لم يكد السيد حسن نصر الله ينهي كلمته عبر الهواء، داعياً أبناء الضاحية إلى الانسحاب من الشوارع وعدم التعرّض للمواطنين السوريين في مناطقهم، حتى كانت شلّة من الزعران في انحاء مختلفة تردّ بإطلاق العنان لحملة عنصرية مقزّزة ضد السوريين عموماً. معظم هؤلاء، ينتمون إلى حركة «أمل» وجمهورها. في لبنان الثمانينيات والتسعينيات، احتكر المسيحيون السلوك العنصري ضد السوريين. بعد 2005، انضمّ السنّة والدروز الى هذه اللعبة. وبعد اندلاع الازمة السورية، انضم قسم غير قليل من الشيعة، بما ضمن اكتمال مشهد العنصرية اللبنانية. بالنسبة الى كثير من الشبّان السوريين الذين تعرّضوا للخطف والإهانة خلال الساعات الـ 48 الماضية، كان صعباً التمييز على أساس انتماء حزبي وسياسي. قال أحدهم إن الشبان الغاضبين قالوا كلاماً قاسياً وعنيفاً وأشهروا سيوفاً على شكل سيف ذو الفقار، وهو خاص بالشيعة. بالنسبة الى هؤلاء السوريين، فإن شيعة هم مَن اعتدى على حريتهم وعلى كراماتهم. بعض المخطوفين رسم لنفسه المشهد الأكثر سوريالية: هارب من قمع النظام في سوريا، ومُطارد من العصابات المسلحة لرفضه المجلس الوطني، ثم معتدى عليه من قبل ضحايا لبنانيين للأزمة السورية... إلى أين المفرّ؟
خلال الساعات التي أعقبت الإعلان عن خطف مسلحين سوريين لمجموعة من اللبنانيين، عند دخولهم الاراضي السورية قادمين من تركيا، ساد هرج ومرج في بعض المناطق. وخرج شبان من الضاحية الجنوبية يتوعدون المعارضين السوريين بالعقاب انتقاماً. لم يكن سهلاً على احد تمييز المعارض السوري من المؤيد. لكن الاجراءات التي كانت تسمح بالحؤول دون تحوّل تهديد الشبان الغاضبين الى حقائق لم تكن حاضرة. كان صعباً على أحد تخيّل انتشار الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي على الطرقات. الجيش لا يزال تحت وقع الصفعات المتتالية التي تلقّاها، من عكار إلى طرابلس إلى الطريق الجديدة، مروراً بالمحكمة العسكرية، وقوى الأمن تصرّفت في هذه الأزمة وكأنها غير معنيّة إلا بجمع الأشلاء. والأكثر إثارة للسخرية مشهد ضباط من الدرك يطاردون سيارة لأن سائقها لا يضع حزام الأمان!
قبل ربع قرن قال زياد الرحباني، في لحظة استراحة وهميّة للحرب الأهلية، انها «راجعة بإن الله». ثم عاد وحذّرنا من عنف عصور الجاهلية الآتي على لبنان والمنطقة. وها هو لبنان يعود اليوم ليذكّر أهله بأن زمن بناء الدولة ليس زمناً حقيقياً. وان الزمن اليوم هو زمن الدويلات التي تتنافس على رسم حدودها بالدم والنار.
بعد الذي حصل، على اللبنانيين التكيّف مع الوقائع كما هي. لم يعد مهمّاً رأي فلان بفلان، ولا تحليل خلفيّة المشهد وأبعاده. هذه المرّة صار لبنان كلّه رهينة الأزمة السورية، شاء من شاء وأبى من أبى. والخارج المتدخل في سوريا حاضر بقوة في لبنان أيضاً، وهو خارج تمرّس في ممارسة التدخل نفسه ولو بأشكال مختلفة.
بعد الذي حصل، ليتصرّف اللبنانيون. إنّ خصوصيةً ما تلفّ مناطق الجنوب والبقاع وقسماً من بيروت، وإن خصوصيةً بحساسية مختلفة تلفّ قسماً من الشوف، وان خصوصيةً بحساسية ثالثة تلفّ مناطق واسعة في الشمال والبقاع وبعض بيروت أيضاً. وثمّة نزاعات صامتة ستظلّ قائمة على تخوم الجنوب والبقاع وبعض الجبل، لكن الأزمة ستكون في المناطق ذات الغالبية المسيحية، حيث الخصوصية تُختصر بخوف يسيطر على العقل الجمعي، وهو خوف على كل شيء. على الدور، وعلى المصير أيضاً. وكل تجاذب بين القوى المتنازعة على الوسط المسيحي، لا يلغي هذا القاسم المشترك، ولا سيما بعدما أجهز تيار «المستقبل» على أي تمايز كان يتمتع به مسيحيو 14 آذار.
من الآن فصاعداً، الدويلات ستأخذ أشكالها الخاصة، لكن المفارقة أن «الدويلة الشيعية» صارت الآن صاحبة مصلحة في الانتماء إلى دولة كاملة. في الأحداث الأخيرة، كان «حزب الله» خائفاً على فرط الجيش، وعلى انفراط أخير لعقد قوى الأمن الداخلي، وعلى وضع حواجز ونقاط عبور عند هذه المنطقة أو تلك. وعدم تدخل «حزب الله» في معارك الطريقة الجديدة ليس له سوى معنى واحد: لا أفق لأي حرب مذهبية.
لكن العكس هو الذي تعيشه «الدويلة السنية» المستجدّة، حيث النزعة الانفصالية تقوى يوماً بعد يوم، وحيث الشعور بالخيبة يتحوّل رغبة بالابتعاد عن حكم الدولة ما لم يكن القرار بيدهم. لقد مارس سعد الحريري، ومعه فريقه ومن خلفه الخارج العربي والغربي، أخطر لعبة منذ ربع قرن. فبعد تحويل السنّة في لبنان إلى طائفة، ثم إلى مذهب يعاني شعوراً أقلويّاً صعباً، ها هم اليوم يذهبون نحو القوقعة، ونحو الارتباط السياسي ــــ الاجتماعي بمشروع يتصل بالأزمة السورية. لم يعد لهذا الفريق من قدرة على رهان آخر: إمّا سقوط سوريا الحالية بيد المحور الذي ينتمون إليه، وإمّا الذهاب بعيداً في لعبة الانعزال. لكن مرض الانعزال الأخطر، ليس فقط الابتعاد عن الآخرين، بل في عدم القدرة على بناء مشروع متكامل. وعندها ستدبّ الفوضى في المكان ويسود الجنون، ويأكل القويّ الضعيف... إنه مشهد مرئي سابقاً، لكن ثمّة مَن يريد إظهاره للعلن من جديد، والحجة أنه غاضب!