القاهرة | «المهم أن تستيقظ المدينة في نفوس أهلها» ترد هذه الجملة على لسان عيسى سلماوي المثقف اليساري الملتزم في رواية ابراهيم عبد المجيد (1946) الجديدة «الاسكندرية في غيمة» (دار الشروق ــ ٢٠١٣) وتمثل الجملة المفتاح في التعاطي مع العمل الذي يعود به الروائي السكندري إلى مدينته الاثيرة التي كتب عنها أشهر رواياته التي بلغت ١٤ رواية، إضافة إلى ستّ مجموعات قصصية وتسعة كتب منوعة يندرج معظمها تحت العنوان الذي اختاره لأحد أجمل كتبه «غواية الاسكندية».
يمكن أن تقرأ الرواية كجزء من ثلاثية بدأها بـ«لا أحد ينام في الاسكندرية» (١٩٩٦) ثم «طيور العنبر». لكن عبد المجيد يكتب عن الاسكندرية غير راغب في كتابة رواية أجيال، فهذا ليس هدفه، لأنّ كل نص كُتب ليقرأ كعمل منفصل في سياق عام هو مواجهة زوال المدينة. في العمل الأول، تابع المدينة خلال الحرب العالمية الثانية. وفي العمل الثاني، أظهر جرحها مع خروج الأجانب منها اثر حرب السويس.
إنّها رحلة في تقصي أثر الاسكندرية يستكملها عبد المجيد تحت وطأة اللحظة المصرية الراهنة وثقلها بعد صعود الاسلاميين الى الحكم. هي تكشف كيف تحالف النظام السياسي السابق منذ عصر السادات مع الفكر المتطرف دينياً لتجريف مصر وتغيير شخصيتها. تعالج «الاسكندرية في غيمة» التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المدينة/ الغواية، وتقول كيف فقدت طابعها الكوزموبوليتي القائم على التعددية والتنوع. تُقرأ هذه التحولات عبر سيرة طلاب جامعيين خلال السنوات الأولى من السبعينيات، تلك السنوات التي يسمّيها غالي شكري «سنوات الثورة المضادة» حيث جرى الانقلاب على مكتسبات «ثورة يوليو». هولاء الطلاب هم مجموعة من الأدباء المهتمين بالشأن العام، يعيشون في سكن طلابي في شارع «تانيس» الذي اشتهر كحي طلابي وشارع للدعارة الرخيصة.
يدرس مع هولاء الطلاب كادر شيوعي قديم (عيسى سلماوي) عاش محنة الصدام مع عبد الناصر وتجربة حل التنظيمات الشيوعية عام ١٩٦٥ لكنّه يعيش كمحترف ثوري، ينتسب للكليات النظرية في الجامعة ويسعى لتثقيف الطلاب، وتوعيتهم من دون أن يهتم بتجنيدهم داخل تنظيم محدد. في سياق تتبع مصائر الابطال (نادر، ويارا، وكاريمان، وحسن، وبشر زهران، وعيسى سلماوي ونوال ملاط)، يتم التركيز على حكاية غرام بين يارا والبطل المركزي نادر الشاعر المولع بقصائد ماياكوفسكي (لاحظ تناص عنوان الرواية مع قصيدة مايكوفسكي «غيمة في بنطلون»).
يحتفظ نادر بصورة نمطية لمثقف الطبقة الوسطى الرومانسي. يعشق الموسيقى ويعلّم يارا كيف تتذوقها. يارا تبدو أقرب الى معادل موضوعي للاسكندرية في بهجتها. مع الغزو الوهابي للمدينة، تفقد يارا روحها الحرة وتنكسر أمام سطوة أهلها الراغبين في تخليص ابنتهم من ورطة انتمائها لتنظيم سياسي، ثم تتزوج رجلاً في ضعف عمرها، وتنتهي الرواية بعد أيام من أحداث ١٧ و١٨ كانون الثاني (يناير) ١٩٧٧ عندما يخرج الطلاب من معتقل السادات ولا يجدون من بهجة يارا سوى شبح، في حين تنتحر كاريمان المناضلة التي اضطرت لارتداء الحجاب لتمنع عنها تحرشات زوج أمها الذي يخفي شهوته تحت قناع رجل الدين.
في ثنايا السرد، نتابع سيرة نوال صاحبة ملهى ليلي تذكّر بقرنفلة صاحبة المقهى في رواية «الكرنك» لنجيب محفوظ. كانت متزوجة من شيوعي قديم ترك لها مكتبته وبيته وتعاطفه مع الراغبين في تغيير العالم من بينهم هؤلاء الطلاب، فتولع بنادر الشاعر الذي يجدد روحها ورغبتها في السفر الى باريس لتستعيد غرامها المفقود، مثلها في ذلك مثل خريستو المصور اليوناني المصري الذي يرتاد مقهى «أتينيوس» ليلتقي مع عيسى ونوال لاستعادة سراب الاسكندرية وتأمل الصور الفوتوغرافية التي يجمعها من الزمن الغابر. يتعمق عيسى في قراءة تاريخ الاسكندرية وعمارتها، داعياً رفاقه الى تأمل هذا التاريخ وصيانته لاسيما بعدما ظهرت في المدينة موجات التدين الشكلي ممثلة في الشيخ زعلان (يبدو رمزاً للمال السياسي الذي يشتري المقاهي والملاهي الليلية ودور العرض ويوقف نشاطها). واذا كانت روايات عبد المجيد السابقة عن الاسكندرية قرئت من قبل بعض منتقديه بطريقة استعمالية، وجرى تصويرها كنصوص مناهضة لـ«ثورة يوليو» وللمشروع الناصري الذي قوّض صورة الاسكندرية كمدينة كوزموليتية ورمز للتعدد والتسامح، فإنّ «الاسكندرية في غيمة» مرثية لماض عاشته المدينة، ولا عجب فهو يصدرها بقصيدة لكفافيس شاعر الاسكندرية يقول فيها «ودع الاسكندرية، الاسكندرية التي تضيع منك الى الأبد». ثم لا بد من قراءة هذه الرواية كنص يدافع عن صورة حضارية لمصر يعمل الاسلام السياسي بنسخته الوهابية على تشويهها. مصر التي شعر أحد أبطال العمل (حسن) إنّها تبتعد عنّا أو كما قال: «مصر تبتعد عنا الآن، ستبتعد لسنوات طويلة، أراها الآن تركب جملاً وتمشي في الصحراء مع قطاع طرق».



لغة شعرية

في سياق انشغال ابراهيم عبد المجيد بالتوثيق، تشيع في شخوص روايته «الاسكندرية في غيمة» ملامح نمطية تعيد إنتاج نماذج كتبها المؤلف في أعماله السابقة. يطغى شعور بتماهي شخوص الرواية مع شخصيات معروفة في الواقع، ما أضعف مساحة التخييل في النص، فضلاً عن ترهلات سردية يصعب تفاديها خلال القراءة رغم الجهد الذي بذله المؤلف ولغته الشعرية التي تجلّت في القصائد التي كتبها على لسان بطله بطريقة تفضح الشاعر النائم في مخيلة عبد المجيد. الأخير نجح أيضاً في صقل سبيكة تجمع بين ماضي مدينته البعيد وماضيها القريب الذي يبدو حياً بطريقة تفوق تصوّرنا عنه.