لم يتعدَّ الإيحاء بإيجابيات طرأت على التفاوض المحيط بتأليف الحكومة، وتوقع إبصارها النور هذا الأسبوع، لكونه محاولة يصفها بعض المراجع المعنية بأنها جدّية. إلا أن وصولها إلى خاتمة سعيدة للتأليف غير مؤكد، بمقدار ما هو غير مستبعد. وكانت المسافة التي قطعتها جهود الرئيس المكلف نجيب ميقاتي مع مفاوضيه، وكذلك مساعي شقيقه طه ميقاتي لدى القيادة السورية، وهو زارها أمس، بلغت الاتفاق على حكومة ثلاثينية، سياسية مطعّمة بوزراء تكنوقراط، حدّدت أحجام القوى الممثلة فيها في فريق ميقاتي وحلفائه المستقلين، وفريق 8 آذار.آل اتفاق الأحجام أيضاً إلى موافقة الرئيس المكلف على توزير مَن تحفّظ عن ضمّهم إلى حكومته في بداية مراحل التأليف، كالمعارضة السنّية، من غير أن يتخلى عن رفضه توزير فيصل نجل الرئيس عمر كرامي، والقبول بتوزير الحزب السوري القومي الاجتماعي بعد امتناع. رفض إعطاء مقعد أرثوذكسي لرئيس الحزب أسعد حردان، ولم يمانع في اقتطاع مقعد للحزب من حصة غير مسيحية، يُرشّح له عن أحد المقاعد الشيعية الثلاثة لحزب الله علي قانصوه أو صبحي ياغي.
وأمكن ميقاتي أخيراً تحقيق الشرط الذي بدا في الأيام الأولى من التكليف وهمياً ومستحيلاً، في ظلّ إصرار الغالبية الجديدة حينذاك على السيطرة على نصاب الحكومة الجديدة، وهو تأليف حكومة ائتلافية بينه وحلفاءه بمَن فيهم رئيس الجمهورية ميشال سليمان، وبين قوى الغالبية. فلا توصف الحكومة الجديدة بحكومة حزب الله أو حكومة قوى 8 آذار برئاسة ميقاتي، بل يترأس الأخير حكومة متوازنة الحجم بين قطبيها، كي يؤكد ما كان قد تعهّد به في مجالسه الخاصة، من أنه لن يرأس حكومة بشروط قوى 8 آذار.
لكن الحصيلة التي انتهت إليها الاتصالات المباشرة وغير المباشرة بين الرئيس المكلف والغالبية النيابية، أفضت إلى تسليم قوى 8 آذار أخيراً بحصول ميقاتي وحلفائه على الثلث +1، وحرمانها تالياً ممّا تشدّدت في التمسّك به وهو وضع ثلثي مقاعد الحكومة بين يديها، بغية التحكّم بالمواضيع الأساسية التي توردها المادة 65 من الدستور التي يتطلب التصويت عليها ثلثي مجلس الوزراء.
ورغم موافقة حزب الله على هذا المخرج، لا يزال الرئيس ميشال عون غير مقتنع بهذه التسوية، ويفضّل حصول الغالبية على الثلثين لإبقاء المبادرة في يديها. لم يمانع في تقليص حصة تكتّل التغيير والإصلاح من 12 وزيراً يطالب بهم إلى 10 وزراء، شريطة وضع نصاب الثلثين في صف الغالبية كي يكون لانتصار قوى 8 آذار منذ إطاحة حكومة الرئيس سعد الحريري أكثر من مغزى.
تركز موقفه باستمرار على العبارة الآتية: يجب ألا نُواجَه بثلث معطل.
وتبعاً للتفاهم الأخير، لن يُوضع الثلثان في أي فريق. يحصل رئيس الحكومة على حصة تضم أيضاً وزيري رئيس الجمهورية والوزراء الثلاثة لرئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط، كي تساوي الثلث +1. في المقابل تنال قوى 8 آذار الحجم الذي تمثّله في مجلس النواب، وهو النصف +1، من مقاعد الحكومة. فترسو المعادلة، المتوقعة في نهاية المطاف، على 19 وزيراً للغالبية و11 وزيراً لمَن يصفهم ميقاتي بالمستقلين.
انطلق الفريق المؤيد في الغالبية هذا المخرج بغية استعجال إنهاء إحدى العقبات الرئيسية في طريق التأليف، وهي توزيع النصاب على فريقي الحكومة، من معطيات:
أوّلها، أن الصلاحيات الدستورية لرئيس مجلس الوزراء، وأخصّها استقالته التي تطيح الحكومة ودعوته مجلس الوزراء إلى الانعقاد ووضعه جدول أعمال مجلس الوزراء، تجرّد الثلثين من قوة الحصول عليهما، وهي تعطيل انعقاد مجلس الوزراء أو فرض التصويت في المواضيع الرئيسية المنصوص عليها في المادة 65. يكفي رئيس مجلس الوزراء استخدامه إحدى الصلاحيات الثلاث تلك كي يجعل من إرادته الموجّه الفعلي والحتمي لجلسة مجلس الوزراء.
من دون رئيس مجلس الوزراء لا يلتئم مجلس الوزراء، وينفرط عقد التئامه متى انسحب من الجلسة، ومن دونه لا يمكن رئيس الجمهورية توجيه الدعوة إلى انعقاد مجلس الوزراء، ولا يسع نائب رئيس مجلس الوزراء توجيه الدعوة إلى الجلسة أو ترؤسها بلا اتفاق مسبق مع رئيس مجلس الوزراء صاحب الصلاحية الدستورية الحصرية بذلك، غير المستعد في كل حال ـــــ الآن أكثر من أي وقت مضى ـــــ لتجيير صلاحية كهذه لسواه، فضلاً عن أنه مَن يضع جدول أعمال مجلس الوزراء. فلا يُفرض بند استثنائي في جدول الأعمال من خارجه بلا موافقته مسبقاً.
هكذا يصبح الجدل في عدد المقاعد التي تحصل عليها الغالبية غير ذي جدوى، في طبيعتها الدستورية وفاعليتها. في ظلّ قوة تلك الصلاحيات يصبح الـ20 وزيراً كـ 18 وزيراً أو 17 وزيراً.
ثانيها، لأن الغالبية النيابية لا تستطيع إرغام رئيس مجلس الوزراء على ما لا يريده، إلا أن في وسعها الحؤول دون إرغامه إياها على ما لا تريده. هنا تكمن مفارقة نصاب النصف +1 وأهميته.
ما تحتاج إليه قوى 8 آذار لممارسة تأثيرها في مجلس الوزراء، هو السلاح نفسه الذي تمسك به في مجلس النواب، أي الأكثرية المطلقة التي تمنع البرلمان من الالتئام ومن التصويت على أي قرار أو مشروع قانون أو اقتراح قانون ما لم يتوافر نصاب النصف +1 المنصوص عليه في المادة 34 من الدستور.
ومع أن الثلثين هو النصاب الدستوري لانعقاد مجلس الوزراء، خلافاً لجلسات مجلس النواب، إلا أن القرارات التي يُصوّت عليها ـــــ ما خلا المواضيع التي توردها المادة 65 وتلك التي تلزم نصاباً موصوفاً ـــــ تتطلب الأكثرية المطلقة، وهي النصف +1، المحدّدة في حكومة ثلاثينية بـ16 وزيراً.
بنصاب كهذا، تمنع قوى 8 آذار رئيس مجلس الوزراء من أن يفرض عليها عقد جلسة للمجلس تعارضها، أو التصويت على بند تتحفّظ عنه. بنصاب كهذا توازن بين الأكثرية المطلقة بين يديها وبين الصلاحيات الدستورية التي تمكنه هو الآخر من سلاح متين يمنع طغيان الثلثين أو يقيّد من صلاحياته الدستورية.
في الحكومة الثانية للرئيس فؤاد السنيورة عام 2008، حصلت قوى 14 آذار على الأكثرية المطلقة التي كانت تمثلها في مجلس النواب، وهي 16 وزيراً، في مقابل 11 وزيراً للمعارضة آنذاك التي أمسكت بالثلث +1، وكان نصاباً موازياً بفاعليته للنصف +1 للفريق الآخر من أجل فرض توازن قوى في مجلس الوزراء، الأمر الذي لم يُعطَ الحريري في حكومة 2009، فلم يُتح له ولحلفائه في قوى 14 آذار ـــــ وكانوا بدورهم أكثرية مطلقة خارجة لتوّها منتصرة في الانتخابات النيابية ـــــ نصاباً مشابهاً لحكومة 2008. أوجبت التسوية السياسية في ذلك الحين حرمان الموالاة من النصف +1، في مقابل حرمان المعارضة من الثلث +1. لكنهما أعطيا ضمناً ومداورة الصوت المرجّح لهذا النصاب أو ذاك عبر وزراء ودائع لدى رئيس الجمهورية.