تونس | منذ أيام، أصدرت المحكمة الابتدائية في تونس العاصمة حكماً يقضي بسجن العدل المنفّذ (من مساعدي القضاء) محمد علي بوعزيز بتهمة «التسبّب في احداث تخريب طال منشآت عمومية في جهات مختلفة من البلاد». وجاء ذلك بعدما نشر المتّهم صوراً على فايسبوك قال إنّها تمس بالمقدسات، وادّعى أنّها موجودة في المعرض الذي أقيم في «قصر العبدلية» (ضاحية المرسى شمال العاصمة).
تداعيات قضية «العبدلية» ما زالت متواصلة بعد أكثر من أسبوع على تعرّض المعرض لهجمة سلفيّة بدعوى «انتهاكه مقدّسات الإسلام». في العاشر من حزيران (يونيو) الذي صادف اختتام المعرض، زاره محمد علي بوعزيز مع مجموعة من السلفيين وطلب من المنظمين سحب بعض اللوحات التي «تتضمن إساءة الى المقدسات». الطلب الغريب للعدل المنفذ الذي لا يملك أي صفة للتدخل في الاختيارات الفنية واجهه الفنانون بدعوة زملائهم الى التجمع في «قصر العبدلية» للدفاع عن حرية الإبداع. لكن في المساء، عاد محمد علي بوعزيز مع مجموعة من السلفيين لسحب اللوحات بالقوة، ما أدى إلى وقوع مواجهات مع فنانين ومواطنين جاؤوا للدفاع عن المعرض ضد الهجمة السلفية، ثم تدخّل الأمن وسحب اللوحات وأغلق «قصر العبدلية».
لم تمض دقائق على هذه الحادثة حتى ظهر وزير الشؤون الدينية نور الدين الخادمي ليدين المعرض ويطالب التونسيين بالتظاهر «نصرةً للمقدسات». بهذا التصريح، صبّ الوزير الزيت على النار ، فاشتعلت تونس وسرى الحريق في ضواحي العاصمة الشعبية إلى تطاوين (جنوب) مروراً بجندوبة وسوسة والمنستير، وأحرقت مراكز الأمن وجرى الاعتداء على المعهد العالي للفنون الجميلة في سوسة وتعرضت دور الثقافة لمحاولات تخريب. بعدها، سارع ثلاثة وزراء في حكومة «النهضة» الإسلامية إلى عقد مؤتمر صحافي أعلنوا فيه الحرب على الفنانين لـ«مسّهم بالمقدسات»، وأعلن وزير الثقافة المهدي مبروك مقاضاة الجمعية المنظمة للمعرض وملاحقة الفنانين الذين تضمنت لوحاتهم «مساً بالمقدسات». كذلك تحدّث وزير الداخلية علي العريض عن «الإساءة الى المقدسات»، مديناً السلفيين والفنانين معاً على تلك المواجهات العنيفة!
في هذه الحمى من التصريحات، لم يتساءل أحد عن ماهية اللوحات «المتَّهمة»؟ لم تكن هناك أي لوحة «تمس بالمقدسات». أما تلك التي سبّبت تهييج الشارع ضد الفنانين، فكانت من السنغال. نعم الصور التي نُشرت على فايسبوك موجودة في السنغال لا في «العبدلية»، وكل الذين تحدثوا عن اللوحات المسيئة لم يزوروا المعرض ولم يشاهدوا اللوحات... فهل هي المصادفة أن يكون الاحتجاج على المعرض في يوم اختتامه؟ هل هي المصادفة أن يدعو رئيس حركة «النهضة» راشد الغنوشي الى «جمعة نصرة المقدسات» في كل البلاد قبل يوم من إعلان رئيس الحكومة السابق الباجي قائد السبسي حزبه الجديد الذي قال إنّه سيعيد الاعتبار إلى الجمهورية وإلى قيم الدولة؟ هل هي المصادفة أن يسارع بعض النواب في المجلس التأسيسي إلى المطالبة بسنّ فصل في الدستور يجرّم المس بالمقدسات؟ لقد بدت أحداث العبدلية مرتبة ترتيباً دقيقاً لضرب أكثر من عصفور بحجر. كان المقصود إلهاء الشارع عن فضيحة تسريب امتحانات البكالوريا التي ستمس بصدقية الشهادة، وهي جريمة حقيقية بغض النظر عن دوافعها أو الجهة التي تقف وراءها. كذلك فإنّ تحميل بقايا النظام السابق وأزلامه مسؤولية ما حدث، كما جاء في بيان راشد الغنوشي، يهيّئ الرأي العام لتقبّل مشروع إقصاء أعضاء «التجمّع الدستوري الديمقراطي» (الحزب الحاكم السابق) من الحياة السياسية الذي تعدّ له الترويكا الحاكمة وتواجه معارضة من القوى الأخرى، خصوصاً الأحزاب الرئيسية في المعارضة، بما فيها أحزاب اليسار الراديكالي. والهدف الثالث لهذه المسرحية المفتعلة هو تضمين الدستور فصلاً لما سمّوه «حماية المقدسات»، ليكون سيفاً مصلتاً على الإبداع بعدما فشل السلفيون في فرض الشريعة مصدراً وحيداً للدستور.
هكذا استُخدم الفنانون في معركة سياسية تهدف إلى تغيير نمط المجتمع وعاداته من خلال تجريم الإبداع تحت شعارات مختلفة، تبدأ بشحن البسطاء وتصوير الدين الإسلامي على أنّه مستهدف. لقد أثبتت هذه المعركة التي ما زالت تداعياتها متواصلة بعد هدر دم الفنانين من قبل شيخ «جامع الزيتونة» حسين العبيدي، والقضايا التي رفعها ناشطون وفنانون ضد وزراء الثقافة والداخلية والشؤون الدينية وعلي بوعزيز ، أنّ الصراع بدأ ينحصر بين نموذجين للمجتمع: تونس بتقاليدها في التنوير والحداثة وبين تونس الجديدة التي تسعى التيارات السلفية إلى فرضها من خلال المدارس القرآنية والتعليم الديني الموازي وجمعيات النهي عن المنكر ومعاداة الفن، مستفيدةً من وجود حركة «النهضة»... فإلى أين سينتهي الصراع؟