تعرف مجدل عنجر الاسمين جيداً. راشد صبري ودرويش خنجر. والاثنان يعرف كلّ منهما الآخر كما يعرف ظله. منذ سنوات، وأحدهما تحت ناظري الآخر. الأول رجل أمن من الأبرز في المنطقة. أحد الذين يعتمد عليهم فرع المعلومات في البقاع الأوسط، وفي منطقة معبر المصنع الحدودي، وفي المجدل تحديداً. أما خنجر، فهو أحد أبرز المطلوبين في البلدة، وخاصة منذ استشهاد الرائد في استخبارات الجيش عبدو جاسر والمعاون زياد الميس في تشرين الأول 2010، ثم اغتيال العريف في استخبارات الجيش يوسف يوسف في تشرين الثاني من العام ذاته. في عمليّتي الاغتيال، وُجِّهَت أصابع الاتهام إلى «درويش خنجر ومجموعته». ومنذ ذلك الحين كان المؤهل في فرع المعلومات، راشد صبري، أحد الذين يلاحقون المجموعة.انقلبت الأدوار ليل أول من أمس. ترصّد المطلوب رجلَ الأمن النشيط، وكمن له داخل مجدل عنجر، حيث حصل اشتباك أدى إلى استشهاد صبري بعد إصابته بأكثر من عشرين طلق ناري، فيما فارق خنجر الحياة جرّاء رصاصة في الصدر.
تعدّدت الروايات الأمنية بشأن ما جرى. لكن الروايات المتقاطعة التي يؤكدها مسؤول أمني رفيع تشير إلى أن المؤهل صبري كان عند الرابعة من بعد ظهر أول من أمس في بلدة مجدل عنجر حين رأى درويش خنجر. حاول ملاحقته، طالباً تعزيزات أمنية، لكنّ خنجر ورفاقه تمكّنوا من الإفلات. وبعد مضيّ نحو خمس ساعات، كانت محاولة تحديد مكان خنجر قد وصلت إلى حائط مسدود. أراد المؤهل أخذ بعض الخضر إلى منزله. اتجه صوب محل قرب مسجد بلال بن رباح وسط البلدة. كان المطلوب قد كمن له، برفقة مجموعة استقلّ أفرادها سيارة سرقوها قبل ساعات قليلة من محيط بلدة عمّيق. أطلق أفراد المجموعة نيراناً غزيرة نحو المؤهل الذي قالت إحدى الروايات إنه استشهد على الفور، فيما أشارت معلومات أخرى إلى أنه بادل مهاجميه إطلاق النار، فأصاب درويش خنجر إصابة قاتلة، بعدما تمكن من دهسه بسيارته. ويقول أصحاب الرواية الأولى إن خنجر قُتِل عن طريق الخطأ على أيدي رفاقه. وما سيحسم تضارب الروايتين هو التحقيق المخبري الذي تجريه القوى الأمنية، التي نقلت جثة خنجر وسلاح المؤهل الشهيد إلى بيروت فجر أمس.
استشهاد صبري ضربة موجعة لفرع المعلومات. فهو أحد المحركين الرئيسيين لعمل الفرع في المنطقة، وله باع طويل في معظم ما أنجزه جهازه الأمني فيها. وأفادت معلومات من مصادر متقاطعة بأن من يحركون خنجر ينتمون إلى تنظيمات أصولية، وطلبوا منه أخيراً تخفيف الضغط الذي تمارسه الأجهزة الأمنية، وخاصة فرع المعلومات، على مجموعة من الفارين المطلوبين بشبهة التورط في عملية خطف السياح الأستونيين، وأن هذه التنظيمات مرتبطة على الأغلب بالتنظيم الدولي للقاعدة. وبناءً على الطلب، قرر خنجر متابعة صبري بصفته أحد أهم العاملين مع فرع المعلومات في منطقة مجدل عنجر، وهو ابن القرية، ويعرف أغلب أبناء المنطقة المطلوبين.
وقد تلقّت الأجهزة الأمنية، ابتداءً من مساء أول من أمس، معلومات مفادها أن أحد أبرز المطلوبين في عملية خطف الأستونيين، وائل ع.، شارك في الكمين الذي نصبه خنجر للمؤهل الشهيد. لكن هذه المعلومات كانت لا تزال حتى ليل أمس غير مؤكدة على نحو قاطع، على حدّ قول المسؤول الأمني الرفيع لـ«الأخبار».

الأستونيون: جيل جديد من الجهاديين

أشار المسؤول عينه إلى أن التحقيقات التي تجريها الأجهزة الأمنية اللبنانية، وخاصة فرع المعلومات، منذ اختطاف الأستونيين في البقاع يوم 23 آذار الماضي، أدت إلى كشف أسماء كامل أفراد المجموعة المنفذة للعملية. وهؤلاء يأتمرون بأوامر وائل ع.، وجرى توقيف ثلاثة منهم أحيلوا على القضاء العسكري. كذلك أوقف عدد من الذين اشتركوا معهم، أو قدموا لهم تسهيلات، وبعضهم قام بذلك من دون علم بنية المشتبه فيهم الرئيسيين. وبحسب المطّلعين على التحقيقات، فإن مجموعة وائل ع. نفذت عملية الخطف لحساب مجموعة أصولية. وكشفت إفادات الموقوفين أن المجموعة الأصولية طلبت من أفراد مجموعة التنفيذ خطفَ أشخاص أجانب، وتركت لهم اختيار الزمان المناسب، وطريقة التنفيذ، لكونهم أدرى بمعبر المصنع الحدودي. وأظهر التحقيق أن الاختيار وقع على الأستونيين بالصدفة، بصفتهم صيداً سهلاً وعددهم كبير. وكان المنفذون يعدون أنفسهم بملغ مالي يصل إلى أكثر من مليوني دولار لكل منهم، لقاء تنفيذ ما طُلِب منهم. وبعد تنفيذ العملية يوم 23 آذار، أخذت المجموعة الأستونيين إلى منزل في مجدل عنجر، حيث سلّمتهم إلى المجموعة الأصولية قبيل الساعة العاشرة مساءً. ومنذ ذلك الحين، لم تعد مجموعة التنفيذ تعرف شيئاً عن الأستونيين. وقال المسؤول الأمني الرفيع لـ«الأخبار» إن توقيف وائل ع. قد لا يكشف مصير الأستونيين، مؤكداً في الوقت عينه أن التحقيقات لا تزال مستمرة على نحو حثيث من أجل كشف مكان أفراد المجموعة الأصولية والأستونيين.
وأكدت معلومات أمنية أن التحقيقات التي أجرتها الأجهزة الأمنية لم تتوصل إلى أي دليل يربط درويش خنجر بعملية خطف الأستونيين، رغم أن الشبهات اتجهت إليه في الساعات الأولى التي تلت تنفيذ العملية.
وتحدّث مسؤولون أمنيون عن كون المجموعة الأصولية تضمّ شباناً في العقد الثالث من عمرهم، وهم من الجيل الجديد الذي ليس له أي سجلات أمنية سابقة. كذلك فإنهم يتمتعون بخبرة أمنية واسعة، فضلاً عن قدرات تقنية متقدمة. وضرب مسؤول أمني مثلاً على ما تتمتع به المجموعة الأصولية من تطور تقني، الأسلوب الذي اعتمدته لبعث رسالة إلكترونية إلى أحد المواقع الإخبارية، والتي تبنت فيها عملية الخطف. وقد أرسلت المجموعة صوراً من بطاقات تعريف عدد من الأستونيين. ولما حاولت الأجهزة الأمنية تعقّب الرسالة، تبيّن أنها خضعت لعملية تمويه معقدة. وعندما ظن المحققون أنهم توصلوا إلى تحديد المكان الذي بُعِثت منه الرسالة، تبين أنه يقع في بلغاريا. وبعد التعمّق في التحقيق التقني، تبيّن أن المصدر في رومانيا. ولفت المسؤول الأمني إلى أن هذا الأمر يدل على أن من بعث بالرسالة اعتمد أسلوباً للتمويه، مكّنه من «تزوير» عنوان بروتوكول الإنترنت، بما يجعل الرسالة تظهر كأنها بُعِثَت من أوروبا. وهو أسلوب تعرف الأجهزة الأمنية أنه من اختصاص تنظيم «القاعدة» العالمي، وهو يعوق جهات دولية مثل الولايات المتحدة الأميركية التي تفشل في الوصول إلى أهدافها.
وبحسب مسؤول أمني رفيع، فإن الأجهزة الأمنية تمكّنت من تحديد هويات عدد من أفراد المجموعة الأصولية، لافتاً إلى أن سوء التنسيق بين الأجهزة مكّن بعضهم من الفرار، بسبب عمليات دهم جرت في أمكنة قريبة من أماكن اختبائهم. ولفت المسؤول إلى أن مؤسسة أمنية كانت قد رصدت خلال الأسابيع الماضية «حركة إلكترونية» في منطقتي البقاع الأوسط والبقاع الغربي، لها صلات بجماعات أصولية مرتبطة بالتنظيم العالمي للقاعدة، إلا أنها لم تتمكن من تحديد هويات منفذي هذه «الحركة». والتحقيق في جريمة خطف الأستونيين أوصل إلى تحديد عدد من أفراد هذه المجموعة، لكنهم تمكّنوا من التواري عن الأنظار.
وأكد غير مسؤول أمني لـ«الأخبار» غياب أي دليل حسّي أو استعلامي على أن الأستونيين المختطفين نُقلوا من لبنان إلى سوريا، مع العلم بأن هذا الأمر متيسّر من الناحية النظرية، نظراً إلى قدرة المجموعات على تخطّي الحدود المشتركة بين البلدين بسهولة تامة.
ولفت مسؤول بارز إلى أن كل ما جرى في البقاع الأوسط خلال السنوات الماضية تعود جذوره إلى عام 2004، عندما أسيء التعامل الأمني والسياسي مع بلدة مجدل عنجر وشبانها، وجرى تصويرها على أنها محميّّة للمطلوبين. وأشار المسؤول إلى أن الأخطاء بحق البلدة وأهلها استمرت منذ ذلك الحين، ولم تجر معالجتها لا أمنياً ولا سياسياً. «وكان كل خطأ يستدرج ردّ فعل من عدد محدود من أبناء المجدل. وفي بعض الأحيان، أراد البعض تقديم تعامله مع البلدة كأوراق اعتماد لدى الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، في إطار ما عُرِف منذ عام 2001 بالحرب العالمية على الإرهاب».
ويوم أمس، شيّعت مجدل عنجر المؤهّل الشهيد راشد صبري، بحضور عدد كبير من أبنائها، وسط انتشار أمني كثيف. وزار المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي عائلة صبري معزياً. بدوره، أجرى رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري اتصالين هاتفيين بكل من وزير الداخلية زياد بارود والمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي، وقدم إليهما التعازي باستشهاد المؤهل راشد صبري. وبحسب بيان المكتب الإعلامي للحريري، فإن الأخير وجّه «خلال الاتصالين التحية، منوّها بضباط قوى الأمن الداخلي وعناصرها لتفانيهم في القيام بواجباتهم بملاحقة المطلوبين ومكافحة الجريمة».
(شارك في الإعداد نقولا أبو رجيلي وأسامة القادري)