بعد وقت قليل من القمع الوحشي للانتفاضة التي تلت الانتخابات الإيرانية في حزيران 2009، بدأت تسري شائعات في العالم الافتراضي، وبين مناصري الحركة الخضراء، عن أنّ بعض القوى الأمنية في الجمهورية الإسلامية، ممن جندوا للاعتداء بشراسة على المتظاهرين، لم يكونوا في الحقيقة إيرانيين، بل «عرباً».وبدأت تنتشر صور معلّمة بدوائر حمراء اللون، تظهر أشخاصاً سمر البشرة وأقوياء البنية من رجال الأمن، قيل إنّهم ينتمون إلى حزب الله اللبناني أو إلى حركة حماس الفلسطينية. بعض الإيرانيين، القادمين مثلي من المناطق الجنوبيّة من البلاد، يشبهون كثيراً هؤلاء الذين أشير إليهم، ويتذكّرون تاريخاً طويلاً من التمييز بحقهم على اعتبار أنّهم «عرب» من قبل الإخوة والأخوات ذوي البشرة البيضاء في شمال إيران. هؤلاء الجنوبيون لم يقتنعوا بما حملته هذه الصور من ادّعاءات.
نشير أيضاً الى أنّه في أعقاب الغزو السوفياتي لأفغانستان، وتدفّق عدد كبير من اللاجئين الأفغان الى إيران، نسبت كلّ أنواع الجنح والجرائم إلى الأفغان أو AFGHANIS، وحرف «I» الإضافيّ يحمل معنى عنصرياً سيّئاً في اللغة الفارسيّة.
وفي وقت لاحق، بعد حوالى عامين، قيل إنّ «المرتزقة» الذين نشرهم نظام القذافي من أجل سحق الانتفاضة الثورية في ليبيا، كانوا «أفارقة». وبينما كانت الأمم مشغولة بإجلاء رعاياها بسبب أعمال العنف التي اجتاحت ليبيا، ذكرت قناة «الجزيرة» أنّ «العديد من العمّال المهاجرين الأفارقة استهدفوا بعد الاشتباه بهم على أنّهم مرتزقة من الذين استخدمهم الزعيم الليبي معمّر القذافي».
وقد أضاف تقرير القناة أنّه «يحتمل أن يكون عشرات العمال الآتين من الصحراء الجنوبية الأفريقية قد قتلوا، بينما يختبئ المئات بسبب الحشود الغاضبة والمناهضة للحكومة التي تطارد «المرتزقة الأفارقة السّود» بحسب شهود عيان».

الكشف عن هوية «الآخر»

هذه التعابير المجازية ليست إلا لمحة عن أعمال العنف العنصريّة ـــــ هذا العنف المرتكب دائماً من الآخرين وليس ممارساً من قبل «الذات» ـــــ التي تعطي طابعاً عنصرياً للانتفاضات الثوريّة في منطقتنا وهي وصمة عار، وليست إلا جزءاً من ثقافتنا المحليّة ومن البقايا القديمة العنصريّة من القرون الوسطى. يتفاقم استخدام هذه التعابير، ويعاد استعمالها بطريقة سيّئة لتحقيرنا وإخضاعنا من قبل الاستعمار الأوروبي لتعزيز مصالحه الخاصة، وقد عادت الآن، لتطارد أنبل لحظات الانتفاضة الجماعية ضدّ الاستبداد الداخلي والهيمنة الأجنبية، على حدّ سواء.
المظاهر العنصرية هذه، متعددة الأوجه ولا تنحصر بالتظاهرات وبزخمها الثوري الجارف أو بالنضال الإلكتروني المجهول الهويّة. إنها للأسف تمتدّ إلى الزوايا الهادئة للتحاليل والمداولات العقلانية.
ذلك التحديد العرقي لبعض العرب بين أعضاء الأجهزة الأمنية للجمهورية الإسلامية من بعض الناشطين الإيرانيين قوبل بالنبذ التام للثورة الشعبية من أجل حقوق الإنسان في إيران، من قبل بعض المثقّفين العرب (وليس جميعهم). وقد رأى هؤلاء أنّ هذه الانتفاضة الشعبية هي جزء من مخطّط أميركي إسرائيلي، بتمويل من المملكة العربية السعودية، مساوين بالمطلق بينها وبين «ثورة الأرز» في لبنان.
وقد قوبلت هذه التفاهة بأخرى متساوية، إن لم نقل أكبر، من بعض الناشطين الإيرانيين، وصلت إلى حدّ نبذ وتسخيف كلّ من ثورتي مصر وتونس ووضعهما في خانة «الانقلابات العسكرية المبجّلة». وفي أحسن الأحوال، تفاخروا بأنّ «العرب» يقومون اليوم بما «فعلناه» قبل ثلاثين سنة، مستنتجين «أنّهم» (أي العرب) متأخرون عن الإيرانيين على الأقلّ بثلاثين عاماً.
إنّ هذه الحلقة المفرغة من العنصرية تتغذى من نفسها، ويجب اقتلاع هذه الخلايا السرطانية من جسمنا السياسي.
«الآخر» عند العرب
جذور العنصريّة التي يتبادلها الإيرانيون والعرب تجاه بعضهم البعض، بالإضافة الى العنصريّة المشتركة بين هؤلاء تجاه «الأفارقة السود»، بشعة جدّاً ومقلقة، ولا تستحقّ أن نعرضها الآن في هذه اللحظات الرّائعة من تاريخنا جميعاً. يجب أن تعالج مظاهر وأبعاد هذه العنصرية، فقط من منطلق أنّها تدلّ على تحرر جماعي من فخّ العنصرية التي تتحوّل إلى عنف عرقي.
من جانب العرب، كما برهن جوزف مسعد في كتابه «اشتهاء العرب» (2007)، فإنّه في عزّ صعود القومية العربية كانت عبارة «فارسي» المجازية ترتبط مباشرة بكل أنواع الفساد والإفساد الأخلاقي والانحراف الجنسيّ. وبذلك تصبح «الرجولة» و«الاستقامة الجنسية» مخصصة «للعرب».
لقد تبيّن في الواقع أنّ رؤية مسعد تجلّت بوضوح في السخرية والانتقاد الموجه إلى الحركة الخضراء. فالإيرانيات، وفق ذلك التقدير، اعتبرن أنثويات كثيراً، جميلات أكثر من اللزوم، وضعيفات أكثر من اللزوم، وبرجوازيات (من الطبقة الوسطى) أكثر من اللزوم، وأنيقات جداً (انظروا إلى أولئك النسوة الجميلات وإلى تصفيفة شعرهنّ ونظّارات الشمس الخاصة بهنّ) ليحصلن على انتفاضة خاصّة بهن، ومثل سائر النساء هنّ بحاجة إلى مساعدة الدّول العظمى.
«الثورة الحقيقية» هي ما قام به «الرجال الحقيقيون» في «العالم العربي»، وليس فقط من دون مساعدة أميركية بل في الواقع ضدّ الإمبريالية الأميركية.
وفيما أعطي للحركة الإيرانيّة الخضراء طابع نسائي (وذلك بتبني فكرة أنّها ضعيفة، يشوبها عيوب، وقد تمّ التلاعب بها من قبل «الغرب»)، تعدّ ثورات تونس ومصر ذكورية وقومية عربية.
إذا ما تمعّنا في رؤية مسعد، يمكننا القول إنّ خشية القومية العربية الذكورية حيال المثليين، تظهر بشكل كبير في اعتبار الحركة الخضراء أمراً أنثويّاً ورقيقاً، ينتمي إلى الطبقة الوسطى، وبورجوازياً، والأهم أنّها مدعومة من «القوى العظمى».

نظرة الإيرانيين إلى «الآخر»

للأمراض العنصرية لدى الإيرانيين جذور مختلفة عن العرب. هناك شريحة معيّنة من الإيرانيين، ومعظمهم من الملكيين في السلوك السياسي، أفرادها غارقون في تفاهة العنصريّة الآرية، ودُفعوا ليعتقدوا أنّهم في الحقيقة جزء من الآريين الأصليين، عالقون للأسف بين الساميين الأشرار. ويعتقد هؤلاء أنّ حضارتهم تشوهت بسبب الغزو العربي والإسلامي، وهم بحاجة الى إعادة التواصل مع جذورهم الأوروبية «في الغرب» من أجل استرجاع أمجادهم الآرية.
كلّ هذه الجدلية مبنية على الهزيمة التاريخية للإمبراطورية الساسانية على أيدي الجيوش العربية الغازية، وتحديداً في معركة القادسية (عام 636). هذه الصدمة القومية كانت تستعمل دائماً للتحريض على كره الغرباء.
هذا الكره العنصري الإيراني لا يقتصر على العرب فحسب، بل يشمل أيضاً «الأتراك» و«المغول» ـــــ بسبب الاجتياحات العديدة التي تعرّضت لها إيران بين القرن السابع والقرن الثالث عشر للميلاد. فلتلك العنصرية أيضاً تعبير باطني، وذلك من خلال السلوك الازدرائي والتنازلي لهؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم «فرس»، حيال الأقليات العرقية مثل الأكراد والأذريين والبلوش، إلخ.
اتحدت العنصرية الخارجية والعنصرية الداخلية لتصنعا علامة «فارسية» خرافيّة، هي مرآة الصورة التي رسمها العرب. لقد باتت المبارزة العربية/ الفارسية، التي تجد جذورها في القرون الوسطى واستفحلت مع الاستعمار، مسألة ذاتية الحركة، تتغذى من نفسها.

الطابع العنصري للثورات

بنيت على هذه المبارزات وعلى عنصريتها العمياء مشاريع قومية شكّلت السمة المميّزة والكارثية لتاريخنا، في فترة ما بعد الاستعمار، خلال القرن الفائت.
وبينما كانت القومية الإيرانية تتنافس مع القومية التركية في آسيا الوسطى، ومع القومية العربية في آسيا الغربية وشمال أفريقيا، فإنّ مصيبتهم المشتركة ومحاكاتهم السخيفة للغرب ساعدتهم على صناعة واعتماد التعصّب الأعمى ضدّ «الأفارقة السود».
النزعة الحالية لتحويل الانتفاضات الثورية العابرة للحدود إلى صراعات عنصرية جزء من هذا التاريخ الرهيب، وإذا لم نستأصلها، فستودي بنا في دوامة لا نهاية لها، في وقت نظنّ فيه أنفسنا قد تحررنا.
وكما قال المخرج السينمائي والصحافي فرج سيفينزو من زيمبابوي:
«بالنسبة إلى أعمال العنف خلال الأسبوعين الماضيين (منتصف شهر شباط 2011 في ليبيا)، تبيّن أنّ علاقات العقيد القذافي في القارة الأفريقية ساهمت فقط في إحياء عنصرية، لها جذور عميقة أصلاً، بين العرب والأفارقة السّود. وبينما كان المرتزقة، الذين أشيع أنّهم من التشاد ومالي، يقاتلون من أجله، كان مليون لاجئ أفريقي، والمئات من العمال المهاجرين الأفارقة يتعرّضون للخطر وللقتل بسبب نسبهم كمقاتلين للقذافي».
ويضيف سيفينزو: «قال أحد عمّال البناء الأتراك لقناة بي بي سي: «كان هناك سبعون أو ثمانون عاملاً من التشاد يعملون لمصلحة شركتنا، وقد قتلوا بواسطة الفؤوس، وقال أحد المهاجمين لهم: «أنتم تعملون لمصلحة قوّات القذافي». لقد رأينا ذلك بأعيننا وذبح السودانيون أيضاً».
مظاهر العنف العرقي تلك ليست وحدها السبب الذي يدفع الملايين من الناس، من السنغال إلى جيبوتي، ومن المغرب إلى أفغانستان، ومن إيران إلى اليمن، إلى الحلم بأيام أفضل لأنفسهم ولأولادهم.

الطابع العنصري للعنف

إعطاء طابع عنصري للعنف هو أحد آخر بقايا العنصرية الاستعمارية التي عرفتها روما، وكذلك في وقت لاحق الجمهورية الفرنسية القديمة. إنّه منطق «فرّق تسد» أو «فرّق تحكم»، وهو قول مأثور استخدمه ماكيافيللي في كتابه «فنّ الحرب» (1520).
السجل الإجرامي للاستعمار الأوروبي في آسيا وأفريقيا مليء بهذه الاستراتيجية الغادرة. فألمانيا وبلجيكا على حدّ سواء قد مارستا هذه الاستراتيجية، عن طريق تعيين أعضاء من أقلية التوتسي في مناصب السلطة. وقد نتج من ذلك لاحقاً إبادة جماعية في الرواندا بسبب الشحن العرقيّ بين جماعات الهوتو والتوتسي، الذي كان من صنع المستعمر. وكان للبريطانيين تصرّف مماثل في تطبيق عقيدتهم الاستعمارية، حين حكموا السودان، وساهموا في الانقسام بين الشمال والجنوب، ما أدّى إلى حروب أهلية سودانية متتالية.
التاريخ الاستعماري لبقية القارّة الافريقية مليء بالانقسامات المماثلة، كما في آسيا ـــــ وخاصّة في الهند حيث كان للبريطانيين دور فعال ليس فقط في إعادة العمل بالنظام الطبقي لفوائده الاستعمارية، ولكن أيضاً في إثارة العداء بين المسلمين والهندوس، ما أدى في نهاية المطاف الى التقسيم الكارثي بين الهند وباكستان، على أساس ديني.
وقد جدّد المستعمر طرقه القديمة من أجل بسط سيطرته. فبعد غزو العراق، الذي قادته الولايات المتّحدة، كتب سيّد والي رضى نصر، وهو عالم استراتيجي أميركي، من دون أي بحث علمي مسبق، تحليلاً عن الانشقاق السنيّ ـــــ الشيعيّ بعنوان «صحوة الشيعة»، كيف ستعيد الانقسامات داخل الدين الإسلامي رسم المستقبل» (2006). ألقى اللوم في ما يتعلّق بالمجازر في العراق على الحروب بين السنّة والشيعة، ووجد ترابطاً كبيراً بين تلك الأحداث والعداء الاستراتيجي بين الجمهورية الإسلامية والمملكة العربية السعودية. التدخّل المدروس والاستراتيجي للولايات المتحدة في غزوها للعراق، جعلها تظهر بصورة السامري الصالح وكمتأمّل بريء.
كانت هذه الاستراتيجية ناجحة جداً، حتى أنّ الكتاب أصبح من أكثر الكتب مبيعاً في الولايات المتحدة، فيما استدعي المؤلّف في وقت لاحق، للعمل ضمن الفريق الدبلوماسي للولايات المتّحدة للتوصّل إلى نتيحة تخرح أميركا من الفشل المستمرّ في أفغانستان.

تضامن الجيل الجديد

كلّ تلك العبارات المبتذلة القديمة، ليست إلا استعارات ميّتة تقع وراء مسار العالم المتحرر، الحرّ في تشكيل نفسه وفق آفاق أخرى مختلفة.
اليوم، وبما أننا لم نعد في متناول هذه الخدع الإمبريالية الاستعمارية، أصبح لنا كشعوب موعد متجدّد مع التاريخ. وإذا سمح لتلك الثورات بأن تتراجع لتتحمل عناصر عنصرية قديمة وكريهة تبدو جلية في القومية العربية، والإيرانية والتركية، وغيرها مما يجعل الجدل بيزنطياً، فسنعود قرنين إلى الوراء، وستذهب كلّ التضحيات سدى.
فالقوّى الأساسية المسببة لهذه الثورات من آسيا إلى أفريقيا، ومن أميركا اللاتينية إلى أفريقيا وحتّى في أوروبا وأميركا الشمالية، هي قوى ديموغرافية واقتصادية أصلية. الأحداث التي شهدناها في إيران ومصر وتونس وليبيا، بالإضافة إلى الأصداء الواسعة من المغرب والبحرين وأفغانستان واليمن، ستغيّر كل ما نعرفه عن أنفسنا: من، وماذا نحن؟
لا يمكن أن نسمح لهذه الآثار الاستعمارية السّيئة بأن تحجب لنا المستقبل، والطريق الذي نتوجه فيه. ولا يمكن أن نسمح بذلك، إذ لا يعبّر كلّ ما يجري في أوساطنا عن مخاوفنا. على العكس تماماً، جيل الشباب من العرب والإيرانيين، والأفارقة قادرون على استدراك مشاعرهم في الكلام وفي الفعل. التضامن العابر للقوميات كان المحرّك لهذه الثورات، وهذا ما سيبقي الثورة مستمرّة، ويدعمهم لسنوات. والدليل على هذه الحقيقة ظاهر في الشوارع والساحات، في ميدان التحرير وميدان آزادي على حد سواء.
كتب ناشطون آخرون، كردّة فعل على المشاعر المعادية للعرب في الحركة الخضراء، مقالات عدّة عن الفنان الفلسطيني ناجي العلي وشخصية حنظلة، وسرعان ما ظهر البطل الفلسطيني الرمزي بوشاح أخضر يرافق المتظاهرين في طهران. وفي اليوم الذي تنحّى فيه حسني مبارك، أبدى أوّل شاب مصري قابلته قناة «بي بي سي»، تضامناً كبيراً مع الثوار الإيرانيين، معتبراً أنّ إيران ستكون التالية. ذلك الشاب كان وائل غنيم، أحد الشباب الناشطين عبر الإنترنت، الذي يلبس عصبة خضراء على معصمه حين يتوجّه إلى المحتشدين في ساحة التحرير، وقال إنّه سعيد بأنّ الإيرانيين اعتبروا العصبة تتضامن مع قضيتهم.
ترسم هذه الثورات الخطوط العريضة لإمكانات بشرية جديدة، إن من ناحية ارتكازاتها الاقتصادية أو من ناحية تطلّعاتها السياسية. إمكانات تتخطى بشاعة العنف العنصري والتمييز الجنسي والانقسام الطبقيّ الفاحش.

* أستاذ الدراسات الإيرانية والأدب المقارن
في جامعة كولومبيا، عن موقع «الجزيرة» الإنكليزي، (ترجمة تونيا عكر)