أسوأ المشاعر الخوف، وأسوأ منه الحقد. وأرى حقداً على الدولة، وعلى بُناتها. وأرى حقداً على المجتمع وثقافته وعاداته الحميمة. أحبّ قبل أن أكره، وأحسن الظن قبل أن أسيئه. لكنّ المقام الآن يقتضي الإدانة الصريحة وتحميل المسؤوليات. صيحات الفزع؟ بحّت أصواتنا وجفّت أقلامنا من إطلاقها ولا من سميع. بل لا نرى سوى الهروب إلى الأمام والتنصّل من المسؤولية بشتى أنواع المغالطات.
بعدما ظهرت نتائج انتخابات 23 أكتوبر، كتبت ما ظلّ يردّده بعض التونسيّين إلى اليوم: لا تصادروا النوايا، انتظروا الأفعال بعد الأقوال، اتركوا الحكومة تعمل... بل كتبت ما معناه: هذه طبقة سياسية جديدة، وصعودها إلى الحكم دليل على وجود ثورة وانقلاب اجتماعي. أليس أبدع من أن يتولّى الحكم من كانوا في السجون، حتّى وإن همس بعضهم أنّهم يحتاجون إلى تأهيل، حتّى وإن همس بعضهم أنّهم لم يناضلوا من أجل الحرّية بل من أجل الاستبداد باسم الدين؟ اُتّهمت عندها بقلب «الفيستة». نيّتي كانت صادقة، لأنّني أرفض استباق الأحداث ومصادرة النوايا، وأؤمن بقدرة هذه البلاد على إنتاج معجزات صغيرة صغر حجمها. بعد ذلك، توالت الأحداث، وتعاقبت الخيبات، وأصبحنا جميعاً من جماعة «الصفر فاصل» كما جاء على لسان أحد أعضاء الحكومة. بقية الشتائم الجاهزة معروفة، وأصبحت موضوع تندّر. ظهرت معاداة المعارضة على نحو بعيد عن الفكر الديمقراطي الباحث عن التوافق رغم الاختلاف، وبعيد عن العدالة الانتقاليّة وما تحمله من قدرة على تجاوز الماضي، واتّضحت المماطلة في إطلاق الهيئات التعديليّة التي تضمن استقلاليّة القضاء واستقلاليّة الإعلام ونزاهة الانتخابات. عدّلت موقفي، أصبحت أنتقد أداء الحكومة. واليوم، أرى الدولة في خطر، والسلم الاجتماعي في خطر، والحريات في خطر، وأترك شأن الاقتصاد إلى من يفهمونه، لكنّه أيضاً في خطر. والمهم أنّني أرى الخيبة على وجوه من قاموا بالثورة. لم يعد الموقف يحتمل النقد بل يتطلّب الإدانة وتحميل المسؤوليّة لمن يريدون التنصّل منها، وهذا دور المثقّف رغم أنّ الحملات على المثقّفين كثيرة، وتبدو منظّمة. وهذه هي الشعبويّة التي تصاحب الثورات، وقد تسبق الفاشيّة.
أتّهم السيد وزير الداخليّة بأنّه لم يكن عادلاً، وتمادى في عدم العدل إلى أن وضع أخيراً على الميزان نفسه وفي كفّتين متوازيتين من يعبّرون بالصورة وبغير العنف المادي ــ وإن افترض أنّهم «أساؤوا إلى المقدّسات» ــ ومن يشهرون الأسلحة ويدمّرون الممتلكات والمؤسّسات، مؤسّسات السيادة. السّيد وزير الداخليّة يدين «أقصى اليسار» و«أقصى اليمين». خطابيّاً، قد يعجب هذا التناظر البعض، لكن كم في الخطابة السياسيّة والبهلوانيّات الكلاميّة من مغالطات. أقصى اليسار هم الكادحون والعاطلون من العمل والفقراء الذين يعبّرون سلميّاً وإن بشطط أحياناً عن خيبتهم من برامج الحكومة. و«أقصى اليسار» أيضاً هم فنّانون عرضوا لوحات قد تكون ساخرة، قد تكون غاضبة، لا أدري. أقصى اليمين من هم؟ رأيتهم يتسلّقون الساعة كالأطفال المشاغبين الراغبين في عقاب يوضّح لهم حدود الممكن. رأيتهم في القيروان يستعرضون فنون القتال. وقبل ذلك، رأيتهم في كلية الآداب في منوبة حيث أدرّس. رأيت كيف يهشّمون الأبواب ويقتحمونها ويتّهمون الأساتذة بالكفر، ثمّ يعودون ويعيدون الكرّة، ويعتصمون لأسابيع، وتتعطّل الدروس. لم تستقرّ الأمور ولم نعد إلى أداء مهماتنا إلا بعدما أساؤوا إلى علم البلاد. رفعت القضايا ضدّهم، لكنّ السّيد وكيل الجمهوريّة في منّوبة ترك الملفّات على منضدته، ولم يسمح بإجراءات التحقيق إلا بعد أشهر طويلة. لا يحتاج الإنسان اليوم إلى أن يكون مثقّفاً حتّى يدرك ظاهرة الإفلات من العقاب، ولأسباب تتعلّق بإيديولوجيّة من يعتلون الحكم. وما أسوأ الإيديولوجيّات عندما تكون مدمّرة للدولة. ولكم في مواقف اتّحاد نقابات الأمن أبرز دليل على الانحياز والتهاون في تطبيق القانون. ولكم في تنامي العنف أبرز دليل على عواقب الإفلات من العقاب.
سيدي وزير الدّاخليّة،
أتذْكر ما حصل يوم الاحتفال بيوم المسرح العالمي؟ في يوم 27 آذار (مارس) 2011، رأينا فنّانين جاؤوا بأثواب زاهية وأقنعة ليقدّموا عروضاً أمام المسرح البلدي. هل تعدّوا على المقدّسات؟ كلاّ. كانوا كالفراشات الجميلة الرقيقة. مع ذلك، هاجمهم المرتكبون للعنف باسم الدين، ولم يجدوا نصرة من رجال الأمن، وهم على مقربة من وزارتكم. ما كان قراركم؟ حظر التظاهر في شارع الحبيب بورقيبة إلى أجل غير معلوم. هل عوقب من مارسوا العنف آنذاك؟ لا أعتقد. هل رأيت وجه جليلة بكّار ودموعها؟ ربّما. لكنّك واصلت. دمعت عيناك أيضاً في قبة البرلمان، وكان الموقف مؤثّراً بعد العنف الذي مارسه جهاز الأمن ضدّ المتظاهرين المسالمين في عيد الشهداء، وكنت منهم، واستنشقتُ غازات لم آلفها في عهد بن علي. قلت في نفسي: ربّما تجاوزته الأمور. ربما تذكّر آلام السجن ورآها في آلام من قمعتهم قوات الأمن يوم عيد الشهداء. لكنّني فوجئت كغيري بأنّ من أخذ الكلمة لمدحك يومها، وكان من الحزب الذي تنتمي إليه، أصبح رئيساً للجنة التحقيق في التجاوزات الأمنية يوم 9 نيسان (أبريل). أأنتم الخصم والحكم؟ أليس هذا هو قانون الغاب، قانون الأقوياء المنتشين بقوّتهم؟ هل تعي سيّدي الوزير الشحنة اللاأخلاقيّة في عمل سياسي من هذا القبيل؟ هل تعي عواقبه الرمزيّة والنفسيّة في شعب ثار على القهر؟
سيّدي الوزير،
ثبت بما لا يدعو مجالاً للشّك أنّ ما حصل من تخريب مؤسف ومن أعمال عنف في ليلة 11 حزيران (يونيو) كان نتيجة تلاعب بالمشاعر الدينيّة وتحريض مبالغ فيه. لقد افتتح المعرض في «العبدلية» في بداية حزيران وتواصل حتى التاسع منه، ولم يحصل شيء. لكن في العاشر من حزيران، ظهر زعيم تنظيم «القاعدة»، أيمن الظواهري، يحرّض التونسيين على الجهاد ضدّ الكفر. وفي اليوم نفسه، ظهر السيد وزير الشؤون الدينيّة ليعلن أنّ المقدّسات في خطر. وهذا وهم. كيف يتعرّض للخطر معتقد يؤمن به المليارات من البشر؟ أشك في إيمان من يعتبر الذات الإلهيّة، وهي متعالية، عرضة للإهانة أو الخطر. وقد ثبت أيضاً أنّ معرض «العبدلية» أدين للوحات لم تعرض فيه، منها ما هو موجود في السنغال.
أدين السيد وزير الشؤون الدّينيّة لأنّه لم يدع إلى التهدئة ونبذ العنف، ولأنّه أيضاً يكيل بمكيالين: يتسامح مع ممارسي العنف في المسجد الذي زاره وفقد فيه حذاءه على نحو مهين له وللدولة التي يمثّلها، ويحرّض على التظاهر ضد فنّانين مسالمين. وقد سبق أن رأيناه يدافع عمّن حرّض على القتل، ويختلق له الأعذار.
سيّدي وزير الشؤون الدينيّة،
سمعتك تتحدّث عن المواطنة وتبجل الدولة على الانتماء الطائفي والديني. لكنّني أرى سلوكك مختلفاً عن خطابك. لم أرك تدين العنف وسيطرة المتعصبين على المساجد بقدر ما رأيتك تحرّض الجموع وتهيّجهم.
أدين السيد وزير الثقافة، لأنّه أقدم على ما لم يقدم عليه وزير ثقافة في عهد بورقيبة أو بن علي: أقدم على رفع دعوى قضائيّة ضد جمعية فنيّة لا تشهر السيوف، ولا تحرق مراكز الأمن أو المحاكم، بل تسمح للفنّانين بعرض أعمالهم. في صبيحة يوم 13 حزيران 2012، في إذاعة «شمس أف أم»، تلجلج السيد الوزير، وتلعثم عندما قدّم له نقيب الفنّانين الحجج على أنّه أدان و«حجز» لوحات لم تكن موجودة في المعرض، وأوّل على نحو إيديولوجيّ وشعبويّ منحاز لوحات كانت معروضة، هي عرضة لشتّى التأويلات. أين تقف المقدّسات وأين تنتهي؟ عادل إمام أدين في مصر لأنّه سخر من المتعصّبين. فهل التعصّب من ثوابت الإسلام؟ موقف السيد وزير الثّقافة كان بعيداً عن الثقافة، وعن أوّليات ما تراكم من معارف عن التأويل واختلافاته، وعن أوّليات حريّة الضمير كما تنصّ عليها المواثيق الدّوليّة.
سيدي وزير الثقافة،
أحسنت بك الظنّ كعادتي. وعندما دعيت إلى حوار في قناة عربيّة وطرح عليّ سؤال عن موقفك الشهير من بعض المطربات العربيّات، دافعت عن موقفك. وقد كنت مخطئة. لأنّني رأيتك في تلك الندوة الصحافيّة الكابوسيّة تتحدّث عن قراراتك المخجلة بكلّ فخر وصلف. وفي الغد، حاولت تعديل موقفك، وأبديت معارضتك لدعوات القتل التي تستهدف الفنانين. لكن هيهات. إن حصل مكروه، فسيادتك ستكون مساهماً فيه. ولقد أغضبنا موقفك بشكل خاص، لأنّك وزير للثقافة، ومن يتولّى وزارة الثقافة يجب ألا يخون قضايا المبدعين، وألا يركب الموجة الشعبويّة. لقد فضّلت السياسة المؤدلجة على الثقافة، وتماديت. وربّما سيكتب التاريخ اسمك في السجلّ الأسود لمن أسهم في اضطهاد الفنانين حتّى يمهّد الطريق للفاشيّة الدينيّة. أدين السيد راشد الغنّوشي، لأنّه انحاز أيضاً إلى الحزب والإيديولوجيا على حساب الدولة والأمن. أحسن الظنّ بالسلفيّين، واعتبرهم دعاة لـ«ثقافة جديدة»، وباح لنا بأنّهم يذكّرونه بشبابه، وجاملهم، ولم أسمعه يندّد بأعمال العنف التي يأتونها إلاّ بقدر ما ندّد بضحاياهم، مخرجاً لنا في كل مرّة نظريّة «الاستفزاز» البافلوفيّة، كأنّ الناس حيوانات هوجاء غير عاقلة وغير ناطقة.

وأدين السيد راشد الغنوشي لأنّه في ليلة 13 حزيران، وحظر التجوال مفروض على البلاد، وقلوبنا واجفة، رأيناه يدعو من القناة الوطنية إلى التظاهر يوم الجمعة انتصاراً للمقدّسات.
السيد رئيس حزب «النهضة»،
هل تدرك خطورة ما أقدمت عليه؟ لم تدع إلى التظاهر ضد تعليمات تنظيم «القاعدة» وضد تدخّلها في الشأن التونسيّ ودعوتها إلى ممارسة الإرهاب، أو ضدّ التدمير والعنف، بل دعوت إلى حماية المقدّسات. إن كنت تريد استغلال التجييش الدينيّ للعواطف في حملة انتخابيّة سابقة لأوانها، فهل تدرك أنّ العفاريت يمكن أن تنطلق من عقالها، بحيث تدمّر الأخضر واليابس؟ هل تدرك أنّ هذه الماكيافليّة السياسيّة يمكن أن تدمّر البلاد، فهي غير محسوبة العواقب؟ السياسي يحسب العواقب عادة، وأراك لا تحسب العواقب، إلا إذا كان حزبك يتوخّى العنف سبيلاً إلى السيطرة على الدولة والمجتمع، وقد رأينا من أنصاره تصرّفاً ميليشياوياً باعثاً على القلق. والهجوم على الفنانين يذكّرنا على نحو محزن بالحركات الفاشية التي بدأت ترسي طغيانها عبر اضطهاد الفنانين.
أحمّلك مسؤوليّة كل خراب قد ينجم عن دعوتك. كنتم ضحايا في عهد بن علي؟ نعم، رغم تعقّد ملفات بعضكم. لكنّكم لم تقوموا بالثورة. نجحتم في الانتخابات ولكم شرعيّة انتخابيّة؟ نعم. لكنّ هذه الشرعيّة اهترأت لأنّكم لا تحمون الدولة ومؤسّساتها ولا تحمون المواطنين، ولا تحمون حرية الضمير التي تشمل حرية التعبير والمعتقد وحرية الإبداع.
السادة الكرام من أعضاء الحكومة وأصحاب القرار السياسي، والسيد رئيس الجمهورية المؤقّت بالذات،
أتّهمكم بإضعاف الدولة وعدم البحث عن الوفاق. أتّهمكم بإعادة إنتاج القهر. أتّهمكم بالبطر. أتّهمكم بمواصلة جرّ بلادنا الحبيية إلى المخاطر التي تفكّك أمنها ووحدتها. لا يوجد سقوط أخلاقي وسياسي أكبر من المساواة بين الضحية والجلاّد، وهذا ما فعلتموه باستمرار. أتّهمكم بالحقد على رموز البلاد وبُناتها وهو ما يؤدّي إلى فقر رمزي سياسي، واعتداء على الذاكرة لا تحمد عقباه. السادة المنتمين إلى حزب «النهضة»، أتّهمكم بتجاهل الطاهر الحداد وحركته الإصلاحية الفريدة التي جعل فيها الشريعة طريقاً لا ينتهي نحو الحرية والمساواة ولم ير فيها مجموعة من الأحكام الجاهزة المتكلّسة. أتّهمكم بعدم الزهد في يوطوبيا الإسلام السياسي. أتّهمكم بالتوجّه نحو المشرق ظنّاً منكم أنّ كنز الإسلام يوجد هناك، والحال أنّه يوجد بين أضلعكم، ويوجد في مجلّة الأحوال الشخصية باعتبارها انتصاراً للمساواة والحرية على فقه السلطة.
أدين كل من سمّيتهم في هذه الرسالة وأتّهمهم بالتفريط في الدولة في سبيل المتعة بالسلطة. لكنّني أتوجّه في هذه الرسالة إلى ما يسميه علي الدوعاجي «الركن النيّر». في قلب كلّ ظالم وحاقد، يوجد ركن نيّر ما. علي الدوعاجي هو ذلك الكاتب التونسي الذي نالته شتائم السيد وزير التعليم العالي الحالي. هل قرأه؟ أشكّ. للحقد طاقة وهّاجة لا تبقي ولا تذر. أدعوكم إلى العمل على التخلّص من هذا الحقد، بدل تصريفه في الشأن السياسي. لكنني في الأثناء: أدينكم وأحمّلكم المسؤوليّة التي تتفنّون في التملّص منها، بإنتاج كلّ الخطابات المشبوهة.
* كاتبة وأكاديمية تونسية
** تنشر هذه المقالة بإذن من جريدة «المغرب» التونسيّة