مع اكتمال عقد مجلس الشعب الجديد، يكون النظام السوري، وفق اعتباراته، قد أنجز البند الثاني من روزنامة إصلاحاته السياسية الباقي منها تشكيل حكومة وحدة وطنية وإنشاء هيئة حوار وطني مفتوحة على استقبال من يرغب من معارضة الخارج في الدخول لاحقاً إليها، عدا الإخوان المسلمين، وإدخال تعديلات جديدة على الدستور الجديد، وإبقاء الباب مفتوحاً على إجراء انتخابات نيابية مبكرة إذا تبيّن أن موجات عملية المصالحة داخل لجنة الحوار تستلزم ذلك.
وتبدو موسكو شريكة في كل هذه العملية السياسية السورية الداخلية، وذلك انطلاقاً من موقعين: الأول، إعلان موسكو استعدادها لاستضافة طاولة حوار وطني بين المعارضة والنظام، يؤدي الى إطلاق عملية سياسية يجري استكمالها في دمشق. والثاني، مواكبة روسيا دولياً لخطوات الإصلاح التي يقوم بها النظام عبر حشد التأييد الدولي لها.
ويكشف دبلوماسي روسي أن جهد موسكو على مستوى الهدف الثاني بدأ يؤتي ثماره، مؤكداً أن واشنطن اعترفت ضمناً بنتائج الانتخابات السورية، بعدما كانت قد وصفتها بأنها مهزلة. وقال المصدر إن سبب هذا التغير يعود بالأساس الى تولد قناعة أميركية بأنه يجب التفريق بين المطالبة بتنحّي الأسد والحفاظ على استمرار الدولة السورية ومؤسساتها الدستورية، وخصوصاً مؤسسة الجيش، بالإضافة الى اقتناع واشنطن بثبات موقف كل من موسكو والصين المعارضتين لأي عملية إسقاط بالقوة العسكرية للنظام السوري، وأيضاً نتيجة تعاظم إدراك واشنطن، بعد تجربة ليبيا، بخطورة التشجيع على إحداث فراغ سياسي وحالة «لا دولة» في سوريا، لأن الجهة الوحيدة القادرة على ملء الفراغ في حالة الفوضى هي القوى الإسلامية المتطرفة.
في خضم هذا التبدل الدولي، استناداً إلى المصدر الروسي، يلتئم اليوم مجلس الشعب السوري في جلسته الأولى، وسط احتمالات مقاطعة نواب المعارضة الداخلية له احتجاجاً على ما يعتبرونه تجاوزات شوّهت سلامة عمليات الفرز من جهة، وبروز توجّه إقصائي ضدهم من حزب البعث، انتقص من تمثيلهم النيابي من جهة ثانية. وعموماً، فإن المعارضة الداخلية التي شاركت في الانتخابات (وهي تحديداً أحزاب الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير)، لم تنل مجتمعة أكثر من عشرة نواب، بينما كانت تطمح لأن تترك لها السلطة، عبر التفاهم معها، نحو ثلثي مقاعد المجلس.
من جهته، يعدّد مسؤول سوري الأسباب التي قادت النظام الى عدم إيلاء عناية لقضية ترك مقاعد للمعارضة الداخلية، بالإشارة إلى أن ذلك جاء بعد إعطاء قيادة حزب البعث، بزعامة الحرس القديم فيه، الحرية في رسم سلوكه الانتخابي، ما ناقض كلاماً كان قد شاع داخل أوساط النظام، قبيل الانتخابات، عن أن الرئيس الأسد بصدد جعل الاستحقاق النيابي مناسبة لخلق كتلة سياسية جديدة يتحالف معها، قوامها معارضو الداخل والأحزاب الجديدة، ويكون لها حصة تمثيلية في البرلمان الجديد توازي حصة حزب البعث أو تنقص عنه بقليل.
لكن نتائج الانتخابات وسلوك حزب البعث خلال تشكيله لتحالفاته الانتخابية وتركيبه للوائحه، أظهرت أنه لم يتم احترام هذا التوجه، بل تركت أمور رسم صورة المشهد الانتخابي، بالكامل تقريباً، للحرس القديم في حزب البعث الذي لم يعر أي أهمية لتمثيل معارضة الداخل في البرلمان، بل حتى إنه أقفل لوائحه بوجهها في كثير من المناطق وساهم في إسقاط العدد الأكبر من مرشحيها. والفكرة الأساس التي دفعت الحزب إلى هذا السلوك، تنبع من كون قيادة الحرس القديم فيه، قررت، بمناسبة الحملة الانتخابية النيابية، أن تعيد طرح نفسها كقوة تمثيلية أساسية داخل المجتمع السياسي السوري، بغية نقض منطق شاع أخيراً بقوة في سوريا، يفيد بأن الأحداث أسقطت مقولة حزب البعث القائد، وأن هزالة تأثيره الشعبي خلالها أثبتت أن هذه الصفة لا تستقيم مع حجمه الشعبي والسياسي الواقعي. وبمقابل هذه النظرة العامة له، صاغ الحرس البعثي القديم نظرية لدوره خلال الانتخابات، تقول إن هناك نحو ستة ملايين عضو حامل للبطاقة الحزبية، وخلال الأحداث تساقط منهم، سواء عبر الانسحاب منه أو عبر عدم إظهار أي فعالية، نحو ثلثهم، ليبقى منهم كأعضاء فاعلين نحو ثلاثة ملايين وستمئة ألف عضو، وهؤلاء يشكلون أهم إطار شعبي منظم في سوريا، لا يوازيه عدداً أو تنظيماً أي حزب آخر. ويبدو أن قيادة النظام السوري انقادت لهذه الرؤية خلال وضعها معايير تعاطيها الانتخابي مع المعارضة الداخلية، ولا سيما أن الأخيرة تتسم بانطباع عام عنها، بأن تمثيلها الشعبي متواضع ولا يسمح لها بنيل مقاعد نيابية تتجاوز ما حصلت عليه فعلياً في البرلمان الجديد.
ويتابع المسؤول، من ناحية ثانية، أنه بدا واضحاً أن السياسة الانتخابية التي اتبعها النظام أعطت أولوية لمراعاة تمثيل البعد الاجتماعي في سوريا في البرلمان الجديد، وذلك على حساب مراعاتها لتمثيل البعد السياسي. ويرد مسؤول سوري هذه السياسة لكونها تنطلق من مراجعة عميقة أجراها النظام على خلفية العبر المستنتجة من الأحداث الأخيرة، لأخطاء ارتكبها عهد الرئيس بشار الأسد على مستوى عدم مراعاته لثوابت تاريخية داخل المجتمع السوري، ومشهود لوالده أنه حاذر طوال عهده المسّ بها. يضيف المسؤول عينه إن النظام خلال هذه الانتخابات راعى الى الحد الممكن، عبر توسيع كتلة المستقلين، سد هذا النقص القائم في تمثيل ثوابت الشخصية السورية الاجتماعية، ولا سيما المدينية السنية منها وكذلك العشائرية، وكذلك الحال بالنسبة إلى العائلات التاريخية.
والواقع أن هذه المبررات الداخلية، بشقيها البعثي والاجتماعي، هي التي قادت إلى إنتاج البرلمان السوري بشكله الحالي، حيث لحزب البعث العدد الأكبر من المقاعد، يليه المستقلون والعشائر، ومن ثم التمثيل النسائي، وبعد ذلك بمسافة بعيدة جداً الجزء المشارك في الانتخابات من المعارضة الداخلية.
وحتى الآن، لم يتم حسم مصير تهديد معارضة الداخل بالاستقالة من البرلمان، فثمة تسويات تطرح في كواليس العلاقة بينها وبين الرئيس الأسد، أبرزها عرض الأخير عليها تمثيلها في الحكومة العتيدة، على نحو فعّال. وهناك معلومات تفيد بأن حظوظ إسناد رئاسة الحكومة لقدري جميل عادت الى البروز من جديد في حال تراجعه عن استقالته، وفي حال ثبوت أن هيثم المناع مصرّ على عدم قبول هذا المنصب ضمن الظروف الراهنة في سوريا، وفي حال استبعاد أيضاً فكرة الإتيان بشخصية سنية قادرة على إحداث صدمة إيجابية في الشارع السني الأقرب إلى مناخ معارضة الخارج.