لغاية اليوم، لا أحد يعرف الطريقة التي خرج بها نجل وزير الدفاع السوري السابق، مناف طلاس من دمشق، لتبقى لغزاً لدى الأجهزة الأمنية السورية. فالرواية التي تحدثت عن خروجه عن طريق تركيا الى باريس، ليس لها أي مستند على أرض الواقع. وفي الأيام الأخيرة تتعاظم المؤشرات عن أنه ربما جاء الى لبنان، ومنه غادر الى باريس. وما بات مؤكداً، أن زوجته وابنه أقاما عدة أيام في بيروت قبل مغادرة طلاس دمشق. وعند الساعة الرابعة من اليوم ذاته، الذي شاع فيه خبر خروج العميد مناف من سوريا، أقلتهما سيارة يقودها (م. ح.) إلى المطار وغادرا باسميهما الحقيقيين: تالا خير وأحمد مناف طلاس، إلى باريس.
بات مؤكداً الآن أن مناف طلاس يقيم مع والده في العاصمة الفرنسية. وثمة تشدد لديهما بالابتعاد عن الاعلام. ومنذ عدة أيام، بدأ مناف يستجيب لاتصالات هاتفية ترده من أصدقائه الخلّص. وفي دمشق لا يزال هناك تحفظ بخصوص نعته «بالخائن»، ويبدو أن الرهان لا يزال قائماً على إعادته إلى سوريا أو إبقائه خارجها من دون أن يكون بعيداً عن الرئيس السوري بشار الأسد.
طوال الفترة الماضية، استمر طلاس يحيد بشار الأسد من معركته ضد الأجهزة الامنية. لكن مقربين يقولون إنه يوجد خلف ما يحصل «عتاب لدى عائلة العماد طلاس على الرئيس الأسد». يروي هؤلاء «أن العماد طلاس والرئيس حافظ الأسد، كانا يرددان في الفترة الأخيرة من حياة الأخير أمام ولديهما، أنه عند موتهما فإن بشار ومناف سيستمران معاً، لكن ثمة ما حصل ولم تكن النتيجة كذلك».
مناف نفسه كان يردد أمام مقربين أن «الأسد الاب جعل ثلاثة أقرب رجال إليه هم من الطائفة السنية، لكن حالي معاكسة، اذ إن موقعي عند الرئيس من حيث الأهمية يأتي في الدرجة التاسعة».

اغتيال المهمة

والواقع أن انشقاق مناف طلاس شكل نصف مفاجأة. فهو منذ وقت مبكر من بدء الأحداث السورية، كان قد أعلن نوعاً من التمرد، ليس على الرئيس بشار الأسد، إنما على «نفوذ معطلي خيار الحل السياسي» داخل حلقة القرار الضيقة المحيطة بالرئيس. وهو كرر مراراً أن «هؤلاء أصحاب مصالح ورموز في الأجهزة الأمنية».
في بدايات الأزمة، قاد مناف مبادرات ميدانية للحوار مع بلدات انتفضت في ريف دمشق، وخاصة في دوما وداريا والمعظمية وغيرها، وذلك عبر قيامه بإدارة حوارات مباشرة معها، بوصفه ممثلاً لمبادرات حسن النية من قبل الأسد. وكان مناف يعرض تقييماً وتفاصيل أمام أصدقاء ثابروا على زيارته. وكان يعدد عشرات الحالات التي ذهب خلالها شخصياً إلى عائلات وعشائر منخرطة في التظاهرات بوصفه مبعوثاً خاصاً للأسد، إضافةً إلى كونه نجل العماد مصطفى طلاس وابن بلدة الرستن، التي خرّجت مئات الضباط في الجيش السوري. وكان يؤكد أنه نجح في إرساء التهدئة في كثير من المرات، واستطاع وصل ما انقطع بين الرئيس والناس في عدد من المناطق، مشدداً على أن هؤلاء المواطنين لم يكن لديهم مطالب كبيرة، وأن الرئيس استجاب لها جميعها. لكنه يضيف بغضب «مهمتي تم اغتيالها من قبل جهات في الأجهزة الأمنية وأشخاص حول الرئيس، تعمدوا تخريب المناخ الحواري لمصلحة حل أمني صرف».

الاعتكاف

رد طلاس على ما سماه «احباط جماعة الأمن» لمبادراته بأن اعتكف عن أداء مهامه العسكرية الميدانية، وليس صحيحاً، ما تناقلته وسائل إعلامية، عن أنه نزع بزته العسكرية والتزم منزله. وظل لفترة طويلة بعد اعتكافه، يتواجد يومياً في مكتبه في القصر الجمهوري وغالباً في مقر الكتيبة ١٠٥ التابعة للحرس الجمهوري المسؤولة عن حماية العاصمة.
في منزله في حي المزة، درج بعد إعلان اعتكافه احتجاجاً على اهمال خياره السياسي للتعاطي مع الأزمة، على استقبال أصدقاء له، منهم من يوافقه رأيه أو يختلف معه، حيث يجاهر أمامهم بأنه غير راضٍ عن الخيار الأمني لحل الأزمة السورية، ويعدد أمامهم أسماء مجموعة أشخاص في الأجهزة الأمنية وداخل الحلقة الضيقة حول الرئيس، بوصفهم المسؤولين عن أخذ البلد والنظام الى كارثة كبرى.

«المعلم»

ظل مناف طوال فترة اعتكافه، على صلة صداقة وتواصل مع الأسد وغالباً ما يناديه باسم «المعلم». في جلساته هذه، حافظ على لغة الاحترام للأسد خلال الحديث عنه. يقول: «الرئيس ليس دموياً. لقد ورطه محيطون به بالدم. أنا أعرفه جيداً، هو لا يشبه أبداً صدام حسين. لا زلت احتفظ معه بعلاقة وطيدة». ويشير إلى الهاتف قائلاً «منذ ايام تحدثت مع المعلم».
بعد تفاقم أزمة درعا وانتقالها إلى مناطق أخرى، بدا مناف غاضباً ازاء نجاح أقطاب الخيار الأمني بفرض اجندتهم على القرار. يضيف وكأنه يخاطب نفسه: «لا يمكن حل القضية بالعنف. العنف يغذي القوى التي تريد توسيع دائرته». يصمت قليلاً، ثم يُطلق هواء سيجاره الفاخر الذي يكاد لا يسقط من بين أنامله. ثم يقول: «هذه معلومة ليست للنشر، في دوما الساكنة الآن، يوجد ألفا مسلح منضوون في كتائب تطلق على نفسها تسمية جماعة أبو عبيدة الجراح، ويتقاضى كل فرد منهم مبلغ ثلاثمائة دولار تدفعها دولة قطر». ينصح محذراً «الحل هو عبر مبادرات حوار سريعة مع هذه المناطق قبل أن تنفجر. يجب اقامة الحوار بين النظام والناس، ويصار إلى تلبية مطالبهم لجعلهم يعرضون عن تأمين البيئة الحاضنة للمسلحين».
أما فكرته للحل فيختصرها بقوله «أنا أقدر على لعب دور الوسيط بين المعارضة السنية بشكل خاص وبين الرئيس الأسد. في البداية قمت بهذا الدور، وعهد إليّ المعلم به، لكن المتضررين من الحل السياسي لأسباب تتعلق بخشيتهم على مصالحهم في حال حصلت التسوية وبدء الاصلاح، قطعوا الطريق على مهمتي، لذلك قررت الاعتكاف».

روايته عن بابا عمرو

بعد أحداث بابا عمرو، أصبح أكثر وحدة، لكن صلته بالأسد لم تنقطع. الهاتف ظل مفتوحاً بالاتجاهين بين منزله في المزة وبين مقر الرئاسة. علق: «كم مسلحاً كان يقاتل في باب عمرو ... أجاب أحد الحضور: ٧٠٠ مقاتل. قال: صحيح. ويُقال قتل منهم ٢٠٠ مقاتل. ولكن ماذا حل بالآخرين. لقد هربوا الى لبنان، ومن هناك سيقاتلون ضدنا عبر الحدود. ولكن ما هو غير معروف أن معركة بابا عمرو حسمت بعد إبرام صفقة، بموجبها ترك الجيش للمسلحين ممراً لينسحبوا منه. وهذا ما حصل فعلاً وانتهت المعركة. لكنني اكرر. هذا ليس حلاً. وأنا أحذر من أنه يوجد في سوريا ألف بابا عمرو».
ما كان يلفت الكثير من الذين واظبوا على زيارته، وناقشوه حتى من موقع الاختلاف، أنه دائماً كان تحت وطأة فكرتين ملحتين: الأولى نقد عنيف لخطأ الحل الأمني، والثانية قناعته بوجود مؤامرة خارجية على سوريا وعلى الأسد وعلى دور دمشق الإقليمي. وخلال فترة طويلة من ربيع هذا العام، لحظ زواره تحولاً في موقفه يميل أكثر لتغليب حضور الفكرة الثانية في تفكيره وخطابه على الأولى. وهو يستند هنا إلى معلومات وصلته من الرئيس الأسد. وذات مرة قال: «أصبح واضحاً ماذا تريد إدارة أوباما من الرئيس بشار الأسد. إنها تطالبه بحزم أن يصحح ما تعتبره خطأه الاستراتيجي الذي اقترفه خلال حرب تموز العام ٢٠٠٦ في لبنان، وذلك حينما ملأ مخازن حزب الله بصواريخ متنوعة، وبينها الصواريخ المضادة للدروع. واشنطن قالت للأسد مؤخراً إنه مطلوب منه تصحيح هذا الخطأ، وإلا فان الضغط الدولي من خلال المطالبة بإسقاطه سيتعاظم على نحو غير مسبوق».
ويضيف أن العرض الأميركي على بشار يقول: «يجب أن تصحح هذا الخطأ من خلال تفكيك منظومة صواريخ حزب الله التي بنيتها له في العام ٢٠٠٦، لكن هذا العرض لا يتضمن وعداً بإنهاء دعم واشنطن للحراك أو وقف الضغط الدولي على سوريا، في حال نفذ ما تريده. العرض يقول أفعل ذلك، ثم نرى».
ويكشف طلاس، في سياق تحليله لموقع هذه القضية في حملة واشنطن ضد النظام، أن الأسد «تجاوز في حرب العام ٢٠٠٦ الخط الأحمر الأميركي، الذي لو كان والده لا يزال حياً لكان تحاشى تجاوزه بهذه الدرجة من الاقتحامية، وهذا تقدير والدي أيضاً».
ويتابع «الأميركيون والإسرائيليون فوجئوا بما فعله بشار، وهم مضطربون بشكل أساسي، ليس من صواريخ رعد أو زلزال طويلة المدى، بل من الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى التي أرسلها بشار بأعداد وفيرة لحزب الله خلال الحرب، وأيضاً من الصواريخ المضادة للدروع، وهم يطالبونه اليوم بتفكيك كل هذه المنظومة، كنوع من رغبتهم بضربه على أطراف أصابعه عقاباً، ولا يتعهدون بالمقابل بإيقاف الحملة عليه».
ويوافق مناف على التقدير القائل إن الأسد «لن يقوم بتفكيك منظومة صواريخ حزب الله»، موضحاً أن «أحد أهم مقومات شرعية النظام السوري هو دعمه للمقاومة ضد إسرائيل. والرئيس بات واضحاً أنه رجل لا يسير تحت شمس الضغوط الدولية، ويعرف أن أميركا تطلب لتأخذ المزيد ولا تعطي شيئاً بالمقابل سوى طلب المزيد من التنازلات».

مجلس عسكري

بداية هذه السنة، كان في جعبة مناف معلومات عن عرض دولي لحل الأزمة السورية مدعوماً من موسكو. كشف لزائريه أن الوضع الدولي «يتجه في الكواليس لإرساء حل للأزمة يقوم على إنشاء مجلس عسكري «مختلط» (اي من ضباط علويين وسنة وطوائف أخرى ربما) يحاكي في وظيفته ودوره المجلس العسكري الذي انشئ في مصر بعد تنحي الرئيس حسني مبارك».
كان الحضور يشتم من حماسته لهذا الاقتراح أنه قد يكون موعوداً بدور هام ضمن هذا المجلس. لكن صورة تركيبته لم تكن جلية تماماً بالنسبة إليه. فالفكرة كانت لا تزال عبارة عن توجه عام، لكنه اعتقد لفترة غير قصيرة أنها ستكون الحل المقبل، ليتضح لاحقاً أن الغرب عمل فعلاً على نظرية إنتاج مجلس عسكري يشرف على المرحلة الانتقالية في سوريا.

لحظات ما قبل السفر

مؤخراً، أصبح مناف مسكوناً بفكرة أن ازدياد العنف وعسكرة الصراع في سوريا قد يؤدي إلى تقسيم البلد. وقبل خروجه من سوريا بأيام بادر للاتصال بجهة سياسية بازرة، لكنها غير سورية، وقريبة في الوقت نفسه من الأسد، طالباً اللقاء بها. لم يلق طلبه رداً سريعاً. وبالمحصلة لم يحصل اللقاء. ثم إثر ذلك انقطعت اخباره، ولم يعد هاتفه الجوال يتلقى اتصالات طالبيه ليعلن موقع إلكتروني مقرب من النظام خبر خروجه من سوريا.
والده العماد مصطفى طلاس كان أثناء شيوع خبر خروج ابنه من سوريا، موجوداً في قبرص، وقد وصل إليها من باريس حيث يعالج من مشاكل صحية في قلبه. كان مخططه الانتقال منها إلى دمشق. وفي نيقوسيا هاتفه صديق ونقل إليه خبر فرار ابنه. قرر تبديل خط رحلته وعاد إلى باريس.
ومنذ خروج مناف طلاس من دمشق، يظل السؤال مطروحاً من قبل دائرة واسعة في سوريا: هل خروجه هو فعلاً انشقاق، أم أن الامر ينطوي على مفاجأة ما؟
الإجابة عن هذا السؤال في دمشق يشوبها التناقض: زوجته التي كانت في بيروت قبل أيام من خروجه من سوريا، سربت لاصدقاء لها، أن مناف يفكر بالتوجه الى السعودية التي وعدته بأن يكون رئيساً لسوريا الجديدة. أحد اصدقائه الذي زاره قبل أسبوعين من مغادرته، يقول إنه وجده قلقاً. وانتابه القلق عليه فبادره: «انتبه لئلاً يقنعك احد بأفكار خطيرة». لكن مناف لم يجب.
وقبل خروجه، سأل الصديق مناف إن كان بمقدروه استعارة اصدارات حديثة حول الثورة السورية. قال له مناف: خذها، حتى قبل أن أقرأها. تعجب الصديق وسأله: وماذا ستقرأ أنت؟. أجاب مناف أنا اقرأ القرآن.



«مع عملية انتقالية»

ذكرت وكالة «فرانس برس» أنها تلقت بياناً موقعاً من «العميد مناف طلاس، باريس 17 تموز (يوليو) 2012»، عبّر فيه عن الامل في «الخروج من الازمة عن طريق مرحلة انتقالية بناءة تضمن لسوريا وحدتها، استقرارها وامنها وتضمن لشعبها الغالي تطلعاته المحقة». واعتبر «ان المسؤولية الكبرى تقع على عاتق السلطة التي كان من واجبها صون الوطن وحماية الشعب باحتضان معاناته، ضمن سياسة عقلانية، توافقية، بناءة تمتد الى جذور المشاكل، لا بمواجهته بعنف لم نشهده من قبل مهما كانت الاسباب». واضاف «بما ان الاضرار والفوضى والمآسي تتزايد مع مرور الزمن اتمنى وقف اراقة الدماء والخروج من الازمة عن طريق مرحلة انتقالية بناءة تضمن لسوريا وحدتها، استقرارها وامنها وتضمن لشعبها الغالي تطلعاته المحقة». واضاف «لا يسعني الا ان اعبر عن غضبي والمي لزجّ الجيش في خوض معركة لا تعبر عن مبادئه». واكد «انا هنا اليوم من دون أجندة، وجاهز كأي فرد سوري عادي دون اي طموح آخر لتأدية كامل واجب المواطن في المساهمة بما في وسعي، كسائر الذين يبحثون عن حل يتناسب مع قناعات وتطلعات هذا الشعب الذي قدم الكثير من التضحيات للوصول الى مستقبل افضل».