في الـ86 من عمره، يتحدّث «المايسترو» كلوفيس الحاج عن عصر ذهبيّ عاشه بين كبار الفنانين «يللي سافروا ع بكّير». هو الذي يغنّي بأكثر من 10 لغات لا يشعر بالظلم «وقد أخذت حقّي وزيادة»، مبدياً اعتزازه بأولاده وأحفاده الذين يسيرون على الدرب نفسه
جوانّا عازار
«غنّيت في رام الله، في القدس، والله يطعمكم زيارة الأراضي المقدّسة لتروا أين سار السيّد المسيح». الكلام للمايسترو كلوفيس الحاج الذي لا يزال في كامل نشاطه، فتجده يغني في أحد مطاعم جبيل، رغم أنه في السادسة والثمانين من العمر.
يتذكر، في منزل ابنه سليم رفيقه في الغناء في بلدة عمشيت حيث يقيم منذ ثلاثين عاماً، حياته المهنيّة الحافلة، بدءاً من عمله في إذاعة بيروت ـــــ لبنان عندما كان فرداً من رعيلها الأوّل، مروراً بعمله في إذاعة الشرق الأدنى وفلسطين من رام الله التي كان يديرها الفنان حليم الرومي، كلك أسّس إذاعة الجندي اللبنانيّ وكان المذيع الأوّل فيها.
«لا شيء يدوم في هذه الدنيا، أتذكّر الماضي وأتحسّر على غالبية الذين أعرفهم والذين سافروا ع بكّير»، يقول الحاج بحسرة. ويروي: «بدأنا العمل في إذاعة الشرق الأدنى سنة 1948. كنّا نسجّل على سطح المبنى الكائن عند آخر خطّ القطار في الحمرا، فكان «الهوا» فوق السطوح، وكان الفنانان حليم الرومي وتوفيق الباشا يديران الفرقة الموسيقيّة».
في ذلك الوقت، لم يكن الناس يميّزون بينه وبين الفنان وديع الصافي «لشدّة الشبه بيننا»، يقول، ما كان يسبب مواقف طريفة. كان ذلك بعدما خفض وزنه الذي وصل في مرحلة من المراحل إلى 120 كيلوغراماً. يضحك عندما يتذكر: «كنت اللبنانيّ الوحيد في الأوركسترا الفرنسية التي كانت تحيي ذكرى 14 تموز، خلال هذه الاحتفالات التي كان يحضرها الجنرال الفرنسي شارل ديغول، كنت أراقب النساء اللواتي كنّ يرتدين الفساتين الملوّنة بألوان العلم الفرنسي. ولأن وزني آنذاك كان 120 كيلو، لم يجدوا لي بذلة تناسبني سوى واحدة عائدة لكولونيل فرنسيّ، فأجبرتهم بذلك أن يؤدّوا لي التحيّة».
يحنّ الحاج إلى تلك الأيام، عندما لم يكن عنده «لا نهار ولا ليل، كان الليل مع النهار». يضيف عندما نسأله عن الوقت الذي كان يخصّصه للتمارين الموسيقيّة: «لم يكن يهمّنا الوقت، كنت في الخمسينيات من أفراد فرقة موسيقية غربية بقيادة المايسترو Albahari Marco وكنت مغنّي اللغات الغربية فيها، وكنت كذلك رئيس فرقة «لوس دورادوس» الفنيّة وكنّا نتمرّن باستمرار من دون أن نشعر بالملل أو الكلل».
يعزف كلوفيس على آلات عدّة غربيّة وشرقيّة، الأحبّ منها إلى قلبه الغيتار والسكسوفون. يلحّن ويغنّي بلغات عديدة، منها الإسبانيّة، البرتغاليّة، الإيطاليّة، الألمانيّة، الروسيّة، اليونانيّة والأرمنيّة، فضلاً عن الفرنسيّة، الإنكليزيّة والعربيّة. يقول إنه كان أول من عرّب الموسيقى الغربية ومنها مثلاًmon amour Viva espagna وغيرها، وأنه أيضاً أوّل من أدخل برنامج الأغنية الراقصة في إذاعة لبنان الرسميّة، وقد كان إضافة الى ذلك ينظم الشعر الذي يعشقه.
«عشت العصر الذهبيّ»، يقول. «عاصرت كبار المؤلّفين والمطربين والملحّنين، مثل: توفيق الباشا، فيلمون وهبي، زكي ناصيف، فيروز والأخوين الرحباني، ملحم بركات، صباح، إيلي الشويري، حليم الرومي، أنطوان زابيطا، جوزف فاخوري، إحسان المنذر، نصري شمس الدين وغيرهم من الكبار». كذلك قدّم حلقات تلفزيونيّة فنية، منها حلقات ليالي الأندلس، أفراح الغروب ووطني لبنان. وشارك في التمثيل في أفلام تلفزيونيّة وسينمائيّة، منها «عيسى العوام» مع الممثّل أكرم الأحمر ومع عمر الزين. ولا ينسى الإشارة إلى أنه، في تلك الأيام، «كانت الظروف صعبة وخصوصاً في غياب التقنيّات المتوافرة اليوم».
ويتذكّر المايسترو مسرحيّة شارك فيها على مسرح الأونيسكو، حلّت فيها الفنانة صباح ضيفة شرف وغنّت موّالاً رافقها فيه عازف الناي سركيس باسيم، «أذهلت الحضور يومها»، يقول. ويشير إلى أنّ كثيرين غنّوا من أعماله، ومنهم فيروز، أحلام، سعاد الهاشم، جوزف ناصيف... هو الذي علّم أيضاً الكثيرين، منهم جوليا بطرس، وكان له حضوره في المهرجانات الموسيقيّة، ومنها مهرجانات جبيل التي ساهم فيها مع فرقته الموسيقيّة في أواخر الثمانينيات والتسعينيات.
يحتفظ الحاج بأرشيف خاصّ يوثّق أكثر من سبعين عاماً أمضاها في عالم الفنّ، وممّا يحتفظ به نسخة عن برنامج بثّته محطة الإذاعة اللبنانيّة، وفيه على سبيل المثال ليوم الأحد 28 كانون الثاني سنة 1951 غناء لفيروز وكلوفيس الحاج، بثّ عند الساعة الثامنة والربع، وأخرى إعلانات لحفلات ينظّمها في مناطق لبنانيّة عديدة، فضلاً عن صور بالأسود والأبيض توثّق فترات عاشها بحبّ وخاض غمارها بشغف.
عن أيّام «العزّ»، يقول المايسترو «ضيعانو لبنان، حقّاً إنّ لبنان Paradis (جنة)». وربّما لذلك رفض مغادرته والاستقرار في الخارج رغم العروض التي تلقّاها للسفر إلى البرازيل وفرنسا. «عشت الكثير من الأيام الحلوة... يا ليت الشباب يعود يوماً»، ثم يستدرك: «حصلت على كدسة نياشين وقد كرّمتني نقابة الموسيقيّين وغيرها».
«أخذت حقّي وبزيادة، ومش فرقاني معي، وأنا اليوم وفي عمر الـ86 لا أزال أمارس هوايتي المفضّلة ولا أزال أغنّي، فهذا ربحي في الحياة. لديّ أربع بنات وثلاثة شبان يخوضون غمار الموسيقى، الشعر والفنّ». وهل أنت راضٍ عن كلّ ما يقدّم اليوم في عالم الفنّ؟ يجيب: «أقدّر الجيّد من الذي يقدّم اليوم، إلا أنني أرفض الخطأ أينما حلّ وكيفما كان».
ربما يمكننا القول «ابن المايسترو مايسترو»، فسليم احترف الموسيقى كوالده، وتخصّص بها. بل إنه يكرّر كلام أبيه: «أعتبر أنني عشت، كوالدي، العصر الذهبيّ، فأنا لست غريباً عنه». مضيفاً: «كبرت على سماع أخبار الماضي وتنفّست روح تلك الفترة، وخصوصاً أن والدي صديق لي أيضاً. أمضي أوقاتاً طويلة معه وهو لا ينفكّ يتحدّث بالتاريخ الموسيقيّ، وأنا أستمتع بأخباره وأحفظها وأردّدها».
بدوره، الحفيد كريستيان، تخصّص بالعزف على الغيتار. كما تخصّصت شقيقته كريستيل بالعزف على السكسوفون. عدا عن ذلك فإن العائلة تعطي الدروس الموسيقيّة في المعهد الموسيقي في مدرسة ليسيه عمشيت. «أنا فخور بهم، هم يكملون المشوار بخطى ثابتة» يقول عنهم المايسترو باعتزاز.


بطاقة هوية موسيقية

ولد المايسترو عام 1923 في بلدة دير القمر. درس في مدرسة المخلّص في بيروت وبدأ مشواره الفنّي في عمر الـ14. تتلمذ موسيقياً على يد الأستاذين وديع صبرا وبرتران روبيار. حاز دبلوماً في العلوم الموسيقية وتخرّج من المعهد الموسيقي والأكاديميّة اللبنانيّة حيث علّم الموسيقى في الأخيرة، بالإضافة إلى المعاهد الكبرى.