خبران صحافيان يعكسان نهجين مختلفين تماماً، يتموضع أحدهما، كخيار ومنهج، كبديل للثاني بخياره ومنهجه. فمن جهة يلتقي ممثلو حركات المقاوِمة الثلاث، الشعبية وحماس والجهاد، في بيروت على مستوى قيادي ليتمحور النقاش، كما أجمعت التصريحات والتحليلات، على بحث آليات التنسيق لتصعيد المقاومة في فلسطين المحتلة، دون إغفال أن حزب الله وإيران بطبيعة الحال على خط تلك اللقاءات والتنسيقات. والتطور الأهم بتقديرنا هو إعلان جميل مزهر نائب الأمين العام في مقابلة مع الميادين، أن التنسيق يبحث تشكيل (جبهة مقاومة موحّدة في الميدان)، كتطوير لحالة الوحدة القائمة ميدانياً بين المقاومين على اختلاف انتماءاتهم.من جهة ثانية فمسار التطبيع السعودي الصهيوني يشقّ طريقه بشكل حثيث، وبتأكيد نتنياهو وابن سلمان ومسؤولي الخارجية الأميركية في تصريحاتهم، فيما، وكجزء من هذا المسار، يصل السديري إلى رام الله لافتتاح السفارة، ويُحتفى به كـ «محرر»، أما قرار فتح قنصلية سعودية في «القدس الشرقية»، فيُقدّم كقرار تاريخي يعادل قرار انطلاق الثورة!

واسترسالاً للمسار التطبيعي ذاته، فقد وصل حاييم كاتس وزير السياحة الصهيوني إلى السعودية، فيما وزير الزراعة سيلحقه الأسبوع القادم، فهل يستغرب أحد صمت القبور الذي يتّسم به موقف قيادة سلطة أوسلو من هذا النشاط التطبيعي مع السعودية؟ الموقف العلني ضد التطبيع، الذي تعلنه السلطة بين حين وآخر، لا يبعث فقط على الاستهزاء من سلطة «التنسيق الأمني المقدّس»، بل يؤشر إلى المدى الاستفزازي الذي تتسم به السياسة الفلسطينية لقيادة «أوسلو». فالسديري يُحتفى به في رام الله، فيما وزراء الصهاينة يصلون إلى السعودية، ومع ذلك تُعلن السعودية باستفزازية أن لا تطبيع قبل حل القضية الفلسطينية، وتبلع قيادة «أوسلو» كل هذا إكراماً لخاطر ابن سلمان.
المسألة أكثر مما يشاع، فالصمت الفلسطيني يقابله إعادة صرف الـ 20 مليون دولار (المنحة السعودية سنوياً)، مع أنها تطالب بذلك، فمع أن السلطة لا ينقصها السلوك القزمي في السياسة، فمنذ انطلاق مشروع «أوسلو» وهي لا تملك سوى الاستعطاف وقزمية المطالب، وقد سبق أن تقزّمت مطالبها مقابل أقل بكثير من 20 مليوناً -لنتذكّر مثلاً الموافقة على عدم التصويت على تقرير غولدستون حول جرائم الحرب الصهيونية ضد قطاع غزة في عام 2008، مقابل وعد بتسهيلات تتعلق بشبكات الخلوي- إلا أنها، ومع انطلاق مشروع التطبيع العلني السعودي الصهيوني برعاية أميركية، تعوّل على إعادة التفاوض مع الصهاينة، هذا المطلب الذي وضعته قيادة «أوسلو» أمام السعوديين والأميركيين كما تناقلت الأنباء، إضافة إلى مطالب أخرى، كإخلاص لقزميتها، تتعلق بصرف المنحة السعودية أي الـ 20 مليون دولار، والإفراج عن الأموال المحتجزة لدى الصهاينة، وتحويل بعض الأراضي المصنّفة C إلى تصنيف B.
هما نهجان يتواجهان: مسار المقاومة والتنسيق لتصعيدها، وبحث تشكيل جبهة مقاومة موحّدة في الميدان، ومسار التطبيع السعودي الصهيوني على حساب القضية الوطنية بما يؤشر إلى «أوسلو» ثانية أو تجديد لصفقة القرن


ماذا تملك سلطة أوسلو غير إدارة «مشروع» وظيفي لخدمة الصهاينة، مقابل امتيازات لمجاميع نخبوية سياسية واقتصادية تمتلك مفاتيح إدارة المشروع، فتتمتّع بامتيازاته؟ وبالتالي فهل تطلب غير العودة للتفاوض للإبقاء على وجودها؟ وما تطالب به سلطة أوسلو ليس هو الأهم على طاولة التفاوض السعودي الصهيوني وبإشراف أميركي، ليس الأهم بالنسبة إلى ابن سلمان ونتنياهو وبايدن.
فبالنسبة إلى ابن سلمان، الأهم حصول نظامه على موقع شبيه بموقع دول حلف الأطلسي عبر اتفاق أمني مع أميركا يتضمن حماية هذا النظام عند الضرورة، وكذلك موافقة السيد الأميركي الراعي، وبالتأكيد الصهيوني، على بناء مفاعل نووي سعودي للأغراض السلمية، أما بالنسبة إلى نتنياهو، وأمام وضعه الداخلي البائس، فالتطبيع مع السعودية ينعش من مكانته مقابل المعارضة الداخلية، ويفتح أبواب الاقتصاد الريعي الضخم أمام التغلغل الاستثماري الصهيوني، وأخيراً، فالعجوز بايدن الذي يواجه وعائلته اتهامات مالية من الجمهوريين ومحاولات قانونية لعزله، ومعركة رئاسية قادمة مفصلية، يهمّه تحقيق «مكسب ما»، يجرّ السعودية للتطبيع مع الكيان، ما يوفّر إمكانية لحشد اللوبي الصهيوني خلفه في انتخابات الرئاسة، فضلاً عن تعزيز النفوذ الأميركي الذي تزعزع في العقد الأخير في المنطقة لصالح النفوذ الصيني والروسي.
أما سلطة أوسلو ومطالبها فلا أحد يعبأ بها، اللهم من زاوية إعطائها بعض الفتات، على سبيل تلميع الصفقة أمام الشعوب العربية والشعب الفلسطيني، لإدراك الأطراف الثلاثة، الأميركيين ونتنياهو وابن سلمان، لموقع القضية الفلسطينية في وجدان الشعوب. فأمام إنجاز التطبيع بمكاسبه السياسية والاقتصادية الإقليمية للصهاينة، فلا بأس ببضع مئات من ملايين الشواقل يُفرج عنها للسلطة، وبضعة دونمات يتم تحويلها من تصنيف C إلى تصنيف B، أما الـ 20 مليون دولار، المنحة السعودية، فمبلغ «فراطة» كهذا لا يستحق النقاش، فيما مطلب الاستجداء والاستعطاف بالعودة للتفاوض، فيصلح وصفه بالاستعانة بالمثل الشعبي: «موت يا حمار تيجيك العليق».
هما نهجان يتواجهان: مسار المقاومة والتنسيق لتصعيدها، وبحث تشكيل جبهة مقاومة موحّدة في الميدان، ومسار التطبيع السعودي الصهيوني على حساب القضية الوطنية بما يؤشر إلى «أوسلو» ثانية أو تجديد لصفقة القرن، وما الفرق بين الاثنتين أصلاً؟ أما عندما يعلن ابن سلمان أن لا تطبيع قبل حل القضية الوطنية وقيام دولة فلسطينية، فيمكن النظر إلى هذا التصريح بأنه أكثر من تصريح إعلامي لذرّ الرماد في العيون، وأكثر من مجرد تصريح يعكس السياسة الكاذبة والمخادعة، إنما هو طرح تساؤل حول ما يُطبخ سياسياً من حلول ما للقضية الفلسطينية، ربما كانت الكونفدرالية مع الأردن هي المرشّحة قبل غيرها كمدخل للتصفية.
هم يخطّطون نعم، والمقاومة ينبغي أن تخطّط أيضاً، لذا، فتفعيل التنسيق على مستوى فلسطيني وإقليمي هام جداً، كآلية ثابتة للعمل المشترك، وصولاً إلى جبهة مقاومة موحّدة في الميدان كخطوة ضرورية أيضاً، من دون أن نغفل ضرورة تمتين الجبهة الداخلية للمقاومة، خاصة في قطاع غزة، بوقف أيّ إجراءات قمعية سلطوية تستهدف حريات الناس ومؤسساتهم وفعّالياتهم الاجتماعية، ووقف سياسة الإقصاء والتفرد، وبغير ذلك تظل المخاطر منتصبة أمام العمل المقاوم المشترك وحاضنته الشعبية، والمفروض تعزيزها لا خلخلتها بإجراءات مختلفة.