من يجُل في طرابلس ويراقب تحركات عناصر الجيش وأداءهم، يدرك أنّ عنوان «الضاحية الشمالية» بات واقعاً على الأرض. مقاربة «التوازن في السلاح» في مقابل سلاح حزب الله، التي نظّرت لها مجالس سياسية قبل أسبوع بدأت تتحقق. الأحزاب استقالت من ميادين طرابلس، والقوى الإسلامية هي من يتحكّم في لعبة «التوازن المسلّح».
السلفيون والإسلاميون يُحكمون قبضتهم على أحياء طرابلس، والجيش يكتفي بالتفرّج. مطلع الأسبوع الماضي، كانت آليات للجيش تمرّ على جسر أبو سمرا، حيث أقام مسلّحون حاجزاً أمنياً. تمرّ بأفراد الحاجز وتكمل طريقها وكأنّ الحاجز تابع لجهاز في الدولة. يوقف الجيش مجموعة مسلّحين بلحى كثّة وعباءات طويلة وأسلحة رشاشة. بعد ساعتين يطلق سراح المجموعة.
مشايخ سلفيون يؤكدون هذه الوقائع، ويشددون على أنّ الجيش وعناصره (والكلام كان قبل مقتل الشيخ أحمد عبد الواحد أمس) «ليسوا أعداءً». هذا هو واقع الأرض في طرابلس. واقع ينظر إليه السلفيون على أنه «الحد الأدنى» المفترض أن تكون عليه الأمور. ما يصبون إليه، بحسب بعض المحيطين بمشايخ السلفيين، هو ضمان السيطرة على المدينة، «للحد من مظلومية أهل السنّة»، لكن، أيضاً، لما تعنيه طرابلس جغرافياً لـ«الثورة السورية»: الحديقة الخلفية للحراك السوري، ولحمص تحديداً.
المعادلة باتت واضحة: أمن طرابلس من أمن حمص والعكس صحيح. إنها المدينة الأهم بالنسبة إلى «الثوار» في حمص، التي تمدّهم بالسلاح والعتاد وربما بالمقاتلين. هذا ما لا يقوله السلفيون والإسلاميون علناً، لكنه ما يمكن تلمّسه في مجالسهم ونقاشات العارفين بشؤونهم.
مشروع «الضاحية الشمالية» يخفي وراءه الكثير من الأفكار التي تعجّ بها مجالس السلفيين وغيرهم في المدينة: طرابلس منطقة عازلة لتحرّك «الجيش السوري الحرّ».
المشروع يتطلّب الكثير من العمل. أولاً ينبغي التفكير في كيفية إلغاء أيّ صوت معترض على مشروعهم. بمعنى آخر: تطهير المدينة من أي وجود معادٍ، حتى من أطراف مسلحة تأخذ موقف الحياد. أي إنّ التطهير لن يقتصر فقط على «الأطراف السنية المتحالفة مع حزب الله، بل سيجرف معه أيضاً كل مجموعات الشوارع التي يقودها مشايخ الشباب».
إنه شعار «الحسم» الذي تحدث عنه أحد المشايخ السلفيين، قبل أيام، بالدعوة الى «فقء الدمّلة»، بما يسهّل مشروع «الضاحية الشمالية» ومن ثم «المنطقة العازلة».
القوى السلفية، التي لا تمثّل سوى 5 إلى 7 في المئة من المجتمع الطرابلسي، بحسب مسؤولي تيار المستقبل، تبحث عن الحسم. الخطوط العريضة لسيناريو التنفيذ باتت واضحة، وتتطلّب أولاً «توحيد القرار السلفي».
من يتابع المشهد السلفي في طرابلس يدرك أنّ هذه القوى تمهّد، منذ أسابيع، لحركة ما تنطلق منها لتنفيذ مشروعها. هذا التمهيد نص بالدرجة الأولى على تقديم شخصية قيادية حاضنة، قوية ومؤثرة، تمثّل رمزاً للقوى السلفية، ويمكنها استقطاب أهالي المدينة. من أفضل من الشيخ سالم الرافعي رمزاً الحركة السلفية؟ خطبه نهار الجمعة باتت تلقى تأييداً واسعاً وتطوّراً واضحاً، ويزداد عدد التابعين نتيجة إتقان الرجل فن المخاطبة، إضافة إلى تمتّعه بكاريزما تميّزه عن غيره من «أصحاب الهمروجة» الذين لا تعلق عباراتهم في أذهان الحاضرين.
الشيخ الرافعي، رمز التحرّك، مهمّته متابعة الأحداث والنقاشات وإدارتها مع المعنيين بالشأن السلفي. هو الواجهة السياسية التي لن يتمكّن أحد من اتّهامها بالتخريب، وهو بدأ «يملأ هذا المكان، إذ يترأس اجتماعات المشايخ ولقاءاتهم».
على الأرض، ثمة مجموعة أخرى من القياديين غير العلنيين والظاهرين في الاجتماعات وفي الإعلام. يمثل هؤلاء القيادة الميدانية التي «ستعمل على تنفيذ المشروع». وهي، بحسب المعلومات المتوافرة، تضمّ ثلاثة رؤوس أمنية متمكّنة أمنياً، هم:
ــــ أولاً، القيادي العلني في تيار المستقبل، عميد حمود، الذي يتبرّأ في كل لحظة من أي عمل ميداني، فيما يشير العارفون إلى ضلوعه وضلوع أحد أقاربه في توزيع «حاجيات القتال» على عدد من محاور باب التبانة.
ــــ ثانياً، ضابط كبير في «الجيش السوري الحرّ»، يؤكد السلفيون ومعارضوهم، وجوده في طرابلس، مع العلم أنّ مجموعات من «الجيش الحرّ» تنتشر على نحو شبه علني في أحياء في باب التبانة، وقد شاركت في إشعال الجبهة مع جبل محسن.
ــــ ثالثاً، الرجل الأهم أبو ياسر السوري، الرجل الأقدر على التنظيم بين السلفيين في مدينة طرابلس. وهو سوري الأصل ومجنّس يحمل الهوية اللبنانية. يقول عارفوه إنّ خبراته «الكبيرة» تجعل منه «أخطر منظمي المجموعات المسلحة في لبنان». شارك مع الإخوان المسلمين حربهم ضد النظام السوري في حماه عام 1981، ثم لجأ إلى طرابلس حيث وجد في حركة التوحيد ملاذاً يمكنه متابعة نشاطه من خلاله. بعد خسارة التوحيد طرابلس وتمدّد اليد السورية فيها، غادر المدينة الى مخيّم عين الحلوة ثم إلى خارج لبنان، ثم عاد إثر خروج الجيش السوري في نيسان 2005. وهو يعمل اليوم على تأمين المساعدات للنازحين السوريين، ويدير مكتباً للخدمات الاجتماعية، باسم «جمعية البشائر».
تحت قيادة هذا الثلاثي القوي المتمكّن من ضبط الميدان، تتردّد في المجالس السلفية أسماء عدة تتميّز أيضاً بقدرات أمنية قوية مثل حسام الصباغ، الذي تولى تنسيق المجموعات التي كان ينبغي أن تناصر «فتح الإسلام».
بعد إتقان الرمز والقيادة الثلاثية الميدانية لمهمّاتها، المشروع بحاجة إلى «عوامله التجييشية»، بحسب ما يقول المتابعون. هذا التجييش سينجح بفعل استمرار الاعتصام وسط ساحة النور، الذي يتردّد إليه معظم المشايخ لحشد الشبان وتوجيههم، لكن يمكن التجييش أن يرتقي إلى أعلى مستوياته بفعل أحداث مستجدة مثل قتل الجيش الشيخ أحمد عبد الواحد.
ويبقى العمل الميداني الأساسي الذي سبق أن أجريت بروفا له في طرابلس، وهو قطع أوصال المدينة. فالمجموعات المسلّحة، وخلال الاشتباكات الأخيرة، نجحت في تقسيم طرابلس إلى أربعة مربعات انطلاقاً من ساحة النور. ونجحت هذه البروفا خلال ساعة ونصف ساعة سيطر خلالها المسلحون على الأرض على نحو كامل، «من دون أيّ تدخّل للجيش».
يذهب متابعو تفاصيل الأوضاع الطرابلسية إلى القول إنّ «المدينة مرتبطة بالثورة السورية»، يضيفون: «مرتبطة بكل منفذ يمكن الثوار السوريين الاستفادة منه لاستكمال قتالهم النظام». ليست هذه الخلاصة وليدة الملاحظات الجغرافية التي سجّلها المتابعون فقط، أو نتيجة تتبّعهم الاتصالات القائمة بين المعارضين السوريين في البقاع والشمال اللبناني والداخل السوري.
طرابلس نقطة محورية لدعم المقاتلين في سوريا عبر الحدود الشمالية والبقاعية، ويشير المتابعون إلى أنّ مؤشرات أمنية وقضائية تؤكد ترابط مجموعة من الأحداث: التحقيق مع المواطن الأردني الموقوف، عبد الملك عبد السلام، ومن ثم توقيف شادي المولوي، مع تسلّم لبنان من سوريا لبنانيين وسورياً ضالعين في خطف الأستونيين السبعة في 23 آذار 2011. يقول أصحاب هذه الرواية إنّ «عملية خطف الأستونيين، استخدم مالها من قبل تنظيم جهادي، أو تنظيم القاعدة تحديداً، لتمهيد الأرضية لعدد من مجموعات الثورة في سوريا». يضيفون إنّ لهذه الأحداث الثلاثة مرجعاً قطرياً «ينشط أيضاً على صعيد دعم المجموعات السلفية في طرابلس وعناصر الجيش السوري الحرّ الموجودين فيها».