في مقال عن السياحة في «مصر ما بعد الثورة»، أراد صحافي الـ«وول ستريت جورنال» أن يقنع الأميركيين بالتوجه الآن إلى مصر لقضاء عطلة، فأغراهم بالقول إن «عدد السياح لا يزال قليلاً جداً، وزحمتهم أخفّ بكثير، وكلّ شيء أرخص من قبل... والناس يعانقونك ويرحّبون بك قائلين: أهلاً بك في مصر الجديدة». الإدارة الأميركية لم تنتظر دعوة أو إعلاناً جاذباً كي تعود إلى مصر، بعد سقوط نظام حسني مبارك، على قاعدة «خسرنا حليفاً لكننا لم نخسر البلاد». أرض مصر الجديدة باتت قِبلة أكيدة، لا للسياح الأميركيين، بل لفريق سياسي ـــــ اقتصادي وضّب حقائب مليئة بالعقود والعروض والمشاريع ورؤوس الأموال، وتوجّه مباشرة إلى بلد الـ80 مليون «محرَّر».
وإذا كان يمكن السياسة أن تُطبخ على نار هادئة، فإن الحفاط على مصالح ما قبل الثورة وحجز المشاريع الجديدة في مصر ما بعد التغيير لا يحتملان أيّ تأجيل. وها هي الولايات المتحدة، التي تردّدت في احتضان «ربيع مصر» منذ أشهر، تقرّر أن تكون أوّل من يرعى أزراره وأفضل من يقطف ثماره.
أدركت الولايات المتحدة أنه لا مجال لتضييع الوقت، وأنه سرعان ما ستزدحم الساحة المصرية بالعروض الاستثمارية والمشاريع العربية والغربية، فسارعت إلى التحرك على المستوى الرسمي، كي تفتح عهداً جديداً من المصالح المشتركة التي ستواكب خطتها السياسية، في بلدان لم تركّب أنظمتها بعد. مصالح ما بعد الثورات لم توفّر تونس التي، حسب الخطة الأميركية المستحدثة، ستكون أيضاً أرضاً خصبة لاستقبال «الرعاية الأميركية» الاقتصادية والسياسية.
هيلاري كلينتون لم تتوجّه إلى القاهرة لتبارك للمصريين إنجازهم وتحتفي بحريتهم. هي أرادت أن تقول للنظام الجديد ـــــ مهما كان شكله ـــــ إن أميركا هنا وتريد أن تشارك في الحصة الأكبر من مستقبلكم. في ١٥ آذار الماضي، حطّت كلينتون في ميدان التحرير حاملة كلاماً منمّقاً و«مساعدات» بـ١٥٠ مليون دولار أميركي لـ«دعم مصر في مرحلتها الانتقالية». فريق مؤلّف من رجال أعمال ومديري مصارف وتجار ومقاولين وممثلين عن شركات إلكترونية ورموز من جمعيات المجتمع المدني، انتقلوا ـــــ بقيادة كلينتون ـــــ من القاهرة إلى تونس. وفي العاصمة الخضراء: الخطاب المنمّق نفسه وعقود اقتصادية ومصرفية وتكنولوجية، وتفويض «جنود» المجتمع المدني «حماية الثورة ومواكبة الانتقال».
وإذا كان النقاش بشأن حجم الدور الأميركي في اندلاع ثورات شمال أفريقيا لم يقفل بعد، فإن الدور الذي تريد إدارة أوباما أن تؤديه في المرحلة المقبلة بات أمراً محسوماً. البعض سمّاها «خطة مارشال شمال أفريقيا»، مع استبدال شعار «إعادة الإعمار» بعنوان «حماية الديموقراطية». والبعض الآخر شبّهها بالهجمة الأميركية على دول أوروبا الشرقية بعيد انهيار الاتحاد السوفياتي. لكن الأكيد هو أن شبكة سياسية دبلوماسية اقتصادية بدأت تنسج لـ«احتواء» التغيرات في المنطقة، وتعزيز الوجود الأميركي في دول ما بعد الثورة.
مصر «أمّ الدنيا»، قالتها هيلاري كلينتون بالعربية، خلال مؤتمرها الصحافي في القاهرة. اضطرّت وزيرة الخارجية الأميركية إلى أن تنطق بلغة «الإرهابيين» كي تسوّق ما جاءت من أجله. وها هي تفصح في ما بعد عن بعض ما طرحته وناقشته مع نظيرها المصري نبيل العربي: ٩٠ مليون دولار هو المبلغ الذي أعدّّته الإدارة الأميركية على شكل «مساعدة فورية وطارئة» للاقتصاد المصري. لكن كلينتون أشارت إلى مبالغ أخرى ـــــ يصل مجموعها إلى نحو ١٥٠ مليون دولار ـــــ ستصرف لإعادة إنعاش الحياة الاقتصادية في البلاد، «ودعم الخطط الانتقالية نحو نظام جديد». الوزيرة الأميركية تعمل أيضاً على إنشاء صندوق دعم أميركي ـــــ مصري «لتلبية الحاجات المصرية بطريقة سريعة». كلينتون ركّزت في عرضها على توفير فرص العمل للشباب المصري، فطرحت خططاً ترتكز على توفير قروض وتسهيلات مالية للمستثمرين الشباب وأصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة. طبعاً تلك القروض سيوفرها بنك «الاستيراد والتصدير الأميركي»، ودعم المشاريع الخاصة ستوفره مؤسسة أميركية تدعى Overseas Private Investment Corporation (OPIC)، وقد حضرت مديرتها شخصياً ضمن المجموعة المرافقة لكلينتون. «سنشجّع الاستثمار في القطاع الخاص، لأنّ النمو الاقتصادي في مصر على المدى البعيد لن يعتمد على الوظائف الحكومية، بل على القطاع الخاص». شرحت كلينتون للحضور الرؤية الأميركية للاقتصاد المصري في المستقبل القريب والبعيد.
وإضافة إلى البحث في الدين العام، وتشجيع تصدير المنتجات المصرية إلى الأسواق الأميركية، وتمويل مشاريع مدنية، لم يفت الإدارة الأميركية أن تهتم بأحد القطاعات العزيزة على قلبها، وهو الأمن، إذ أعلنت وزيرة الخارجية أن بلادها ستسهم في إعادة بناء قوى أمنية فاعلة، وشرطة «يثق بها الشعب المصري».
«جئت لأنصت أكثر مني لأتكلم. جئت أطّلع مباشرة على حاجات مصر، وخصوصاً الاقتصادية، لأن الكلّ يعلم أن أي إصلاح سياسي يجب أن يرافقه إصلاح اقتصادي»، صارحت الوزيرة مستضيفيها.

لتونس خطتها

وفي تونس، العرض الأميركي لم يختلف كثيراً. بعد لقائها بوزير الخارجية التونسي، المولدي الكافي، خرجت كلينتون لتعلن للتونسيين استعداد الولايات المتحدة وجهوزيتها لمساندة شعب تونس الحرّ واقتصاده بـ«مئات ملايين الدولارات». وبعد كيل المديح للثوار وما أنجزوه، وتهنئة الشعب التونسي بجهوده للوصول إلى الديموقراطية، جاء دور الحديث عن جوهر الزيارة وهدفها الأصلي: كيف ستسهم الولايات المتحدة في بناء اقتصاد تونس الجديدة... ونظامها السياسي.
ما لم تلمّح إليه كلينتون في مصر، جاهرت به في تونس. ففي القاهرة، تقصّدت الوزيرة تمويه إجابتها عن رأيها في الاستفتاء الشعبي لتعديل الدستور، الذي جرى في 19 آذار الماضي، كذلك تكتّمت على أي مساهمة أو رؤية للمستقبل السياسي في مصر. لكن في تونس كان الأمر مختلفاً، إذ أفصحت وزيرة الخارجية عن مشاركة بلادها في دعم إجراء انتخابات حرّة ونزيهة، والاستعداد لإجراء دورات تدريبية على كيفية تأليف الأحزاب السياسية، وإعداد المرشحين للمشاركة في الحياة السياسية وللانتخابات... «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» USAID، إلى جانب وكالات أميركية أخرى، ستقوم بمعظم مهمات الدعم، كما أعلنت كلينتون. أما شركة «مايكروسوفت» التي حضر ممثلوها في فريق العمل المرافق، فقررت دعم «كل المجموعات التي تعمل على تفعيل حقوق الإنسان والديموقراطية والتربية المدنية»، وذلك عبر مدّهم ببرامج الكمبيوتر الخاصة بالشركة وتنظيم دورات تدريبية عليها. أسس مشاريع دعم القطاع الخاص والاستثمارات الصغيرة والمتوسطة الحجم سوّقت في تونس أيضاً، مع اعتماد المبدأ نفسه والمصارف ذاتها التي أُعلنت في زيارة القاهرة، لتمويل تلك المشاريع عبر القروض... والشعار هو «خلق فرص عمل للشباب التونسي».
«الوضع في مصر وتونس هو أشبه بالشرب من خرطوم إطفاء، أي هناك الكثير الكثير مما يجب تحقيقه»، هكذا عبّرت الوزيرة كلينتون عن «غزارة» المشاريع التي يجب تنفيذها في البلدين، وعن الفرصة الذهبية أمام الولايات المتحدة الآن.

أوروبا وبريطانيا

الاتحاد الأوروبي، رغم عجزه المالي والإداري، يصرّ على ركوب موجة الاستثمارات وحجز مكان له في الأسواق الربيعية الجديدة. لكن المبادرة الأهم التي أعلنت، لغاية اليوم، والتي لا تزال قيد الدرس، هي إنشاء مصرف أوروبي شبيه بمصرف إعادة الإعمار والإنماء الذي خصص لدول أوروبا الشرقية بعد انفصالها عن الاتحاد السوفياتي. توماس ميرو، رئيس European Bank for Reconstruction and Development (EBRD)، عبّر عن استعداد مصرفه لإنشاء فرع جديد لـ«الاقتصاد والسياسة الانتقالية في مصر والبلدان المجاورة». ميرو يقول لـ«واشنطن بوست» إن «الديموقراطيات العربية الحديثة تعاني من مشاكل دول أوروبا الشرقية ذاتها: قطاع خاص ضعيف، وأعمال متوسطة وصغيرة الحجم، وبنى تحتية فقيرة».
أما بريطانيا، فبهدوئها المعتاد، اختارت حصّتها وبدأت بالتنفيذ. رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، كان أول قائد يزور مصر بعد سقوط نظام مبارك. زيارة رسمية للقاهرة لحقتها أخرى للكويت مع وفد مؤلّف من 8 أشخاص، اتضح لاحقاً أنهم ليسوا سوى ممثلين عن 8 أكبر شركات للسلاح في بريطانيا. وعندما سئل كاميرون عن سبب وجود تجار أسلحة في وفده الرسمي المرافق «طمأن» إلى أن «كل عقود الأسلحة التي نوقّعها مع الدول العربية تترافق مع وعود من قبلها بعدم استخدام السلاح ضد شعوبها».



دافعو الضرائب مستاؤون


داخلياً، لم تلق خطط «دعم الديموقراطيات العربية الحديثة» تأييداً كبيراً ممن اطّّّلع عليها من المواطنين والصحافيين. ومبلغ 150 مليون دولار رنّ في آذان الأميركيين، الذين لم يسلموا بعد من تبعات أزمتهم المالية، فعلت صرختهم مستهجنين «تبذير أموال دافعي الضرائب». انهالت الانتقادات على المبالغ المالية الضحمة التي خُصصت للمشروع الأميركي الخارجي، والبعض لم ير فيها سوى «محاولة أخرى لشراء أنظمة عربية ـــــ دمى ستشتري لاحقاً كميات كبيرة من الأسلحة الأميركية والأوروبية والإسرائيلية الصنع». بعض المعلّقين استهجنوا «استخدام أموال الشعب الأميركي، في هذه الفترة العصيبة، لمحاباة بعض الأنظمة وتلميع صورة إدارة أوباما في الخارج».