غسان ديبة
ليس هناك أدنى شك في أن التحول العالمي نحو اليسار ستزداد وتيرته في المرحلة المقبلة، فأول الغيث في هذا التغيير على الصعيد العالمي سيأتي من الصقيع الأوروبي في إيسلندا، إذ من المتوقع أن يفوز حزب اليسار ـــــ الخضر بالانتخابات في أيار المقبل... هذا الفوز سيأتي بعد سقوط الحكومة المحافظة بسبب الأزمة الاقتصادية الكبرى (حيث انكمش الناتج القومي 10%) واستبدالها بحكومة ديموقراطية ـــــ اجتماعية سترعى انتقال السلطة إلى اليسار، الذي سينهي بدوره تجربة عشرين عاماً من النيوليبرالية الاقتصادية في ذاك البلد.
وفي أميركا اللاتينية، حيث تتنافس وتيرة صعود اليسار فيها مع وتيرة انهيار النظام الرأسمالي، فقد أعلن إيفو موراليس «انتهاء الدولة الكولونيالية» في بوليفيا، وفازت جبهة فارابندو مارتي (FMLN) في الانتخابات النيابية في السلفادور، وهو الفوز الذي أعلن نهاية عصر الريغانية السياسية في أميركا الوسطى التي دعمت اليمين المتطرف في السلفادور ضد الجبهة في الحرب الأهلية في الثمانينات.
هذا على الصعيد السياسي حالياً، والتطورات على المدى القريب، أما على المديين المتوسط والبعيد فإن اليسار عليه أن ينتهز فرصة الاهتزاز في القاعدة الاجتماعية للرأسمالية التي تنتجه الأزمة المالية والتي سوف تكون من الناحية التاريخية أعمق أزمة يمر بها الاقتصاد الرأسمالي حتى مقارنةً بأزمة 1929، لأنها تأتي تاريخياً بعد المرحلة الذهبية الكينزية (1945 ـــ 1970) وحقبة النيوليبرالية (1980 ـــ 2008) مما يفتح الآفاق أمام التحوّل نحو الاشتراكية كنظام اقتصادي عقلاني ومتقدم تاريخياً على الرأسمالية.
وهنا للتذكير فإنه لم يكن ماركس، والماركسيون من بعده، الوحيدين من بين المنظّرين الاقتصاديين الذين أبدوا تشاؤمهم العلمي بمستقبل الرأسمالية وإمكان استبدالها بنظام اقتصادي أكثر تقدماً.
فجوزيف شومبتير الاقتصادي النمساوي الذي أصبح أُستاذاً في جامعة هارفارد الأميركية (وصاحب نظرية التدمير الخلاق التي استعار منها المحافظون الجدد فكرة الفوضى الخلاقة) عندما سأل نفسه في كتابه الشهير «الديموقراطية والرأسمالية والاشتراكية»: «هل ستستمر الرأسمالية؟»، أجاب بلا، ورأى في الاشتراكية النظام الذي سيخلف الرأسمالية، كما أن كينز (منقذ الرأسمالية) رأى في التفاوتات الاجتماعية التي تنتجها الرأسمالية القاعدة الأخلاقية لرفض الكثيرين لهذا النظام، وإن تزامنت هذه التفاوتات مع عدم مقدرة الاقتصاد على الإنتاج وتلبية حاجات الناس فإن هذا سيضع مصير الرأسمالية على المحك.
والسؤال الكبير المطروح بإلحاح «هل ستنجح أنواع الكينزية الجديدة في إنقاذ الرأسمالية؟». أو بالأحرى هل ستتحول الإجراءات المنتقاة، في أوروبا من التدخّل الحكومي وإنفاق وتأميمات، وفي الولايات المتحدة من الاستملاكات والتأميمات (من سخرية القدر أن يجري الحديث عن رمز الرأسمالية المالية الأميركية بنك أوف أميركا كمرشح للتأميم) وخطة أوباما المرتقبة من فقط كونها إجراءت إلى نظام كينزي جديد متكامل على الصعيد العالمي؟
الجواب حتى الآن مرشح لأن يكون بِلا، وذلك بسبب غياب دعامتين أساسيتين للنظام الكينزي السابق، وهما: أولاً توافق الطبقة العاملة مع الرأسماليّين في نظام «فوردي»، أعطى الطبقة العاملة أجوراً مرتفعة واستهلاكاً كبيراً، وثانياً نظام عالمي اقتصادي مستقر لا مكان فيه للحروب التجارية المدمرة التي أرهقت النظام الرأسمالي دورياً، وخصوصاً في فترة ما بين الحربين العالميتين.
فالفارق بين ماركس وكينز قد يكون في بعض الأحيان ضئيلاً، ولكنه واسع جداً عندما يتعلق الأمر بإنقاذ الرأسمالية من نفسها، فالسوستان اللتان تنخران الكينزية هما الصراع الطبقي الذي سوف يزداد مع تعمق الأزمة وانعدام الظروف المادية لتوافق طبقي جديد، والصراع القومي الاقتصادي الذي يهدد بحروب تجارية ستستمر مع اضطرار الولايات المتحدة إلى خفض سعر الدولار، وبالتالي توقف المحرك الاقتصادي الأميركي عن تسيير الاقتصاد العالمي، وسيعمّق هذا التطور وجود دولة كالصين تعتمد اعتماداً أساسياً على التصدير.
إلا أن الصين هي أيضاً على المحك، إذ أن انخفاض وتيرة نموها عن الـ 8 ـ 10% في العام سيهددها بالاضطرابات السياسية والاجتماعية. وإذا لم يبادر الحزب الشيوعي الصيني إلى تغيير سياسته «الرأسمالية» فقد تتحقق توقعات جورج سوروس بأن نهاية النظام الشيوعي في الصين ستتأتّى من أزمة رأسمالية!
إن الرأسمالية تلفظ أنفاسها الأخيرة على المستوى التاريخي والبدائل الرأسمالية في أزمة كبرى، وعلى اليسار أن يبلور المشروع الاشتراكي البديل اقتصادياً وسياسياً وايديولوجياً وإن ابتدأ التغيير الأوروبي في إيسلندا المتجمدة فإن اليسار سيبعث الدفء في العالم مجدداً، فكما قال أوسكار لافونتين: «إن القلب ينبض من اليسار».