ما دمنا نمشي بخطى سريعة، بل نهرول ونتهافت ونتهاوى، صوب حرب «آخرينية» جديدة على أرضنا وبأيدينا العنيدة وعقولنا المريضة ونفوسنا المشوهة، ما دام الأمر كذلك، يجدر بنا تذكر بعض أسرار اندلاع حرب الأمس، والتذكير بها ومقارنتها بأسرار إرهاصات حرب اليوم.
مثلاً، بعد أكثر من 37 عاماً، لم يكشف رسمياً عن هوية الدولة الشقيقة، و«الأعز» من الشقيقة، التي تولت عبر مخابراتها تدبير حادثة عين الرمانة. الواقعة ثابتة بالنسبة إلى المعنيين. حتى إن وزيرين سابقين تحدثا عنها علناً. أحدهما من أهل الحرب وناسها المطحونين بدونكيشوتاتها. والثاني من المسؤولين عن ملفات خارجية لا بد أنها أتاحت له الاطلاع على الكثير من الأوراق السود. الوقائع بالنسبة إلى هؤلاء تجزم بأن مخابرات تلك الشقيقة البعيدة هي من تولى يومها زرع سلسلة من العبوات التفجيرية التي مهدت لأجواء الرعب والذعر. ثم هي من تولى مباشرة «تركيب» حادثة البوسطة، عبر خطوتين سريتين مدروستين: أولاً مرور سيارة الفيات الشهيرة. ثم تحويل سير البوسطة نحو شارع الحادثة، بواسطة شرطي سير مجهول الهوية حتى اللحظة. المهم أن شعبنا العظيم لم يتوقف عند تلك التفاصيل. ذهب إلى الهاوية بأعين مفتوحة. وضع الفخ نصب عينيه. فانفجر قيماً ومبادئ ومحبة دموية طوال عقد ونصف. لمجرد أن دولة شقيقة كانت تعرف لعبة واشنطن: المطلوب حلّ فلسطيني بديل. إما هي وإما نحن. من ينفجر قبل الآخر يخسر. ومن يصمد يربح. فزرعوا لنا العبوة، وفجرناها بعنفوان قلّ نظيره وضلّ مصيره.
أسرار كثيرة أخرى لا تقل أهمية. مثلاً، من هي الجهة التي خططت ونفذت اغتيال الشبان الكتائبيين الأربعة في عين سعادة ليل الجمعة 5 كانون الأول 1975، بما فجر صبيحة اليوم التالي مذبحة السبت الأسود، في توقيت مثالي، لحظة وصول بيار الجميّل إلى دمشق للقاء حافظ الأسد؟ من سرّب لها المعلومات عن وجهة الشباب وتفاصيل تنقلهم؟ ومن غطى انتقال المرتكبين من تل الزعتر إلى موقع الكمين؟ علماً بأن كتاب «جلاد» السبت الأسود و«ضحيته» يثير تساؤلات عن الملف أكثر مما يقدم أجوبة مثيرة.
في الشمال اليوم وقائع وأسرار مشابهة إلى حد كبير لتلك التي سبقت البوسطة والمذابح. ثمة واجب وطني وإنساني وأخلاقي في طرحها وكشفها قبل المحذور والمحظور. هي بعض من تلك الأسئلة ــ الأسرار، برسم الساعين إلى عدم تكرار «المأساة ــ الملهاة»:
أولاً، هل صحيح أن مسؤولاً عن منظمة غير حكومية عاملة على إغاثة النازحين السوريين في الشمال، كان منذ أشهر قد أكد لجهات رسمية في تقارير موثقة، أن المسؤول عما يسمى «الجيش السوري الحر»، رياض الأسعد، كان قد زار طرابلس ومكث فيها مدة؟ وأنه قام بجولات استطلاعية على الأرض لما يفترض أن يكون «المنطقة العازلة المثالية» لانطلاق ثورته؟ وأنه أبلغ من التقاه الأسباب الموجبة لاختيار هذه المنطقة تحديداً، لما فيها من مقومات إنجاح المهمة: مرفأ ومطار وبيئة حاضنة وجوار متواصل ومحاذٍ، وخصوصاً لما فيها من قدرة على تقويض الدولة اللبنانية عبر ضرب مؤسستها الأم وعمودها الفقري الأمني، انطلاقاً من حسابات غرائزية معروفة؟
ثانياً، هل صحيح مثلاً أن أحد المستشفيات الخاصة في طرابلس بات فعلياً مستشفى ميدانياً لجرحى «الثورة السورية»، يتولى حراسته مسلحون سوريون؟ وأن مستشفى آخر حكومياً بات فيه طابق كامل، نحو أربعين سريراً مخصصة لـ«الثوار» بحماية جهات أمنية لبنانية؟ وأن «جناح الثورة الاستشفائي» هذا، ملاصق لأسرة تستضيف لبنانيين مدنيين وحتى عسكريين، فيلمسون لمس اليد ويبلغون من يلزم، ولا من يتحرك؟
ثالثاً، هل صحيح أن أحد الأشخاص الذين سقطوا في حادثة شمالية أخيرة، كانت السلطات الرسمية اللبنانية قد تبلغت منذ أشهر سلسلة تقارير في حقه، بلغ عددها مئة وثلاثة تقارير، توثق مخالفاته ضد الجيش اللبناني عناصر ومؤسسة، من دون أي تجاوب من السلطات الحكومية لمعالجة الظاهرة الشاذة والخطيرة؟ وهل صحيح أن التحقيقات القضائية أثبتت بما لا يقبل الشك، أن الجيش اللبناني لم يرتكب عند وقوع تلك الحادثة المشؤومة أي خطأ مسلكي، بل قام عناصره بتنفيذ الإجراءات المتبعة في حالات مماثلة من دون أي تسرع أو مبالغة أو إفراط قوة؟ وهل صحيح أنه رغم ذلك صدرت قبل أيام مطالعة قضائية تطلب الادعاء على العسكريين المعنيين؟ فيما ثمة خيمة «احتجاجية» لا تزال قائمة وسط الطريق، ومرتبطة بالحادثة نفسها، تنذر بتفجير حوادث مماثلة مع الجيش في أي لحظة، وتشكل صاعق فتنة دائمة، لم تعالج بعد، وسط صمت كل السياسيين، وترك الجيش وأبطاله يحملون قلوبهم ودماءهم على أكفهم، ومعهم قلوبنا وقلب الوطن؟
مجرد أسئلة واجبة لمن يرفض أن يكرر حرباً تقتله ليحيا آخرون.