لم أكتب في «الأخبار» منذ نهاية نيسان، إذ اعتقلت في 23 نيسان، وخرجت مبعداً من سوريا في 14 أيار، لكنّني لم أستطع الكتابة طيلة المدة منذ خروجي نتيجة الوضع الصحي الذي نتج عن اعتقالي. الآن أعود إلى الكتابة. أولاً أشكر كلّ من دافع عني أو طالب بي، أو كتب محتجاً، أو شارك في حراك يتعلق باعتقالي. شكري كبير لكل هؤلاء. وما أستطيع قوله لهم إنّني مستمر كما كنت، في مواقفي، وممارساتي.
في الصراع ضد الاستبداد في سوريا وكل الوطن العربي، ومن أجل مطالب الطبقات الشعبية التي قررت منذ زمن طويل أن أكون معها، وأن أدافع عنها بغض النظر عما يطاولني، إذ قبعت في السجون السورية لمدة ثماني سنوات، ولم أتردد في الوقوف مع الثورة منذ اللحظة الأولى، وخصوصاً أنّني كنت أشير إلى أنّ سوريا مقبلة على ثورة، وأنّ الشعب سوف يملأ الشوارع من أجل إسقاط النظام.
سوريا في ثورة، لا شك في ذلك. وهي ثورة منتصرة، وليس لدي أي شك في هذه النتيجة. لن أتناول هنا ما تعرضت له، فقد نشر في الإعلام ولا فائدة من تكراره. ما يهمني هو وضع سوريا الآن، حيث تمارس السلطة أبشع أنواع القتل والتدمير في كل المدن والبلدات. ويبدو مما يجري أنّ السلطة تتصرف بتوتر عالٍ وخوف شديد وارتباك، يجعلها لا تملك غير كل هذا العنف الوحشي، بعدما أحست بأن كل العنف الذي مورس خلال السنة والثلاثة أشهر لم يوقف الثورة، ولم يجعلها تتراجع أو يبدو أنّها تتراجع.
فقد عمت الثورة كل سوريا تقريباً، وأصبحت مناطق كثيرة خارج السيطرة أو بسيطرة ضعيفة. ولقد تمردت حلب، هذه المدينة التي كانت المثال على دعم الشعب للسلطة، إذ باتت تحتاج إلى القصف والاحتلال. وتتهاوى السيطرة على دمشق التي كانت تعدّ قاعدة السلطة، للقول إن الشعب يدعم السلطة. والفئات التجارية التي دافع جزء كبير منها عن السلطة، وموّل بعضه الشبيحة، أصبح أملها أن ترحل السلطة بعدما فشلت في حسم الصراع، وإعادة الأمن والأمان لكي تعود الحياة الاقتصادية إلى دورتها التي تصبّ في جيوبهم.
لهذا تتوتر السلطة، وتنكمش على أضيق حلقة في بنيتها، التي تعتبر أنّها الأكثر ثقة، بعدما تعمم الشك في كل بنى الدولة، كما تمارس أبشع أنواع التعذيب في حق المعتقلين من أجل الحصول من بعضهم على اعتراف بأنّه من «العصابات المسلحة»، التي تمارس «الاغتصاب والقتل والسرقة»، كما تقول الرواية التي صيغت منذ البدء لكي تغطي كل أنواع القتل التي مورست والتي تمارس الآن. وإذا كانت السلطة تقول إنّ «العصابات المسلحة» و«الإمارات الإسلامية» وجدت منذ البدء، أي من يوم 18 آذار، فقد اعترف بشار الأسد بأنّ الأشهر الستة الأولى لم تشهد عملاً مسلحاً، وهو الأمر الذي يوضح أنّ الرواية المكتوبة، ربما قبل بدء الثورة، كانت تلفق الأحداث من أجل تبرير القتل في مواجهة شعب يتظاهر ويعتصم سلمياً.
السلطة الآن تنحصر في أضيق بنية، ولهذا تتصرف برعب أكثر منه بثقة. وهذا هو الأمر الذي جعلها تلجأ إلى المجازر التي تستخدم فيها عمليات الذبح لا القتل فقط. عمليات تكررت في الفترة الأخيرة على نحو متسارع، رغم أنها كانت موجودة منذ أشهر. ويمكن القول إنّ الهدف منها هو إخافة الفئات العلوية أكثر منه تخويف الثورة، بهدف فرض تماسكها حول السلطة خشية التفكك وانهيار السلطة، إذ إنّ هدف هذه المجازر هو القول لهم إنّ انهيار السلطة سوف يقود إلى مجازر مقابلة، وبالتالي يجب الدفاع إلى النهاية عن السلطة، أي عن المافيا العائلية التي نهبتهم كما نهبت كل المجتمع. في هذا الوضع سيبدو أنّ البقايا التي تقف في صف السلطة يمكن أن تفلت، وأنّ «البنية الصلبة» يمكن أن تتفكك وهي ترى الكارثة التي يمكن أن تنتج عن كل هذه الوحشية التي تمارسها السلطة فقط من أجل مافيا تدافع عن مصالحها. وهذا ما يؤسس لكل هذا الجنون الدموي، ليبدو أنّها المعركة الأخيرة في صراع قرر الشعب أسسه رغم كل التداخلات والتدخلات و«الأفلام»، وكل العنف الذي هدف إلى إفشاله. تبقى روسيا التي يتسرّب أنّها باتت تبحث عن مرحلة ما بعد الأسد، ثم يعاد لافروف وزيراً للخارجية ليكرر الجمل ذاتها، وينفي ما بات واضحاً، دفاعاً عن سلطة ظهر أنّه وزير خارجيتها. ما يجب أن تعرفه روسيا هو أنّ كل الجرائم التي حدثت وتحدث تقع ضمن مسئوليتها نتيجة حمايتها المطلقة لسلطة دموية، وأنّ إسراعها في «رفع اليد» عن السلطة بالتخلي عن حمايتها هو ما يمكن أن يعوّض عن سياسة غبية مارستها طيلة أشهر. روسيا تميل إلى تجاوز مرحلة بشار، لكن ذلك يفرض السرعة لكي لا تتراكم الجرائم.
الوضع السوري يسير نحو الحسم، فالشعب بات أقوى، والسلطة تضعف وتصاب بالوهن، وهذا هو الأساس الذي سيفرض التغيير.
* كاتب عربي