ما جرى حول التريمسة كان مثالاً أخيراً. صيحات وصراخ في الإعلام الحريري والسعودي والقطري والغربي (وهو غزير في دفق دموع التماسيح) عن مجزرة مروّعة في التريمسة: موقع غربي يقول إنّ هناك أكثر من نحو مئة ضحيّة، فيردّ موقع عربي بالقول إنّ هناك أكثر من مئتيْن، أما موقع الأمير سلمان، «الشرق الأوسط» ـــ وهو واحدة من أكثر وسائل الإعلام بذاءة وسوقيّة وابتذالاً ـــــ فيقول إنّ هناك أكثر من 300 من الضحايا المدنيّين. كان الحديث عن نساء وأطفال، وبالطبع عن ضرورة تدخّل الناتو، وحديث عن الفصل السابع (على طريقة الصهاينة في حرب تموّز ــــ عندما تسمعون عن «الفصل السابع» تعلمون انّ إسرائيل هي في الخلف (أو المقدّمة) لأنّ أميركا لا تدعم «الفصل السابع» إلا إذا كان في مصلحة العدوّ. أقلام الليبراليّين لم تنتظر: دبّجوا مقالات مرهفة في الحساسيّة في الصحف اللبنانيّة وفي الفايسبوك عن النساء والأطفال في التريمسة.
وكنت أتلقّى منذ اليوم الأوّل استفسارات غاضبة من مؤيّدي المعارضة السوريّة في الخارج تستنكر عدم تعليقي على المجزرة الأخيرة. وكنت أردّ بأن التريّث واجب لأن كلا الطرفيْن في الموضوع السوري يكذب: لكن كذب المعارضة له ترديد دولي، وذلك لأنّ الإعلام الغربي يضخ كل ما يتلقّى، ومن دون سؤال، ما يرده من دكاكين إعلام معارضة الخارج في عدد من الدول العربيّة والغربيّة التي تتلقّى تمويلاً جزيلاً من عدد من الدول النفطيّة والغربيّة).
هيلاري كلينتون صرّحت بأنّ الدلائل حول المجزرة في التريمسة هي «دلائل قاطعة»، وطالبت بمزيد من العقوبات (هل لا تزال العقوبات سارية على أنيسة الأسد؟ ولماذا لا تطاول العقوبات الأوروبيّة شخص والدة أحمدي نجاد؟). نشرة «بي.بي.سي» نشرت قبل أيّام عدداً من التقارير عن أخبار مجزرة جديدة أسوأ من مجزرة حولا، وأنّ العالم ينتظر ردّ فعل. الكلّ أدلى بدلوه. إعلام «الجزيرة» و«العربيّة» كالعادة خلط بين صور قديمة وصور جديدة ليزيد من التحريض (لا نفهم مضمون الخطة التحريضيّة في إعلام قطر والسعوديّة؟ هل هم يظنّون أنّ المشاهد في قيادة الـ«ناتو» سيتأثّر بما يُشاهد ويتحرّك فوراً عطفاً على الشعب السوري العزيز على قلب كل حكومات الغرب. وقد سأل الصحافي العريق، تشارلز غلاس _ وقد قضى في ربوعنا سنوات مراسلاً ثم مخطوفاً _ عن سبب هذا الحب المفاجئ من الغرب للشعب السوري؟ سأل عن سبب عدم ظهور بوادر عن هذا الحب في السنين والعقود الطويلة؟).
لكن بعد يوم واحد من هذه الحملة الإعلاميّة العالميّة تغيّرت اللهجة كليّاً في الإعلام الغربي (إعلام السعوديّة وقطر لا يحتاج إلى أن يعدّل لأنّه يعتمد _ وخصوصاً في حالة «الجزيرة» بعد اندلاع الانتفاضات العربيّة _ على فرضيّة صحيحة: أنّ لا صدقيّة لديه كي يحافظ عليها). فجأة، نشرة أخبار «بي.بي.سي» غيّرت اللهجة واستضافت مراسلها في بيروت، جيم ميور، الذي نفى مزاعم المعارضة عن مجزرة التريمسة _ وزعم ميور هذا غير مؤكّد _ وقال إنّ رواية النظام السوري هي الرواية الأصحّ عمّا حدث في التريمسة. الـ«نيويورك تايمز» التي لم تصدّق أي رواية للنظام السوري منذ بدء الأحداث في سوريا، فجأة صدّقت رواية النظام السوري ودعمتها. ماذا حدث؟ وماذا سيحدث، ولماذا؟
في المقابل، يعيش إعلام ما يُسمّى «الممانعة» (لا تستقيم الممانعة بالموافقة على خطة السلام العربيّة التي وافق عليها النظام السوري) حالة من الهذيان. ضيوف من كل حدب وصوب يتحدّثون عن مؤامرة تجمع خيوطها بين الماسونيّة والصهيونيّة (وهناك من يزيد المثليّة) في حلقة جهنّميّة لا دلائل لها. والمؤامرات حقيقيّة طبعاً إلا أنّ تحليل المؤامرات وتفنيدها في إعلام «الممانعة» يفتقران إما إلى العقل أو الدلائل أو الاثنيْن معاً. وإعلام الممانعة مُصاب _ مثله مثل إعلام لبنان _ بالرجل الأبيض _ فتراه يبحث سعياً وراء أي رجل أبيض _ ولو كان معتوهاً _ لتأكيد ترّهات وخزعبلات تحاول أن تحوّل أولاد درعا إلى مجرّد أدوات عند هنري كيسينجر. وإعلام الممانعة يفنّد أكاذيب إعلام آل سعود وآل ثاني، وإعلام آل سعود وآل ثاني يفنّد أكاذيب إعلام الممانعة وليس هناك من يفنّد أكاذيب الطرفيْن (ومنظمة «سكايز» جزء لا يتجزأ من إعلام آل الحريري والسعوديّة، وقد قرّرت بشجاعة استثناء دول الخليج من تقاريرها، حفاظاً على التمويل).
يمكن القول من دون مبالغة إنّنا نشهد أكبر حرب دعائيّة في هذا العصر الحديث: هي أكبر من الحملة الدعائيّة التي سبقت حرب العراق في 2003. هناك إصرار على قمع أي صوت معارض. كل وسائل الإعلام الغربيّة (حتى تلك التي كانت لأمد قريب أكثر صدقيّة وأكثر تشكيكاً في نوايا الحكومات الغربيّة، مثل الـ«غارديان») تشترك في نقل رواية واحدة لا ثالثة لها في الموضوع السوري. كلّ من يطالب بالحرص على الصدقيّة والمهنيّة الصحافيّة يصبح تلقائيّاً شبّيحاً ابن شبيح (أو شبّيحة). عادة، عندما تنخرط الحكومات الغربيّة في مشروع سياسي أو عسكري محموم في منطقتنا، تطلع أصوات مُعترضة هنا وهناك، وخصوصاً في أوروبا، لأنّ الليبراليّة الأميركيّة جبانة وتخشى ان تظهر بمظهر المُشكك في جدوى استعمال القوّة. لم نسمع تشكيكاً إلا من قبل باتريك كوبرن في الـ«إندبندنت» البريطانيّة (أما روبرت فيسك، فهو مشغول على موائد وليد جنبلاط، يردّد ما صدر عن مكتب الحريري الإعلامي، والرجل فقد صدقيّته منذ سنوات). وقد نشرت الـ«غارديان» أخيراً تحقيقاً طويلاً عن صلات المعارضة السوريّة الخارجيّة بالحكومات الغربيّة، كما أنّها وثّقت تمويل الحكومة الأميركيّة لبعض إعلام المعارضة. في 2002، عندما كانت الولايات المتحدة تحضّر للحرب في العراق، ساد جوّ مشابه هنا في أميركا. كنتَ لو عبّرت عن تشكيك في صدق المزاعم الرسميّة الأميركيّة، ولو عبّرت عن وجهة نظر لا تتطابق مع وجهة النظر الأميركيّة، تتلقّى اتهامات بتأييد طغيان نظام صدّام وحتى بتأييد «القاعدة» (هناك جمهور مُحافظ عريض هنا في أميركا لا يرى فارقاً بين صدّام وإيران والقاعدة وحزب الله فيدمج بينهم). واجهتُ مرّة وزير الخارجيّة الأميركي الأسبق، جيمس بيكر، بعد محاضرة له وطالبتُ بمحاكمته كمجرم حرب، فاتهمني أمام الجمهور بأنّني داعم لصدّام. وبصورة مُشابهة، يسود في الإعلام العربي والغربي على حدّ سواء جو ضاغط وموبوء وينتشر على فايسبوك: لو شّكك واحد في أي من مزاعم إصدارات دكاكين المعارضة السوريّة الخارجيّة لتعرّض لاتهام أوتوماتيكي بـ«التشبيح» _ مرّة واحدة رماني بها بعض حركة 14 السوريّة.
ماذا يعني هذا؟ أنّ رواية النظام السوري (أو الإخوان) هي الحقيقيّة؟ قطعاً، لا. على العكس. نحن نعيش في صراع يمتّ بصلة صغيرة إلى سوريا: نعيش في أتون صراع إقليمي _ عالمي حول سوريا. وهذا الصراع هو أكبر بكثير من ذلك الذي دار حولها (وكتب عنه باتريك سيل) أثناء الحرب الباردة. نحن نتعرّض لكم هائل من الأكاذيب والخدع والتزوير. ليس كل ما يُنشر يُصدّق.
والنظام السوري له أيضاً باع في الكذب على الناس. كان السوريّون يتندّرون في ظلّ البعث بأنّ إعلام النظام لا يُصدّق إلا في أخبار الطقس وأسعار البندورة، وهناك من كان يدعو إلى التشكيك حتى في تلك الأخبار. وإذا لم يقم النظام بارتكاب مجزرة ضد مدنيّين في التريمسة فقد ارتكب في غيرها، لكن النظام يكذب بالتأكيد عندما يصرّ على أنّه لم يقتل مدنيّاً واحداً، وأنّ كل ضحاياه من الإرهابيّين. لم يقدّم النظام رواية صحيحة واحدة حول أحداث مؤكّدة سقط فيها مدنيّون ومدنيّات. وشاشة «الدنيا» وشاشة النظام السوريّ تمعن في إهانة ذكاء المُشاهد والمُشاهدة: ترفض ان يكون هناك معارض سوري واحد بريء من تهم العمالة والخيانة والارتزاق (ويلجأ جماعة معارضة الخارج إلى أساليب النظام نفسها في رمي التهم). والفبركة واختراع الأخبار سمة لإعلام الطرفيْن ايضاً: النظام السوري اخترع مقابلة مزعومة مع هنري كيسنجر فيها مديح لشخص حافظ الأسد (من الطريف لا بل من الاستدلال أنّ النظام يلجأ إلى شرعيّة أخلاقيّة من كيسينجر) وفيها اعتراف من قبله _ وهو في التسعين من عمره _ بإدارته للانتفاضات العربيّة. كما أنّ إعلام النظام روّج لمقابلات مُختلقة مع فنانين وفنانات (آخرها مع وردة الجزائريّة قبل موتها _ على ما أعتقد) يشيدون فيها ببشّار الأسد.
لقد أفصح ممدوح عدوان عن كذب النظام السوري في حديث نقله أخيراً صبحي الحديدي: «الأنظمة السياسية كذابة، لذلك لا يصدّقها (المواطن). لا يصدّق بياناً عن معركة، بخصوص عدد الشهداء، ولا يصدّق حتى درجات الحرارة القصوى والصغرى! الإعلام كمعبّر عن السلطة يكذب أيضاً. أنا أشتغل في إعلام أخجل منه لأنّه يكذب بهذا المقدار. يكذب بدرجة الحرارة. يكذب بإخفاء الكوليرا، هل هناك احد يخفي الكوليرا؟ يكذب بالتستير على اللصوص، وعلى التجار والمرتشين وشركائهم، ويشكك في وفيكم حين كنتم تقولون إن الفساد قائم... لماذا يكذب النظام؟ ولماذا يكذب الحزب؟ ولماذا تكذب فئة ما؟ الكذب ينطلق من الخوف، الخوف من الآخرين. والسلطات التي تكذب، هي سلطات تخاف الشعب، وتخاف أن يراها على حقيقتها».
ليس هناك مصدر واحد يمكن الركون إليه. الأحداث تتسارع والمؤامرة الكونيّة جاريّة (وهي ليست متعلّقة ببشّار على ما يريدنا جماعة النظام ان نصدّق). إنّ الحملة الدعائيّة الكُبرى هي جزء من حرب نفسيّة تخوضها أميركا (بتمويل عربي لأنّ نفط العرب وغازه سُخّرا منذ الحرب العالميّة الثانيّة لتمويل كل حروب أميركا القذرة، وبعض حروب إسرائيل ايضاً). والحرب النفسيّة هي الطاغية في كل وسائل الإعلام: الإعلام الغربي والعربي لم ينفكّ على مدى سنوات إدارة بوش وإدارة أوباما يهوّل بحرب حتميّة إسرائيليّة أو (و) أميركيّة. الكاتب الأميركي فرانكلين لامب (وهو مُفضّل في إعلام حزب الله _ يا للمفارقة) كان يعد بها بين شهر وآخر في سنوات بوش. الحرب النفسيّة تكون إما للتحضير للحرب، أو للتعويض عن عدم إمكان خوض الحرب: وهي الأخيرة في الحالة الأميركيّة على الأقل. يقلّل العرب من أهميّة حرب تمّوز: لم تعد إسرائيل تستسهل الضربات والغارات الدوريّة _ لا تزال تفعل ذلك في غزة، لكنّها حتّى هناك تتهيّب الحرب الأكبر.
ثمة سمات واضحة في الحرب الإعلاميّة الكونيّة الدائرة:
أولاً، هناك تطابق كامل بين وسائل إعلام قطر والسعوديّة ووسائل الإعلام الغربيّة. عناوين «القدس العربي» و«الشرق الأوسط» هي هي، وأحياناً تكون مُترجمة عن عناوين في الصحافة الغربيّة. توماس فريدمان يُنشر بالعربي، وصفحات الترجمة عن العبريّة باتت اجتراراً غير بريء للحرب النفسيّة التي يتقيّأها العدوّ.
ثانياً، ليست وسائل الإعلام المحليّة سيّدة نفسها. إنها تنفّذ أوامر أكبر منها بكثير. الأمير مقرن وحمد بن جاسم يُقرران مسار الإعلام العربي، لكنهما لا يفعلان ذلك من تلقائهما. ينسى بعض العرب دور المكتب الإعلامي الأميركي في دبيّ ودوره «التنسيقي» في الإعلام العربي.
ثالثاً، هناك احتقار تام للجمهور في إعلام الممانعة وفي إعلام المواجهة الصهيونيّة المُقابلة. الكذب والاختلاق والاختراع والتزييف والتلفيق والرياء صفات متلازمة لهذا الإعلام.
رابعاً، ليست المبدئيّة أو الانسجام الأخلاقي مهمّة عند أطراف النزاع. إعلام «المنار» _ وهي محطة تبشّر بالفضيلة _ ينشر تقريراً عن عائلة طلاس يتضمّن تعييراً أخلاقياً مبتذلاً ليس عن فراس طلاس وإنما عن شقيقته. وإعلام آل سعود يتناول آل الأسد مثلما تتناول صحافة الـ«تابلويد» هنا حياة المشاهير. طلاس كان حليفاً لحزب الله مثلما كان آل الأسد حلفاء للنظام السعودي لعقود طويلة.
خامساً، إنّ التقارب بين تغطية الإعلام الغربي والإعلام العربي يجب ان يزيل أوهاماً لا تزال عالقة في أذهان الجمهور العربي عن رصانة الإعلام الغربي الذي أثبت منذ 11 أيلول بالتأكيد انّه يستطيع ان يبزّ صحيفة «تشرين» في الولاء للحكومة، لكن في العالم العربي هناك من لا يزال يشير إلى بربارة والترز على أنّها «صحافيّة». وكل مراسل غربي يمرّ في بلادنا يُتعامل معه على أنّه رسول للمهنيّة والشطارة والمعرفة.
سادساً، لا مكان للإعلام الثالث في هذه المعركة: إنّه مرفوض من الطرفين ومن الجمهور أحياناً. إنّ أي ميل عن صراط صحافة هذا الخندق أو ذاك يعرّض الوسيلة الإعلاميّة لشتّى أنواع الاتهامات. الوسيلة الإعلاميّة _ أو حتى صفحات فايسبوك _ تنتمي بالقوّة إلى الفريق المعادي إذا توجّهت بالنقد إلى ذلك الطرف.
سابعاً، تكبر الأوهام حول الإعلام الجديد. هناك نوع من الترويج لوسائل الاتصال الاجتماعي على انّها البديل الحرّ. هي ليست كذلك أبداً، وخصوصاً في الشأنين اللبناني والسوري. تجد أفراداً في هذا الفريق أو ذاك يردّدون الشعارات المُعلّبة والمستوردة ذاتها من مركز القرار. الفرديّة هي الاستثناء وهي غير مُحبّذة لأنّ السير في القافلة مطلوب، وخصوصاً طائفيّاً.
ثامناً، لا تضمن المليارات التأثير المنشود في قولبة الرأي العام العربي. تنفق أميركا _ ومعها تابعاتها قطر والسعوديّة والإمارات _ كل هذه الأموال من أجل تغيير أهواء الرأي العام العربي، والنتيجة ضعيفة للغاية. رغم إصرار الجامعة العربيّة _ الواجهة العالميّة لمجلس تعاون النفط والغاز الخليجي _ على تمثيل الرأي العام العربي في حفلة عدوان الـ «ناتو» على ليبيا فإنّ استطلاع مؤسّسة «غالوب» يظهر أنّ أكثريّة الرأي العام العربي كانت معارضة للتدخّل هناك (طبعاً، أظهر الاستطلاع انّ في لبنان 29% ممن أيّد ضرب الـ«ناتو»، لكن هذا الفريق من اللبنانيّين كان مُسانداً للعدوان الإسرائيلي في تمّوز).
تاسعاً، نجحت وسائل الإعلام السعوديّة في ضخ الفتنة المذهبيّة. هذا السلاح كان ماضياً عند آل سعود، وقد دعمت إسرائيل وأميركا هذا التوجّه من أجل ضرب البيئة الداعمة للمقاومة في الوطن العربي. إن المُكابر وحده ينكر هذا النجاح السعودي الهائل (والمُدمّر).
عاشراً، فشل إعلام إيران وفريق ما يُسمّى «الممانعة» في الردّ أو في محاربة ضخ الفتنة السعوديّة. قد يعود سبب الفشل إلى الحقيقة الديموغرافيّة أو السمات الطائفيّة لأطرافه أو إلى ضعف الإعلام العلماني في الردّ على الإعلام الطائفي والمذهبي.
حادي عشر، ليس صحيحاً ان قدرة الأنظمة على التأثير هي قدرة تتقلّص بوجود وسائل إعلام حديثة. في العالم العربي، لا تزال نسبة استعمال وسائط التواصل الاجتماعي تتفاوت بين بلد وآخر (الأعلى في السعوديّة) لكنها لا تصل إلى ربع الناس أو عشرهم أحياناً. إن التلفاز هو الوسيلة الأبرز والمصدر الأبرز لتلقّي الأخبار وهو _ بنسبة 90% _ يخضع لسيطرة آل سعود وآل ثاني وشركائهما في الـ«بزنس».
ثاني عشر، إن الإعلام الغربي المُوجّه للشرق الأوسط والإعلام العربي (السعودي والقطري والحريري) لا يحترم أي فارق بين شركات الدعاية التجاريّة والإعلام. وبناءً عليه فإن شركات الإعلان (مثل «ساتشي وساتشي») تحوز عقود الترويج لاحتلال أميركا للعراق باللغة العربيّة ثم تحضّر وتروّج لـ «ثورة (حرّاس) الأرز»، ثم تخوض انتخابات 14 آذار، قبل ان تتلقّف الملف السوري.
ثالث عشر، يُخدع من يظن ان الشرائط على «يوتيوب» أو تلك الشرائط المُصوّرة عبر الهاتف هي أعمال فرديّة لا تخضع لتوجيه مركزي... حكومي، خارجي أو داخلي. إن توزيع الهواتف والكاميرات بات عنصراً من عناصر أساليب التأثير الأميركيّة، وقد استعانت به أميركا في «الثورة الخضراء» في إيران قبل أن تنقله إلى سوريا، باعتراف أطراف أميركيّين وسوريّين مُعارضين خارجيّين، (لكن هذا لا ينفي حقيقة القتل والتدمير والعنف من قبل النظام السوري).
رابع عشر، ينطبق على إعلام الأنظمة العربيّة _ كلّها وعلى النظام الإيراني _ المقولة القديمة: إن عقوبة الكاذب أنّه لا يُصدّق حتى عندما ينطق بالحقيقة.
خامس عشر، ليس صحيحاً أن التكنولوجيا تسهم في دمقرطة وسائل الإعلام. إن نشر جريدة في القرن العشرين كان أسهل (ماليّاً وعمليّاً) على المواطن العادي (إلا في لبنان والدول العربيّة حيث تخضع عقيدة «الامتياز» التي تخضع بدورها لسيطرة رأس المال الكبير والموافقة الحكوميّة) من فتح محطة فضائيّة في القرن الحادي والعشرين. إن وسائل الإعلام تزداد غرقاً في أحضان حكومات النفط والغاز في العالم العربي، وفي أيدي أصحاب المليارات (الذين نهبوا مالهم من خلال عقود فورة الاتصالات في التسعينيات وما بعدها).
سادس عشر، إن الإفراط في الصور والفيديو ومشاهد الحروب التي خاضتها أميركا وتلفزتها عبر العالم أحدث نوعاً من الخمول لدى المشاهد. هذا ما عناه الفيلسوف الفرنسي، جان بودرييار، في عنوان مجموعة مقالاته «حرب الخليج لم تحدث قط».
سابع عشر، تسهم الدعاية السياسيّة في ترسيخ وهم المساواة بين الأفراد حول العالم: أن الكل يستخدم وسائل الاتصال الاجتماعي ذاتها ويشاهد شاشات التلفزة نفسها، بينما هناك فارق بين المُتلقِّي والمُلَقِّن.
ثامن عشر، تصلح نظريّة المؤامرة لتفسير التناغم بين إعلام الغرب الاستعماري وإعلام النفط والغاز. «نيويورك تايمز» لم تقصد أن تفصح عن الكثير في 2003 عندما نشرت خبراً عن عمل الحكومة الأميركيّة على التنسيق مع «وسائل الإعلام العربي» في لندن لتوحيد الرسائل والمغازي والقيم السياسيّة في حروب أميركا. كيف لا تصلح نظريّة المؤامرة الصهيونيّة في تفسير ما يجري: مراسلة لجريدة عربيّة في واشنطن (وهي لبنانيّة) بدأت عملها الصحافي في المركز البحثي التابع للوبي الصهيوني (مؤسّسة واشنطن لسياسات الشرق الأدنى _ المؤسّسة التي دعت وليد جنبلاط ليكون خطيبها الأساسي في سنوات التخلّي عن التخلّي). كيف لا تصلح نظريّة المؤامرة عندما يكون رئيس جمعيّة بريطانيّة صحافيّة تعمل للدفاع عن إسرائيل في الصحافة البريطانيّة كاتب عمود (وباسم عربي) في «الشرق الأوسط». و«الخبير الأساسي» في المركز المذكور في الموضوع السوري، أندرو تابلر (الذي يعلم عن سوريا بقدر ما يعلم سعد الحريري عن لبنان)، كان يعمل مستشاراً لأسماء الأسد.
ليس من مهرب. نحن ضحايا. نتعرّض لقصف فضائي من كل حدب وصوب. القدرة على المقاومة صعبة: يجعلونك تتحسس عقلك وذاكرتك، لكن المشهد السائد غير حقيقي. كيف تستقيم حقائقهم أمام ناظرينا؟ هل ينطق حمد بن جاسم باسم العرب؟
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)