لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. شعار يسود أوساط مركز القرار السوري. لكن بين هؤلاء من هو أكثر وضوحاً في التفسير: لا صوت يعلو فوق صوت الرصاص. وهذا الفريق لا يقيم وزناً لأي خطوات أخرى يجب القيام بها حتى في سياق المعركة نفسها، وخصوصاً أن الانطباع القوي عند مطلعين يفيد بأن المعنيين بالقرار لا يستمعون إلى غيرهم، أي إلى أولئك الذين يعلنون التحالف مع سوريا في وجه الحرب الخارجية عليها، والذين يلتفتون إلى عناصر أخرى ربما أكثر أهمية في آلية العلاج، أو حصر الجانب العنيف منها ضمن دائرة واحدة، يقدر الشعب على لفظها بعيداً متى حصل التنافس. ولأن المواجهات الأمنية والعسكرية قائمة ولا تحتاج إلى من يعطيها عنواناً إضافياً، فإن من يقدر على التدخل فيها، هو ذاته من يقدر على توفير عناصر الدعم، سواء للنظام أو حتى للمعارضين المسلحين. ما عدا الفئة الجنائية من المسلحين التي يرتبط بعضها ببعض، رغم تنوع الانتماءات الطائفية والمذهبية والمناطقية. وهؤلاء يديرون اليوم ما بات يعرف سورياً بـ«مكاتب الخطف»، أي تلك الأعمال التي تستهدف توسيع رقعة التوترات الطائفية والمذهبية، والتي تترافق مع عمليات تهريب متنوعة من داخل الدولة وخارجها لتزويد معارضين آخرين بالسلاح أو حتى المعلومات. ومعظم أفراد هذه الفئة، هم من الذين كانوا مخبرين عند الدولة لتفادي ملاحقتهم في قضايا جرمية، أو من الفارين الذين اختفوا في سوريا أو في البلدان المحيطة بها.
في ريف بعض المحافظات المتوترة، وصلت وفود مشكَّلة من أمنيين ومدنيين، يقولون إنّ القصر الجمهوري انتدبهم لمهمات خاصة. ويعمل هؤلاء على الاجتماع بـ«وجهاء» القوم في هذه البلدة أو هذه المنطقة، وحتى بحضور معارضين ناشطين، ويستمعون إلى لائحة مطالب تتركز الآن على المطالبة بإطلاق معتقلين، أو إبعاد بعض الضباط الأمنيين والعسكريين من المنطقة، إلى جانب لائحة المطالب التنموية الكبيرة. وفي بعض الحالات، بدا أن الأمر نجح في احتواء الغضب، وفي نزع فتيل انفجارات كبيرة. حتى إنه جرى العفو عن فارين من الجيش أو من ملاحقة قانونية. كما حصل مع أولئك الذين سارعوا إلى استغلال الأزمة، وباشروا أعمالاً غير قانونية مثل البناء العشوائي أو عمليات التخزين والتصدير لبعض السلع الاستهلاكية الرئيسية، وخصوصاً من مجموعة «تجار الأزمات» الذين لا يهتمون بهوية من يسيطر على المنطقة. فهؤلاء يدفعون الخوة للجانبين، أي للنظام ولمجموعات مسلحة من المعارضين. وهذا أمر قائم في أكثر من منطقة.
عملياً، هذه هي الخطوات العملانية التي يشعر بها الناس كترجمة لما يعرف بالعملية الإصلاحية الشاملة. لكن الأمور الأخرى، من إلغاء حالة الطوارئ، إلى إلغاء محاكم أمن الدولة، إلى إلغاء المادة الثامنة من الدستور، إلى القانون الجديد للأحزاب أو الإعلام أو الجمعيات، وخلافه من عشرات القرارات والمراسيم التي صدرت خلال سنة حتى الآن، هي من دون نتائج عملية؛ لأن الإدارة الأمنية للبلاد لا تزال قائمة. ومسألة إحالة معتقل على قاضي تحقيق أو الاحتفاظ به من دون إبلاغ الجهات القضائية أو العكس، كلها لا تغير في واقع أن الاستنفار الأمني للسلطات يجعلها تتصرف وكأن حالة الطوارئ باقية. أما حزب البعث، فلا يزال يتمتع بامتيازات كان يجب أن تسحب منه لمصحلة الدولة ككل. بل على العكس، يشعر نافذون في الدولة بأن التدخل والتأثير الكبيرين لحزب البعث لا يزالان قائمين، وحيث تراجعا، فذلك جاء لمصلحة مراكز قرار في الحكم، لا لمصلحة مؤسسات الدولة. بينما لا يبدو أن بين القوى السياسية الناشطة من أحزاب جديدة، من خارج السياق، فيما أظهرت النسبة المتدنية جداً للمشاركة في الانتخابات النيابية، عدم ثقة الجمهور بأن هناك ما تغير، فضلاً عن استمرار العقلية الاستحواذية التي قادها من كان بيدهم أمر بتّ الترتشيحات؛ إذ جاءت النتائج بطريقة توحي أن العقلية المسيطرة على البعثيين، كما على الإدارة السياسية والأمنية لم تتغير. وما بقي بشأن الإعلام، فما دام الرقيب ينافس عنصر الأمن العام على الحدود، ويقف فوق رأس القارئ السوري، فلا أحد سيصدق أن سوريا الإصلاحات قد تغيرت فعلاً. حتى يتحول السؤال سوريالياً: مع كل هذا العنف والدماء والتناحر على أنواعه، هل لا يزال هناك من يخشى تأثير مقال أو تعليق بالرأي العام في سوريا؟
مع ذلك، إن آليات صناعة القرار في سوريا، توجب لفت الانتباه من جديد، إلى أن فصل معركة الإصلاحات العميقة عن العملية السياسية والأمنية لا يعني سوى محاولة إبقاء الأمور على حالها. وفي هذا رسالة محبطة للشارع بشقيه، المؤيد أو المتردد، وفيه أيضاً رسالة تحفيز للشارع المعارض الذي يبرر بعضه اللجوء إلى السلاح بالقول: لا مجال لانتظار أي تغيير من هذا النظام؟
ثمة أشياء كثيرة يجب القيام بها. لا شيء يمنع اليوم إعادة محاكمة المسؤولين عن جريمة درعا الأولى، ولا شيء يمنع توقيف رامي مخلوف ورفاقه من «بزنس المرحلة الدردرية» ومصادرة أملاكهم وتحويلها لتمويل برامج تنموية في الريف السوري المنهك. ولا شي يمنع إقالة إجبارية لقيادة حزب البعث وإحالتها على التقاعد غير المبكر أصلاً، ولا شيء يمنع نقل صلاحيات حقيقية إلى الحكومة، ولا شيء يمنع إبطال قرار استملاك ملايين الأمتار من الأراضي، والأهم من كل ذلك، هو أنه لا شيء يمنع الرئيس بشار الأسد الإعلان أنه رئيس لسوريا بوصفه مواطناً سورياً، وأنه لا يمكن أحداً بعد اليوم استغلال صلة النسب العائلي أو الحزبي أو المذهبي به، حتى يمارس تسلطاً على شعب تنهكه الأزمة المفتوحة على بحور من الدماء.
ثم إن المواجهة العسكرية نفسها تتطلب أشياء كثيرة يمكن القيام بها، ولم يعد جائزاً التذرع بالماكينة الصدئة، أو الإدارة المترهلة، أو سنوات الكسل التي ضربت العصب الحيوي. كل ذلك لم يعد ينفع؛ لأن المواجهة العسكرية والأمنية نفسها، أظهرت خلال سنة، خللاً في واقع الأجهزة الأمنية نفسها، وتبين أنها هرمة كما بقية الإدارات، وأنها تحتاج إلى إعادة تركيب وإعادة تأهيل وعملية تكييف مع واقع العصر، ما يجعلها تقوم بعملها واختصاصها من دون التدخل في حياة المواطن. ولا شيء يمنع العمل اليوم على إعادة تنظيمها، ولا سيما أن الجميع يتداول كلاماً منقولاً عن الرئيس الأسد نفسه، مفاده أن مشكلات الأجهزة الأمنية كانت خلف استعجال تدخل للجيش، وأدت كذلك إلى أخطاء سبّبت مقتل المئات من المدنيين والعسكريين على حد سواء.