لو بقيت ريتا جبرايل وجنينها على قيد الحياة، من كان سيعرف أنها كانت تنوي تسمية طفلها المقبل كارل؟ لو بقيت ريتا وجنينها على قيد الحياة، لما كان لأحدٍ أن يعرف اسم الصغير إلا العائلة، المنتظِرة منذ ثمانية أشهر حدث الولادة. ولما كان لأحد أن يعرف من هي ريتا جبرايل، ومتى دخلت إلى المستشفى، ومتى أنجبت، ومتى خرجت منه. غير أن «الموت العلني» لهذه الأم وجنينها، الذي التصق إلى الأبد برحمها، عرّى ما كان يمكن أن يكون خصوصية، كأي موت آخر، وصبّ الزيت على النار. فقد تحوّل مأتم تلك الشابة وجنينها إلى عامّ ومباح، تناقلته شاشات التلفزة ومواقع التواصل، بعدما سرى خبر «قتل الطبيب (...) لمريضته بسبب إهماله» سريان النار في الهشيم.
هذا الموت الذي اتخذ أوصافاً كثيرة، ليس أقلّها القتل «لم يحترم خصوصيتين: خصوصية موت عزيزين، وخصوصية طبيب حكم عليه بالإعدام الاجتماعي قبل صدور أي تقرير يثبت تورطه أو عدمه»، يقول نقيب الأطباء شرف أبو شرف.
مع ذلك، كان لا بد لهذا الموت ألا يمرّ عابراً في دار نقابة أطباء لبنان. فنومة ريتا وجنينها الأبدية كانت بمثابة جرس إنذارٍ دق دار النقابة. إذ تنبّه الأطباء، بعد صحوتهم المتأخرة من «صدمة توقيف الطبيب المعالج لريتا»، إلى أن ثمة ما يشوب العلاقة بين الطبيب ومريضه من جهة، وبينه وبين الإعلام من جهةٍ أخرى. علاقة تغيّرت ملامحها كثيراً بعد الحادثة. فبحسب أبو شرف، انتقلت من «التميّز» إلى «عدم الثقة». ولهذا، كان لا بدّ للنقابة من مراجعة علاقاتها مع هذين الطرفين، للوصول إلى ميثاق «يحمينا ويحفظ سلامة المريض... وسلامة الإعلام تالياً».
قبل بضعة أيام، بدأت أولى تلك الإجراءات: رسالة إلكترونية (تعميم؟) «صارمة» وصلت إلى هواتف الأطباء المنتسبين إلى النقابة، تتضمن مطلباً واحداً: «عدم إعطاء استشارة أو وصفة طبية أو أخذ نتائج مخبرية أو أشعة على الهاتف». هذه الرسالة، التي أرفقتها النقابة بعبارة «للحفاظ على صحة المريض»، لها برأي أبو شرف غاية أخرى، قد تكون «الردّ» على ما حصل في الموضوع، سواء بالنسبة إلى الإعلام أو بالنسبة إلى المتعاطين مع هذه القضية، والذين هم «مرضى في نهاية المطاف». فحتى ما قبل الحادثة، كانت العلاقة مع المريض بشكل خاص، والإعلام من بعده، علاقة «مميزة جداً غير موجودة في أي بلد في العالم». بمعنى آخر، علاقة «أخوية». لكن، ما بعد الحادثة لا يشبه ما قبله، فثمة «خطأ موجود وهو إما فينا كأطباء، أو في المريض أو في الإعلام». خطأ يوازي بنسبته نسبة الأخطاء الطبية، أي «10%». وهذه النسبة تحتاج إلى علاج. من هنا، بدأت النقابة ردّها الأول، لتستتبعه بسلسلة اجتماعات لمجلس النقابة من أجل تحديد المفاهيم الجديدة للعلاقة ما بين الطبيب والمريض والإعلام.
بالنسبة إلى الردّ الأول، أو التعميم، فهذا لا يمكن تصنيفه في خانة «الردّ السلبي»، لكنه قد يأتي في إطار تنظيم العلاقة بين الطبيب والمريض «على غرار ما يجري في الدول الأوروبية والأميركية، فإن كانت الثقة مفقودة بيني وبين مريضي، فلنتبع أسلوب تلك الدول»، يقول أبو شرف. بتعبير آخر، إلغاء هالة التميّز، حيث تنتهي العلاقة «هاتفياً» بين المريض والطبيب لتصبح علاقة «بروتوكولية»: فإما أن يدخل المريض قسم الطوارئ في المستشفى إن كانت حالته تستوجب ذلك، على أن يشرف عليه طبيب الطوارئ ليحوّله بعدها إلى الطبيب المختص، وإما أن يقصد المريض طبيبه في عيادته. وهذه دونها «صعوبات». ولعل أهم تلك الصعوبات، تدخل في خانة «الإنسانية». ففي السابق، كانت العلاقة بين الطرفين «علاقة بالتراضي، إذ يحتاج الطبيب إلى نسج علاقة طيبة مع المريض من جهة، ويستفيد المريض من تلك العلاقة بتخفيف مصاريف العيادة على جيبه» من جهة ثانية، تقول إحدى الطبيبات التي لا تستطيع الكشف عن اسمها، التزاماً بالإجراءات الجديدة «التي تستوجب الحصول على الإذن من نقابة الأطباء للحديث». أما الصعوبة التالية فهي تلك المتعلقة بالحالة المادية «إذ يصعب علينا الوصول إلى هذه الآلية في العمل، هناك الكثير من المرضى غير القادرين على دفع كشفية الطبيب كل مرة يقصدونه فيها». لكن مع ذلك، ثمة رضى «بالإجماع» عن هذه القرارات، فهي تحمي الطبيب من الملاحقة القانونية، وبالتالي تحافظ على سلامة المريض «عندما نكشف عليه، بدلاً من سماع حالته على الهاتف»، وثالثاً «تحمي الإعلام وتحمينا منه»، يقول أحد الأطباء.
إجراءان، والثالث على «نارٍ حامية»، يتابع النقيب، وهو تنظيم العلاقة الملتبسة مع الإعلام، والتي كانت قد بدأت قبل حادثة وفاة جبرايل. يروي النقيب أنه قبل حوالى شهر ونصف شهر من الحادثة «كنا قد شكلنا لجنة لتقويم موضوع العلاقة مع الإعلام ووضع أسس لها، وتحديداً في ما يخصّ الظهور الإعلامي للأطباء وتنظيم البرامج الطبية». لكن حادثة جبرايل سرّعت العمل أكثر. ويتوقع أبو شرف أن ينتهي عمل اللجنة في غضون أسبوعين لبلورة تلك الأسس، على أن يليها عقد اجتماعات مع الإعلاميين للخروج بـ«ميثاق تفاهم». لكن، قبل الاجتماعات المرتقبة، ثمة كأس فاضت بـ«الأذية» لأطباء «تبيّن أن ما يفعلونه يضعه المريض والإعلام في خانة تحصيل الحاصل». ويعود أبو شرف هنا إلى الحديث عن «قضية» الطبيب موسى أبو حمد «القاتل والمجرم بحسب التقارير الإعلامية والقضائية، وكل ذلك قبل أن يصدر تقرير الاختصاصيين الذي أشار إلى عدم وجود خطأ طبي». وهنا، بيت القصيد والإجراء الرابع لإفهام الكلّ «الفارق بين الخطأ والمضاعفة». فلو كان أبو حمد «مخطئاً لكنا اتخذنا إجراءاتنا كنقابة بتحويله إلى مجلس تأديبي». لكنه، ليس كذلك، وما حصل مع جبرايل «جلطة»، أي «مضاعفة»، وليس خطأ كما «رأت» وسائل الإعلام والقضاء. وهو الخطأ نفسه الذي نجم عنه «التوقيف الاحتياطي للطبيب المخالف للقانون» وطعن الطبيب «في سمعته». لكن كل هذا «لن يمر ولم يمرّ أصلاً»، يقول أبو شرف، مضيفاً إن «النقابة تقدّمت بدعوى ضد القاضية التي أصدرت الحكم بالإهمال ودعوى ضد المحامي لدى نقابة المحامين»... والدعوى الثالثة ضد «من ساهموا في تشويه صورة الطبيب»، ومنهم إعلاميون.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو عن القدرة على تنفيذ تعاميم النقابة الجديدة، وخصوصاً في ظل غياب المقوّمات التي تتيح ذلك، ومنها على سبيل المثال ما يتعلق بحجم أقسام الطوارئ في المستشفيات.