إسطنبول | منذ تسلم حزب «العدالة والتنمية» الحكم في تركيا، تناولت أحاديث كثيرة في الداخل والخارج، وخصوصاً في العواصم الغربية، النهج السياسي والعقائدي المحتمل لرئيس الوزراء، رجب طيب أردوغان، ووزير خارجيته أحمد داوود أوغلو، الذي يُعَدّ مهندس السياسة الخارجية لتركيا، الثنائي الذي أثار الاهتمام عندما دخل في تحالفات استراتيجية مع دمشق وبغداد وعبرها مع طهران والعديد من العواصم العربية الأخرى، وهو ما دفع العديد من وسائل الإعلام الغربية إلى اتهام أنقرة قبل عامين، أي قبل أشهر من الربيع العربي، بالانحراف عن المسار التقليدي للدولة التركية، عبر الابتعاد عن الغرب والتقارب مع الدول العربية والإسلامية، ما يعني تصاعد المشاعر القومية والإسلامية للقيادة التركية ذات الجذور الإسلامية العثمانية. لقد تعرّض الثنائي أردوغان ــ داوود أوغلو لانتقادات عنيفة جداً في الداخل أيضاً، حيث لم يخف كثيرون من ذوي العقلية الغربية في الإعلام التركي قلقهم من هذا الانحراف، ورأوا أنه سيبعد تركيا عن مسارها الحقيقي، ما يعني في الوقت نفسه التكامل مع الغرب بكل مؤسساته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إلى أن جاءت تطورات الربيع العربي لتضع الجميع أمام تحديات جديدة، بحيث تخلى الغرب عن اتهاماته لحكومة أردوغان بالانحراف، وراحت العواصم الغربية تؤيّد أردوغان في تبينه للثورات العربية، ما دام ابتعد عن إيران وسوريا وحزب الله، وأبعد حركة «حماس» عن دمشق.
لقد اكتسب السلوك التركي الجديد أهمية بالغة عندما أوصلت الثورات العربية الإسلاميين إلى السلطة في تونس ومصر، وهي الدول التي كانت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية؛ فهذا السلوك ينحو باتجاه بسط السيطرة التركية السنّية على الشرق العربي بعد سقوط النظام في سوريا، لتصبح جارة الإمبراطورية الفارسية الصفوية، على حد قول وتصور العديد من المراقبين في الخليج العربي، الذين يريدون لتركيا العثمانية أن تكون بالمرصاد باسم الإسلام السني لـ«المد الشيعي»، الذي عجزت أميركا وإسرائيل عن مواجهته طوال الأعوام الثلاثين الماضية. ومن دون أن يخطر على بال هؤلاء جميعاً أن أول الذين تمردوا على الدولة العثماينة هم ملوك هذه الدول وأمراؤها ومشايخها، وقد تحولت الآن، بإيعاز من واشنطن، إلى حليف استراتيجي للأتراك، الذين يعرف الجميع أنهم يكرهون هؤلاء الملوك والمشايخ والأمراء لأسباب عديدة، أهمها أن الأتراك يرون فيهم نمطاً لا يتفق مع أبسط المعايير الاجتماعية والثقافية والدينية، التي يؤمنون بها، وما يثبت ذلك أن أحداً من السلاطين العثمانيين، وكانوا جميعاً خلفاء إسلاميين، لم يحج إلى مكة.
هذا الصعود في الدور التركي الجديد دفع إلى العودة لتاريخ الدولة العثمانية في المنطقة، لكن من دون أن يخطر على بال أحد عن أي دولة هم يتحدثون، وخصوصاً في هذه المرحلة التي يشهد فيها الشارع التركي أيضاً نقاشاً مثيراً عن ماهية هذه الدولة، من خلال مسلسل تاريخي يحكي قصة حريم السلطان سليمان؛ فراح الجميع يروي المثير من السيناريوات عن هذا التاريخ، ما دامت الروايات التركية الرسمية أخفت جميع حقائقه عن المواطن التركي والعالم أجمع.
في 5 آذار الماضي، نشر الإعلامي التركي الشهير، رحمي تروان، في زاويته الخاصة بصحيفة «حرييات» التركية، مقالاً بعنوان «ذكريات الملوك»، تطرق فيه إلى المسلسل المذكور. وقال إن جميع السلاطين العثمانيين، باستثناء مؤسـس الدولة العثمانية عثمان غازي، قد تزوجوا بغير التركيات. ونشر دراسة عن هذا الموضوع، أشار فيها إلى أن الأتراك الذين يفخرون بتاريخهم العثماني التركي القومي العريق والأصيل يجب أن يعرفوا أن الدم التركي لم يكن موجوداً في عروق السلاطين العثمانيين؛ لأن 35 من هؤلاء قد تزوجوا النساء المغوليات والروميات والبلغاريات والصربيات واليهوديات والإيطاليات واليونانيات والإسبانيات والروسيات والفرنسيات والجورجيات والبريطانيات.
وقال توران إنه إذا أخذنا في الاعتبار هذا الاختلاط بين السلاطين العثمانيين والنساء غير التركيات والمسلمات، تبين لنا أن ما بقي من دم تركي في عروق آخر سلطان، وهو وحيد الدين، لا ولن يتجاوز ستة بالألف من دمائه. وهو ما يضع القوميين الأتراك قومياً ودينياً في وضع صعب جداً؛ لأن أمهاتهم كنّ من أديان وقوميات أخرى معادية للأتراك دينياً وقومياً. ومع ذلك، إن هذا الجانب السلبي للدم العثماني لم يكن كافياً بالنسبة إلى أولئك المهتمين بالتاريخ العثماني الحديث، ما دام أردوغان وداوود أوغلو يتحدثان عن إحياء ذكريات التاريخ العثماني في المنطقة من خلال سيطرة العثمانيين الذين يرون في حزب «العدالة والتنمية» نموذجاً مثالياً لهم.
وقد أشار العديد من المثقفين الأتراك إلى الكتاب الذي نشره الكاتب والصحافي الشهير، شاتين ألطان، تحت عنوان «خفايا التاريخ»، والذي تطرق من خلاله إلى تاريخ السلاطين العثمانيين منذ عام 1270للميلاد، حين بدأ الحكّام العثمانيون بقتل أقرب المقربين إليهم من أجل السلطة. وبدأ ألطان كتابه بالحديث عن الخلاف الذي نشب بعد وفاة أرطوغرول بين ابنه عثمان وعمه دوندار، وانتهى بقتل عثمان لعمه واستيلائه على الحكم، ليقيم بعد ذلك الدولة العثمانية عام 1299، ويبدأ معه تاريخ القتل العائلي داخل الأسرة العثمانية الحاكمة. وخلف أورهان والده عثمان الذي توفي عام 1324، من دون أن يقتل أياً من أشقائه أو أقربائه، لكن نجله مراد الأول قتل شقيقيه إبراهيم وخليل (وهما من أُمَين أخريين)، ثم كوى، بتحريض من زوجته الأولى، عيني ولده ساوجي بالنار، وأعدمه حتى لا ينافس أولاده الآخرين على السلطة.
ولم يتردّد السلطان مراد، وهو على فراش الموت في معركة كوسوفو عام 1389، في إصدار تعليماته، حسب الرواية الرسمية، من أجل خنق نجله يعقوب حتى لا ينافس شقيقه بيازيد الأول، الذي اختاره مراد خليفة له، ومن دون أن يراعي أحد ظروف مقتل يعقوب، الذي كان في ساحة المعركة مع الصرب، عندما استدعي إلى خيمة والده وهو على فراش الموت.
ودفع بيازيد ثمن غدره هذا بالوقوع في الأسر واستبعاده من الحكم من قبل المغولي تيمورلينك عام 1402، وقد كان له 6 أولاد من 3 زوجات: تركية وبلغارية وصربية. ليقع الخلاف والاقتتال سريعاً بين هؤلاء الأولاد الستة، فقُتل 3 منهم وهرب آخران، وبقيت السلطة لمحمد الأول، الذي حكم حتى عام 1421. أراد محمد الأول، الذي كان مريضاً، أن يحمي ولده الصغير من غدر ولده الأكبر مراد الثاني، فأوصى بأن يذهبا إلى الدولة البيزنطية بعد وفاته، وهو ما لم يتحقق له؛ لأن مراد الثاني قتل عمه مصطفى وشقيقه مصطفى أيضاً بعدما استولى على السلطة، وكوى عيني شقيقه الأصغر يوسف.
وتُبين المعلومات أن السلاطين العشرة الذين حكموا الدولة العثمانية ما بين عامي 1299 و1566 ميلادي قد قتلوا جميعاً أولادهم أو أشقاءهم أو أبناءهم من دون أي رحمة من أجل السلطة، وقد استمرت هذه «العادة» في العائلة العثمانية حتى انتهاء الحكم العثماني عام 1922، فارتكب جميع السلاطين، وعددهم 36، باستثناء 9، جرائم عائلية. وتبقى حكاية السلطان محمد الثاني، أي محمد الفاتح الذي فتح إسطنبول، وهو نجل مراد الثاني، لافتة، بعدما أصدر محمد أمراً شرعياً حلل فيه قتل السلطان لشقيقه من أجل وحدة الدولة ومصالحها العليا. أما قصة مراد الثالث، وهو نجل السلطان سليم الثاني، فهي الأكثر إثارة في عالم القتل والغدر من أجل السياسة، إذ قتل أشقاءه الخمسة فور تنصيبه سلطاناً على البلاد خلفاً لوالده. ولم يكن ولده محمد الثالث أقل إجراماً من والده مراد الثالث، بحيث قتل أشقاءه التسعة عشر فور تسلمه للسلطة ليصبح صاحب الرقم القياسي في هذا المجال. ولم يكتف محمد الثالث بذلك، فقتل 7 جوارٍ حوامل قيل إنهن كنّ على علاقة بأشقائه. كذلك فإنه لم يتردد في قتل ولده الصغير محمود، الذي يبلغ من العمر السادسة عشرة عاماً، كي تبقى السلطة لولده البالغ من العمر الرابعة عشرة عاماً، وهو السلطان أحمد، الذي اشتهر في ما بعد ببنائه جامع السلطان أحمد في إسطنبول، والمعروف بالجامع الأزرق. أما السلطان أحمد الشاب، فلم يتردد بدوره في وضع شقيقه مصطفى البالغ من العمر 13 عاماً في قفص خاص حتى لا يشكل خطراً عليه بحجة أنه مجنون.
وشهد التاريخ العثماني أيضاً العشرات من حالات التمرّد من قبل الجيش العثماني المعروف بالأنكشاري، حيث أطاحت هذه التمردات أربعة عشر سلطاناً راحوا ضحية لمؤامرات عائلية أو بين الأمراء وقادة الجيش الأنشكاري، وأحياناً بمؤامرة خارجية، كما هي الحال بالنسبة إلى السلطان عبد الحميد الذي أطاحه حزب «الاتحاد والترقي» المعروف بعلاقة قادته باليهود، الذين انتقموا من السلطان عبد الحميد؛ لأنه رفض أن يعطيهم فلسطين، رغم بعض الامتيازات التي اعترف بها لهم هناك.
ويشبّه الكثيرون انقلابات الجيش التركي في العهد الجمهوري بتمرّدات الجيش الأنكشاري في العهد العثماني، حيث أطاح الجيش أيضاً أربعة من الحكومات منذ 1960 وأعدم واحداً من رؤساء الوزراء، إلى أن نجح «السلطان العثماني» رجب طيب أردوغان، كما يسميه البعض من الإعلاميين الأتراك، في التخلص من هذا الجيش بدعم أميركي.
في الخلاصة، إن الحقيقة المؤرخة تقول إن عدد الأمراء العثمانيين الذين قُتلوا على أيدي آبائهم وأشقائهم وأبنائهم قد وصل إلى 121، مقابل 44 رئيساً للوزراء الذين أعدمهم السلاطين العثمانيون. حقيقة يجب أن توضع أمام نصب عيني كل من يحلم بأمجاد الدولة العثمانية، ويعتبر أن نموذجها الحالي المثالي هو تركيا بقيادة العثمانيين الأصليين أردوغان ــ داوود أوغلو.



جام واليهود


حكاية الأمير جام هي الأكثر عاطفية في تاريخ الحكم العثماني وعلاقته باليهود. فقد سعى السلطان بيازيد الثاني (الصورة) إلى التخلص من شقيقه الصغير جام، الذي لجأ بدوره إلى أمراء جزيرة رودوس فأخذوه إلى فرنسا خوفاً من محاصرة السلطان بيازيد للجزيرة. رضي الأخير بهذا المصير لشقيقه ودفع 45 ألف ليرة ذهبية للأمراء مقابل إبقاء جام هناك.
تنقل جام خلال 7 سنوات بين رودوس وباريس والقاهرة، إلى أن اتفق الأمراء والملك الفرنسي على تسليم جام لبابا الفاتيكان أينوسيت الرابع، الذي أخذ بدوره حصته من أموال بيازيد. واتفق البابا وملك فرنسا على استخدام جام ورقة ضغط على بيازيد حتى يقبل بنقل يهود إسبانيا إلى أراضي الدولة العثمانية، وذلك بعد سقوط الدولة الإسلامية في الأندلس عام 1492، بعدما قتل الملك الإسباني فرديناند مَن قتل من المسلمين وطلب من اليهود اعتناق الدين المسيحي أو مغادرة إسبانيا. ونجحت ضغوط البابا وملك فرنسا في دفع بيازيد إلى نقل الآلاف من اليهود لأراضي الدولة العثمانية. وفي المقابل سمّم الملك الفرنسي الأمير جام وتخلص منه.