من نشأته في إحدى ضواحي بغداد الفقيرة، ومن رواية جورج أورويل المجازيّة «مزرعة الحيوانات»، استوحى الفنان العراقي صادق كويش الفراجي (مواليد بغداد ــــ 1960) أعمال معرضه «فحم وحبر وحمار» الذي تحتضنه حالياً «غاليري تانيت» (مار مخايل ــ بيروت). إلى ذاكرة طفولته الفقيرة وشبابه المقموع في فترة اللاأمان السياسي، يؤوب الفراجي من منفاه الهولندي حيث يعيش ويعمل منذ عام 1996، ‏حتى إنّه لم يعد إلى بلده سوى مرة واحدة عام 2009 لحضور جنازة والده. ولم يفارقه قطّ إحساس المنفى رغم استقراره في هولندا ونيله الجنسية الهولندية، فاستعاد دوماً ذاكرته العراقية واعتمد غالباً في أعماله، الحبر الأسود أو الطلاء الأسود ربما في إشارة عاطفية إلى طفولته وذكرى عاشوراء، إذ كانت أمّه تشتري مسحوقاً أسود لصبغ ملابس أولادها كأرخص وسيلة لتوفير الملابس السوداء في تلك المناسبة المشبعة بالعواطف القوية. رسومه وجدارياته الضخمة عكست شعوره الدائم بالتشرّد الذي لا يبارحه، فرغم ابتعاده عن العراق لسنوات طويلة، ظلّ يلازمه ذاك الإحساس بأنّه خارج مكانه وليس في وطنه، في هولندا أو في العراق. إنّه الأثر الإنسانيّ للهجرة وغياب الاستقرار الروحيّ.
«سيلفي مع حمار ج. أورويل» (فحم وحبر على كانفاس ـــــ 115 × 115 سنتم ــــ 2023)

كتب مثلاً نصّاً وجدانياً جميلاً متّصلاً ‏بذاكرة طفولته، ومنه: «أشياء، ذكريات، عشق ما زال ينبض في وجه أمي، وحكايات لم تكتمل... كانت لحظة شديدة الإرباك اختفى فيها عالم وانبثق عالم آخر أجمل وأحلى. هناك كنت أجلس بجوار أبي، في حضنه، على كتفيه. أدور حوله وحول أمي، أنتقل بين حضنين، وجهين، ومحبتين، أحلم، أنشد وأغني، أرقص، ألعب وأرسم… يا إلهي، من أين تأتي الذكريات؟ وأين تذهب؟ أين تختفي وفي أيّ خزانة توضع؟ وكيف تعود بكثافة - تختفي معها المعالم، لتختفي مرة أخرى في صيغة حكاية كانت في يوم ما؟ حكاية تضيع فيها حدود الأشياء، وتؤوب في عالم لا أطراف له (…) كان يا ما كان هي الكلمات التي نحملها معنا، نحنّ إليها وتدفعنا نحو ذكريات وأزمان، أشياء وأماكن، صور وأناس لا يمكن انفصالها وانفصالهم عنا. كان يا ما كان هي ما نحن عليه. ‏كان يا ما كان هي أنا حين ولدت، وحين كنت طفلاً. هي أنا قبل لحظات وستبقى أنا حين أموت. كان يا ما كان هي طفولتنا، مدرستنا، أصدقاؤنا وأسرتنا، أحلامنا، حاجاتنا ورغباتنا... هي حياتنا التي نحملها وتحملنا».
‏من زوايا تلك الذاكرة الدافئة يستعيد الفراجي صوراً ومشاهدات ولحظات من طفولته، ليستكشف ما يصفه بـ «مشكلة الوجود» عبر رسومه ولوحاته وجدارياته وتجهيزات الفيديو والأعمال الغرافيكية، مقدماً نفسه في صورة ظلّية بلون الفحم وروايته الخاصة في المشاهد السوداء والبيضاء للشكل المتكرّر. الأسود والأبيض يعفيانه من سطوة الألوان ويلائمان مشروعه التشكيليّ وتيماته الذاتية الأثيرة له. يمكّنه الأسود من صوغ نصّ تشكيليّ وجدانيّ وفنّي في آن واحد، يعبّر عمّا اختبره ورآه. يستعير مفرداته الجمالية من أساطير بلاد الرافدين وتاريخها. يحاول دوماً تفكيك إحساسه ‏العميق بالنَقْد، فالمكان والزمان مفقودان لديه ولا يمكن استحضارهما إلا بوصل ما انقطع عبر الذاكرة. يحضر الفنان في أعماله محلّقاً ‏كأنّه طائر، ومثلما تشظّت ذاكرته تشظّت مدينته وصارت مدناً، معبّراً بوسائط متنوعة يمتلك تقنياتها بالدراسة والتثقّف على الذات.
‏التشديد على جانب الذاكرة لدى الفراجي ضروريّ لفهم تيمة معرضه الحاليّ الفريدة، أي الحمار.
الأسود والأبيض يعفيانه من سطوة الألوان ويلائمان مشروعه التشكيليّ وتيماته الذاتية

فهذا الحيوان اللطيف، الصبور والودود والذكي، على عكس ما يُضرب به مثالاً على الغباء. هو تيمة هذا المعرض الذي قد يستغربه بعضهم إذا لم يعرف خلفية الفنان الشخصية والفنية وأسلوبه المقدّر في أماكن كثيرة من العالم. يصوّر الفراجي الحمار من زوايا متعددة، وبمرح يخالطه حزن، فحيوانه ينوء تحت أحمال ثقيلة ويلقى سوء معاملة البشر. إحدى اللوحات بالحبر الهندي تحمل عنوان «حمار في الاستديو الخاص بي» وأخرى قماشية بعنوان «سيلفي مع حمار ج. أورويل»، فضلاً عن فيلم رسوم متحركة بتقنية الـ «ستوب موشن» تحت عنوان «حمار» يتضمّن «سيلفي» للفنان مع الحمار. إنّها الطرافة المضمّخة بالحنين... والحزن، تطبع أعمال المعرض المشحون بالعاطفة والحبّ لذكرى الحيوان المسكين المغلوب على أمره. هو في وضعية تفكير (بلى، الحمار يفكر)، أو مثقل بالحمولة، أو صار هيكلاً عظمياً إذ يدركه الموت كسائر الكائنات. وعلى بعض الأعمال المركّبة، تدخل نصوص مكتوبة للفنان خلفيةً للحمار بالأسود على الدوام. ومن خلال الحمار، يمضي الفراجي الذي يهتمّ بالفلسفة أيضاً، وخصوصاً الوجودية، في رحلة استكشاف الوجود ومعانيه وأسئلة الهوية والوطن والمنفى والزمان والمكان، إلى ما هنالك من أثقال النفس.
‏درس صادق كويش الفراجي الرسم في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد، ثم الفلسفة في الجامعة الأردنية، قبل أن يهاجر إلى هولندا لدراسة التصميم الغرافيكي. أقام معارضه المنفردة في ميونخ ولندن وهيوستن وبوينس آيرس وواشنطن وريو دي جانيرو ولوس أنجليس وطوكيو وباريس وبيروت والشارقة وسواها من مدن العالم وعواصمه. كما شارك مرتين في بينالي البندقية عامَي 2015 و 2017 ، فيما بعض أعمال محفوظ في متاحف بريطانية وروسية ورومانية وأميركية وعربية مثل «متحف: المتحف العربي للفن الحديث» في الدوحة و«مؤسسة شومان» في الأردن.

* «فحم وحبر وحمار»: حتى 16 أيار (مايو) ـــ «غاليري تانيت» (مار مخايل ـ بيروت) ــ للاستعلام: 01/562812