هنا شمال لبنان. لم تعد وادي خالد وقراها أو عرسال وجرودها ولا حتى مشاريع القاع كافية لتكون موطئ قدم لمجموعات المعارضة السورية المسلّحة. غاص هؤلاء في العمق اللبناني أكثر، فباتوا يتنقّلون بحريّة في طرابلس الفيحاء كأيّ لبنانيّ. يحملون أسلحتهم الفردية معهم من دون أن يعبأوا بأجهزة أمنية أو غيرها. هنا يشعر المسلّحون السوريون بأمان «الحاضن الوفي». بدأ ذلك منذ أُعلنت عاصمة الشمال «مدينة الثورة السورية».
هنا أبو سمرا في طرابلس. قبل أيام، نفّذت قوة من استخبارات الجيش عملية دهم في أحد الأماكن القريبة من مستشفى الزهراء لتوقيف أحد الأشخاص، بعد الاشتباه في كونه يلاحق ضابطاً من الجيش على خلفية ثأرية. أوقف المشتبه فيه، فتبين أنه السوري يامن النجّار، المعروف بـ «أبو علاء» عند مدخل المستشفى، لكن المسألة لم تنته عند هذا الحدّ. فقد أعقبها اشتباك بين قوّة من استخبارات الجيش ومجموعة سورية مسلّحة، تدخّل مسلّحون لبنانيون لمناصرتها، وأدّت إلى سحب المشتبه فيه من آلية تابعة لدورية الجيش وتهريبه. وبنتيجة المتابعة، تبيّن أن المطلوب السوري ناشط في تهريب السلاح الى المجموعات المسلّحة. وذكرت المعلومات الأمنية التي جُمعت عنه أنه أحد الذين شاركوا في المجازر التي حصلت في سوريا، مشيرة إلى أنه يحتفظ على هاتفه الخلوي بمشاهد لعمليات الذبح التي نفّذها، علماً أن مصادر المعارضة السورية نفت لـ «الأخبار» مشاركته في أيّ أعمال عسكرية، لكنها أكدت أنه أحد أبرز الناشطين في صفوف مقاتلي المعارضة السورية. ولفتت إلى أن «أبو علاء» يعمل مهندساً وهو أحد أبرز عقول التكنولوجيا لديها.
في أبو سمرا أيضاً. وقع استنفار متبادل بين مسلحين تابعين لـ «حركة التوحيد الإسلامية»، وآخرين تابعين لأحد مسؤولي تيار المستقبل في طرابلس قبل أيام. الاستفزاز تطوّر إلى إطلاق نار، أعقبه انتشار قرابة ثلاثين عنصراً ينتمون إلى «الجيش الحر» في الشارع إلى جانب مسلّحي مسؤول المستقبل. الظهور المسلّح لهؤلاء استدعى تدخّل لجنة الأهالي والأحياء في المنطقة التي طلبت منهم عدم الخروج بأسلحتهم. كذلك شاركت القوى الإسلامية في تطويق الحادثة بعدما أوصت هؤلاء بعدم الظهور المسلّح العلني مجدداً.
وفي أبو سمرا أيضا وأيضاًً، تحوّل مستشفى الزهراء إلى قاعدة لـ «الجيش السوري الحر»، إذ يحرس هذا المستشفى ثلاثة شبان يحملون أسلحتهم على نحو ظاهر.
هنا جبهة التبّانة ـــــ جبل محسن. النقطة الأكثر سخونة شمالاً. المكان الذي لا يمكن أن يشهد الشمال توتّراً ما من دون أن يشارك ولو في معركة صغيرة فيه. الجبهة التي يصفها سوريون معارضون وموالون للنظام بأنها النسخة المصغّرة عن المعركة الكبرى في سوريا. وعلى سبيل المقارنة، يشبّه هؤلاء جبل محسن «المنضبط» في هيكلية يرأسها رفعت عيد، بسوريا النظام الذي يرأس هيكليته الرئيس بشار الأسد. في مقابله، تقف التبّانة التي تضم مجموعات مسلّحة عديدة، للتشدد الإسلامي فيها الغلبة. وإسقاطاً يشبّهها الطرفان بمناطق المعارضة السورية التي تنتشر فيها عشرات المجموعات المسلّحة التي تفتقد الرأس أو القائد، فيما للمسلّحين الإسلاميين فيها الكفّة الراجحة على باقي الأطراف.
على هذه الجبهة، وبالتحديد خلال الأحداث الأخيرة، شارك قرابة خمسين مسلّحاً ملثّماً ذوي لهجات سورية في المعركة التي حصلت. المحور هذه المرة كان «البقّار». وفي معلومات خاصة لـ «الأخبار»، ذكرت مصادر معارضة أن هؤلاء قدموا خصيصاً لـ «تأديب العلويين». وأشارت المصادر نفسها إلى أن «نصرة إخوانهم في التبّانة واجب ديني في مقابل جبل محسن».
وفي طرابلس أيضاً، يتنقّل قادة من «الجيش السوري الحر»، تحت حماية شخصيات سياسية لبنانية، للتنسيق من أجل نقل الجرحى والسلاح. وتؤكد المعلومات أن هؤلاء يتنقّلون حاملين معهم أسلحتهم الفردية بذريعة أنهم تعرّضوا سابقاً لأكثر من «محاولة خطف من جهات موالية لحزب الله»، كما تشير المعلومات نفسها إلى أن قيادياً بارزاً في قوات المعارضة السورية، من ذوي الميول الإسلامية المتشددة، رُصد أكثر من مرة يتنقل في سيارة تحمل لوحة مجلس النواب، بمواكبة سيارة تحمل على متنها مسلّحين. الوقائع الميدانية تُثبت أن الشمال اللبناني تحوّل قاعدة خلفية لمقاتلي المعارضة السورية. كل ما سبق ذكره، أثبتته التحقيقات التي تجريها الأجهزة الأمنية، لكن، رغم ذلك، فإن أيّاً من القيّمين على هذه الأجهزة لم يعد يجرؤ على توقيف أي قائد من المعارضة السورية المسلحة، لافتقادها جميعاً الغطاء السياسي.