة الإعلامية لأنظمة القمع العربية: الوطن يُختزل في شخص، ولا عزاء للشعب.
ليس الغريب أن يُقدِم النظام على ما أقدم عليه من كمّ للأفواه وإسكات لصوت الصحافة الحرة وخنق لحرية التعبير. لكن الغريب تصفيق زملاء المهنة وتهليلهم لهذا الفعل القمعي والمشاركة في احتفال مثير للغثيان على تلفزيون البحرين رددوا فيه اتهامات للصحيفة بالفبركة وأداء دور في «المخطط الإرهابي» ونشر الفتن، باعتبار أن نشر ما يضر النظام ويفضح ممارساته القمعية بحق أفراد شعبه إرهاب وفتنة.
رؤساء تحرير «أخبار الخليج»، و«البلاد» و«الأيام» استنكروا سلوك «الوسط» المُشين وتهجموا على (زميلهم؟) رئيس تحرير الصحيفة منصور الجمري الذي أقيل أمس. أقاموا محاكمة تلفزيونية للصحيفة وأصدروا الأحكام، ثم تحدثوا عن إجراءات قانونية، لا من باب التحقيق في الأخبار التي وردت في الصحيفة، بل من باب تأكيد معاقبة الصحيفة الخارجة عن العمل الصحافي المدجن الذي أراده النظام.
يمكن الاختلاف مع منصور الجمري وصحيفته، التي ـــــ في المناسبة ـــــ اختلفت مع المعارضة نفسها في فترات ماضية، ولم يشفع لها ذلك في حالة «السلامة الوطنية». وكذلك يمكن أن تكون لـ«الوسط» أخطاؤها المهنية التي لن تكون أشنع من الجرائم التي يرتكبها الإعلام الحكومي بحق المهنية والموضوعية، لكن مفاهيم العمل الصحافي والإعلام الحرّ تقتضي التضامن مع الصحيفة، وإن كانت مختلفة في توجهاتها وآرائها؛ لأن في ذلك انحيازاً لمبدأ حرية التعبير. غير أن هذا المبدأ لم يمر على رؤساء تحرير الصحف المدجّنة ولا على رئيس جمعية الصحافيين عيسى الشايجي (وهو نفسه رئيس تحرير «الأيام») الذي هاجم الصحيفة بدلاً من الدفاع عن حقوق زملائه في التعبير عن آرائهم.
جنون النظام يزداد، ويدفعه إلى ضرب المعارضة وحتى «الوسط». لا يريد أن يسمع غير صدى صوته. هو مرعوب من الكلمة الحرة، يظن أنّه بإسكاتها تخمد الروح الاحتجاجية على قمعه. لكن للكلمة طبيعة لا يفهمها الطغاة، فكلما ضربوها ازدادت وهجاً.



«الوسط الأصلي»؟

خلال اليومين الماضيَين، كان موقع «تويتر» الأسرع في نقل آخر التطورات المتعلقة بجريدة «الوسط». هكذا نشر خبر إيقافها عن الصدور، ثمّ رصد أبرز ردود الفعل الرسمية والإعلامية، ليعود وينشر بصغية الخبر العاجل إقالة رئيس التحرير منصور الجمري وتعيين عبيدلي العبيدلي مكانه. هنا فتح نقاش من نوع آخر، عن التنازلات التي سيقدمها رئيس التحرير الجديد. كذلك لم يتردّد البعض في الدعوة إلى مقاطعة الصيغة الجديدة من الصحيفة «إذا اتّضح أنها تخلّت عن المطالب المحقّة للمحتجين». أما على موقع «فايسبوك»، فقد أنشئت صفحات ومجموعات عدة للتضامن مع الجريدة البحرينية. وطالب بعض قرّائها بإنشاء موقع «الوسط الأصلي» المنفصل عن الجريدة، إذا ما غيّرت هذه الأخيرة سياستها التحريرية. وهو ما يذكرنا طبعاً بموقع «الدستور الأصلي» الذي أسّسه إبراهيم عيسى بعد إقالته من صحيفة «الدستور» المصرية.