ذات مرّة، كنت أبحث عن مراجع فسألت أكاديمياً متخصّصاً في لبنان، اسمه ناثان جورج، إن كان هناك في الأدبيات الغربية من يدرس بلدي الجميل من وجهة نظر النظام العالمي ونظرية النظام - العالم وأمثالها؟ فأجابني أنه، للأسف، لا توجد مثل هذه الأبحاث حول لبنان وبخاصّة أن من يسلك هذه المناهج في الاقتصاد السياسي يميل إلى أن يطبّقها على دول «كبيرة» وليس على لبنان وأقرانه. أنا شخصياً أفهم الانحياز الأكاديمي ضدّ الدول الصغيرة، وبخاصة في مناهج مثل العلوم السياسية الأميركية، التي تميل الى التعميم واستنباط القواعد، وليس الى التخصيص والمعرفة الدقيقة. أذكر زميلاً قالها مرّةً بوضوحٍ وبطريقته الخاصّة: «إن تخصصت في بلد، أنا أفهم أن تتخصّص في بلدٍ حقيقيّ، تركيا! الصّين! إيران! ما لا أفهمه هو ذاك الإنسان الذي تجده دائماً حولنا ويخبرك أنه يتخصّص في لبنان أو جيبوتي».سآخذ الموضوع كتحدٍّ، والأمر هنا لا يقتصر على أنّه ليس هناك فرق نوعي بين أحجام الدّول في هذا المضمار، بل هي أنّ بلداً طرفياً صغيراً كلبنان هو تحديداً ميدانٌ واضحٌ ومفتوح لعمل النظام الدولي. فلنأخذ أي شيء في لبنان، مؤسسة الجيش مثلاً. كيف من الممكن أن تنظّر لها وتفسّرها وظيفياً؟ هذا لن يكون ممكناً عبر «دفتر الشروط» التقليدي لنشوء الجيوش، أو النظرية العامة لتكوّن القوات المسلّحة في بلدٍ سيّد. تشارلز تيللي (مؤرخ وأكاديمي أميركي كتب عن العلاقة بين السياسة والمجتمع) لن ينفعك هنا، وإن اعتمدنا بثقةٍ هذه المقدّمات العامّة المستقاة من الدور التاريخي للجيوش، سيبدو كلّ شيءٍ «خطأً» وغير قابل للتفسير هنا. ولكن، من ناحية أخرى، لو أننا درسنا دور الجيش اللبناني انطلاقاً من وظيفته التأسيسية ضمن اتفاق الطّائف «الدولي»، يصبح كلّ شيءٍ واضحاً ومنطقياً أمامنا وسهل التحليل. كان «الطائف» اتفاقاً إقليمياً - دولياً لإنهاء الحرب في لبنان، وتحويل حالة البلد من ساحة حرب للنظام الدولي الى ساحةٍ للتسوية وتقاسم النفوذ. كنت تحتاج هنا الى قوى عسكرية تؤدّي أكثر من مهمّة: أن تكون قادرة على ضمان اتفاق «الطائف» والأمن الداخلي، أن يكون الجيش موحّداً أكبر من أيّ ميليشيا موجودة في البلد، أن يوظّف فائض الشباب الذين قضوا سنواتٍ في الميليشيات، الخ. وقد كانت رعاية هذه القوّة، في البداية، غربيّة - سوريّة مشتركة، ثمّ أصبحت غربيّة حصراً بعد انسحاب الجيش السوري في عام 2005. من هذا المنظور، يتبيّن أن الجيش أدّى بالفعل مهمّته تلك بنجاح، أقلّه حتّى الآن، وقد حصل كبار الضبّاط وقتها على امتيازاتٍ وعلاوات تميّزهم عن باقي القطاع العامّ، مثلما حصل على حصّةٍ كلّ من كان له دورٌ وحاجة في تلك الصفقة الكبرى. أي أنّ جيش الجمهورية الثانية، حقيقةً، كان مؤسسة «ناجحة» بالمعايير التي صمّم لأجلها، كلّ ما في المسألة هو أنّ هذه المعايير لا تتعلّق بأن يصبح الجيش تشكيلاً قتالياً فاعلاً أو قدرةً تردع عدوّاً خارجياً (وهل يمكن، بالمثل، أن نحلّل الجيش المصري، حتى في الفعالية القتالية، من غير أن ننطلق من دوره ودور مصر في النظام الدولي بعد كامب دايفيد؟).
الأمر ذاته ينطبق على دولة «الطائف» بأكملها: الاتفاق كان نتيجة توافقٍ وتقاطعٍ دوليّ في سياقٍ محدّد (ذهب ضحيّته وقتها ميشال عون)، وكان هدفه إنهاء الحرب في لبنان. لمن لم يعش المرحلة: لم يكن إنهاء التقسيم والعودة الى «لبنان الكبير» بعد سنوات الحرب مسألة محسومةً أو محتّمة أو هيّنة، ولا بمسافة. كما شرحنا سابقاً، لولا «حرب الإلغاء» مثلاً، وتدمير اقتصاد المنطقة الشرقية التي كانت قبل ذلك قد أصبحت مستقرّة وشبه مكتفية، أكثرها لم تمسّه الحرب، ولولا تبعات «حرب أهلية مسيحية» أصبح من الصعب رتقها، لما كان هناك من سببٍ مغرٍ يومها للاتحاد مجدداً مع «الجزء المدمّر» من البلد. ولولا رعاية النظام الدولي لسلامٍ في لبنان لما وجدت ذاك الجَمع في السعوديّة، ورفيق الحريري وجوني عبده والعديد من اللاعبين يتخيّلون بثقةٍ، في آخر أيام الحرب، أنّهم سيديرون لبنانَ جديداً أصبحوا يرونه بعيونهم ويحضّرون له. من هذه الزاوية، «الطّائف» أيضاً نجح في مقاصده، كان الهدف منه إنهاء الحرب الأهلية، وهو قد صنع معادلةً سياسية ودستورية جديدة، قبل بها الجميع، وأعطى لكلٍّ حصّةً وضمانةً وامتيازاً، وهذا بالفعل أنهى الحرب في لبنان. ولكن هذا كلّه، ببساطة، لا علاقة له ببناء دولةٍ ناجحة (بل قد يضمن منع هذا الاحتمال)، وهذا المبنى بأكمله قد يزول، أو لا يعود له سبب، مع زوال وظيفته والتوافق الذي استولده.

«الاحتلال الإيراني» في لبنان
فلنرجع أكثر من ذلك، الى عام 2005 المفصلي. ما كانت 14 آذار مثلاً وكيف يمكن أن نحلّلها؟ ما هو القاسم المشترك بين المنقسمين حول 14 و8 آذار؟ لن يستوي هنا أيّ معيارٍ تستخدمه: الانقسام ليس طائفياً، يوجد سنّة وشيعة ومسيحيون هنا وهناك، وهو بالطّبع ليس ايديولوجيّاً فـ 14 آذار ضمّت كل أشكال الحركات السياسية في لبنان، من أحزاب يمينيّة شبه فاشية الى أحزاب عائلية وسياسيين أفراد وشخصيات محليّة، وبعض اليسار أيضاً. ولا يمكن أخذ العداء لسوريا كجامعٍ مشترك، فأكثر أطراف 14 آذار كانوا، قبل أسبوعين، رجال سوريا في لبنان وأعمدتها. مهما بحثت، ستجد أنّ عامل التفرقة الوحيد هو في العلاقة مع رأس المال الدّولي. بتعابير أخرى، 14 آذار كانت تجمع كلّ من هو مرتبط برأس المال الدولي (ومرافقه الخليجي) في البلد، و8 آذار جمعت كلّ من يقف خارجه (إمّا لأنّه، مثل حزب الله، كان على خصامٍ وصراعٍ معه، أو لأن الغربيين والخليجيين اختاروا غيره من الطائفة لتمثيلهم في البلد). العونيون كانوا، مثلاً، مع 14 آذار حتّى فهموا أن لا مكان لهم ضمن التوليفة الموالية للغرب، «اخترنا غيركم لتمثيلنا، آسفون»، فأصبحوا تلقائياً 8 آذار. أمّا شخصيات مثل نجيب ميقاتي ومحمد الصّفدي، لها علاقاتٌ عضوية مع رأس المال الدولي، ولكنها في الوقت ذاته ليست خيارهم السياسي، فهي قرّرت أن تقف في المنتصف، لا هنا ولا هناك، ومارس هؤلاء السياسة بالاستناد الى حيثيّتهم المحلية وتمثيلهم الشخصي، فيما كان واضحاً أن روحهم وقلبهم هما مع 14 آذار. حتّى على المستوى الطبقي، كنت تجد أكثر البورجوازية اللبنانية التي ترتبط بالغرب ومؤسساته وجامعاته (بغض النظر عن طوائفها)، 14 آذارية مع فارقٍ كبيرٍ. الظّرف الدولي تغيّر بعد عام 2001 وهذا أنتج، من بين ما أنتج، «ثورةً» في لبنان. كان لنا نصف البلد والآن نريده كلّه، هذه كانت «ثورة الأرز»، ثورة رأس المال الدولي في لبنان.
نجح اتفاق الطّائف في مقاصده، أنهى الحرب الأهلية، وصنع معادلةً سياسية ودستورية جديدة، قبل بها الجميع، وأعطى لكلٍّ حصّةً وضمانةً. ولكن هذا كلّه لا علاقة له ببناء دولةٍ ناجحة


ما حصل في 17 تشرين كان مشابهاً ومختلفاً في آن، كانت هناك هبّة شعبيّة يقودها شبّانٌ فقراء يحتجّون على الوضع المعيشي ورسوم الدولة، لخمس دقائق ربّما، قبل أن تصبح «ثورة» تبنّتها المؤسسة في لبنان، وكلّ أحزاب 14 آذار وجماهيرها، وقنوات التلفزيون الرئيسية جميعاً. الكلّ تقريباً، من وليد جنبلاط الى مارسيل غانم، يقولون إنّهم ثوّار ضدّ «النظام». الكثير منهم أصبح يطالب الغرب و»المجتمع الدّولي»، بشفافية، بدعمهم باعتبارهم حلفاء «طبيعيين»، ويحثّونهم على وضع العقوبات على خصوم «الثورة» في الداخل (وقد كان الشعور متبادلاً، وصل الى أقصاه حين قرّرت الدول الغربية ومؤسساتها، بعد كارثة انفجار بيروت، عدم توزيع المساعدات عبر الدولة بل تسليم هذه الأموال الى المنظمات والدكاكين التي تموّلها في لبنان، ولكم أن تتخيلوا قدر المنافع والسلطة التي حصل عليها هؤلاء). كتب علي القادري وقتها أنها «ثورة من غير ايديولوجيا ثورية»، وهذا قد يكون صحيحاً، ولكنها لم تكن من غير ايديولوجيا. بالمناسبة، في بداية التظاهرات «المنظّمة» كانت المؤسسة الوحيدة التي تحظى باحترام «الثوّار» الجدد، خلافاً لباقي الأجهزة الأمنية، وتبثّ أناشيد تمدحها في التظاهرات هي الجيش اللبناني وقيادته - أقرب مؤسسات الدولة الى الغرب. بين 2005 و2019 مرّت سنواتٌ حافلة تغيّر فيها وجه البلد وخريطته، توسّع رأس المال الدولي بشكلٍ كبير وحرّ، في السياسة وفي المجتمع المدني، وضُمّ إليه أناسٌ كثرٌ وأصبحوا طبقة كاملة، وآخرون ليسوا قلّة يتحيّنون الفرصة للعبور إليه، وهؤلاء جميعاً كانوا معاً هناك. لهذا السبب، زعمت بعد فترةٍ قليلة من التظاهرات أنّه، على رغم الشعارات الكبيرة، فإنّ الخصم الوحيد لـ 17 تشرين سيكون في نهاية الأمر «حزب الله» ولا أحد غيره، لا لشيءٍ الّا لأنّه مصدر التناقض الوحيد مع النظام الدولي والعقبة الفعلية أمامه. ومن هنا أيضاً كانت إشكالية «17 تشرين» ومصدر عقمها: «حزب الله» ليس حكومةً أو رئيساً يمكن أن تزيله بثورةٍ ملوّنة خاطفة، بل هو حركة شعبيّة كبيرة، ومسلّحة أيضاً. والعقبة الثانية هي أنّ هؤلاء، باستثناء ربّ العمل الذي يجمعهم، لا يملكون أي مشروعٍ اجتماعي يقدّمونه للناس.
هنا منبع الخطأ في التفسيرات السهلة للوضع اللبناني، سواء «التفسير الذاتي» و«الطوائفي» للبلد، باعتباره ذا ثقافة سياسية متخلّفة، هي سبب كلّ مشاكله، أو تلك التي ترى كل ما يحصل في البلد محرّكاً من «الخارج». أوّلاً، لا يوجد شيء اسمه «خارج»، إلا في المخيّلة القروية اللبنانية، هناك قوى لها أسماء وصفات مختلفة في العالم. ثانياً، «الداخل» ليس في ثنائية مقفلة مع «الخارج»، كيانان مستقلّان يتفاعلان كطابات البلياردو، بل هما جزءٌ من كلّ. حتّى «الطوائف» تتشكّل مصالحها ورؤيتها لذاتها بحسب علاقتها مع رأس المال الدولي، وهي ليست مجرّد «نقطة ضعف» يتسرّب عبرها «الأجنبي» إلينا. بمعنى أنّ هذه الطوائف لو اختفت غداً، وأصبحنا جميعاً مواطنين «هيغيليين»، فإنّ النظام الدولي لن يختفي من حولنا، ومصالحنا تجاهه وتجاه بعضنا البعض لن تصبح واحدة، وستظلّ هذه الديناميات والصراعات والخيارات أمامنا.
سنعطي مثالاً عمليّاً، أكثر الشيعة طائفية في البلد هم ليسوا أولئك الذين ينضوون في الأحزاب «الطائفية» التقليدية، بل هم حقيقةً «الشيعة الأحرار»، العلمانيون، الذين يقفون ضدّهم ويحترفون الأمر، بمعنى أنّ كامل الحياة السياسية والعملية لهؤلاء الناس تقوم حصراً على هويتهم الطائفية وصفتهم باعتبارهم «شيعيّي البلاط» (هناك بالطبع نماذج مشابهة من الجهة الأخرى، ولكن المغريات غير متناسبة، فالنظام الدولي لا سبب لديه للبحث عن «سنّة أحرار» و»مسيحيين أحرار» لتمويلهم ضدّ طوائفهم). أعرف بعض هؤلاء «العلمانيين»، وقد راقبتهم منذ صغري وهم يدخلون في تنظيمٍ بعد آخر، وهي تنظيمات تقوم على استخدام هويتك ومولدك بغية البروز والاسترزاق: «جنوبيون أحرار»، «شيعة ديموقراطيون»، «النادي العاملي لزيارة السفارات»، الخ. أكثر من ذلك، حين ترى قادة هؤلاء البارزين، سواء في المجال العام أو في وثائق «ويكيليكس»، حيث لهم مكان مميّز، تكتشف أنهم جميعاً يمتلكون صفة أخرى أساسية: كلّهم «ابن شخص ما»، ابن الشيخ وابن العلّامة وابن السياسي وهكذا يكون تعريفه، وهذه بطاقتهم ومصدر شرعيتهم أمام السفارات ووكلائها. آباؤهم كانوا، في وقتٍ ما، نخباً بارزة، وهم يشرحون باستمرارٍ لكلّ من يريد أن يسمع أنهم ينوون استرداد إرث والدهم الذي أفلت منهم (والإرث هنا هو نحن، حرفياً). فكروا في الأمر للحظة، ما هذا الشيء الرجعي والتوريثي والفاسد؟ ولماذا يمكن أن يختار لأيّ شابٍّ أن ينجذب إليهم ويختارهم على «حزب الله»؛ هل حتى يضع هذه العائلات، مجدداً، فوق رأسه؟ وفي حالاتٍ كثيرة نكون لا نحترم الأب نفسه، حتى نأخذ الولد على محمل الجدّ.

مجتمع الـ «لاربِنغ»
حين نقول إنه في بلدٍ مثل لبنان، وفوق مستوى معيّن، تصبح علاقتك برأس المال الدولي والخليجي هي ما يقرّر هويتك وهي الأساس في كلّ شيءٍ آخر (من آرائك الى انحيازاتك الى مستوى حياتك - موقعك في العالم بتعبيرٍ آخر)، فإنّ غير اللبناني الذي يقرأني قد لا يصدّقني وسيظنّ أنّي أبالغ، واللبناني المعني الذي يقرأني سيفهم تماماً ما أقول، ولكنه جزءٌ من المسرحيّة. هنا، بالمعنى الشميتي، عامل التفريق بين العدوّ والصديق في لبنان، وليس «الطوائف والقبائل» ولا 8 و14 ولا الشعارات التي تطلق من حولها. ولعبة الهيمنة هذه تذهب في اتّجاهٍ واحد، بمعنى أننا لا نتكلّم على «معسكرين» متساويين، بل على رأسمال دولي يهيمن ويتوسّع، وهو منظّمٌ وموحّدٌ في أهدافه، فيما من «خارجه» هم فئات مختلفة، متضاربة الأهواء والتمويل والمصالح. هناك من هم «في الداخل» وهناك من هم «في الخارج» وهناك من يسعى الى الدّخول. وحتّى تصبح عضواً في النّادي، هناك طقوس امتثالٍ وولاء على الجميع اتّباعها، وخاصّةً إن كنت تأتي من «خارجه» وعليك إثبات التوبة. بهذا المعنى، لا يوجد «موقع وسط» بالنسبة الى هؤلاء، وهذه طبيعة الهيمنة؛ لا وقوف في المنتصف، يكفي أن تأخذ خطوةً بعيداً عن جمعهم حتى تصبح مباشرةً عدوّاً لهم، مثلك مثل الحرس الثوري تماماً. في المسائل الأساسيّة عندهم، لا تحصل اختلافات في الرأي ولا تسمع جدالاً أو نقاشاً، ومن السهل دوماً التنبؤ بما سيقولونه غداً. لا يوجد هنا احتمالٌ لرأيٍ فرديٍّ يخالف أو يحلّق منفرداً، لا يوجد عندهم أسعد أبو خليل.
وحين ترتبط بهم، تصبح السياسة عندك بسيطة: أنت وكيلٌ لرأس المال الدولي والخليجي في لبنان ومصلحتك الشخصية والاجتماعية أضحت في توسّع نفوذهم، وبالتالي نفوذك، في البلد. لهذا السّبب لا أفهم حين أقول لأحد الزملاء (هو يعرف نفسه) أنّ فلاناً، خلاص، أصبح في الجانب الآخر، فيحثّني على أن «أتكلّم إليه». كأنّ ماركس لم يولد ولم يكتب ولم يعلّمنا شيئاً، وكأنّ في وسع «الكلام» معه، ولو كنت لقمان الحكيم، أن يغيّر مصالحه الطبقية والشخصية ونوازع الرّغبة التي تتحكّم به. فلنمارس «لعبة ذهنية» هنا، قصة خرافية: فلنفترض أنّ قطر قرّرت في مرحلةٍ ما أن تموّل «الأخبار» من ضمن سياساتها «الخاصّة» المعروفة، ستجذب الصحيفة عندها، مباشرةً، نوعاً مختلفاً من الناس والأصدقاء والمثقّفين، سوف يتاح لك شكلٌ مختلف من «النضال». حسنٌ، فلنفترض أنّه، فيما بعد، حصل انفصالٌ مع رأس المال الخليجي هذا بسبب حدثٍ ما (حربٌ في سوريا، مثلاً). ستجد أنّه مع انسحاب المال فإنّ كلّ هؤلاء، ببساطة، سوف ينسحبون فوراً معه (أنا لا أقول إن هذا قد حصل، بالطبع لا! لا شيء أبعد من ذلك عن الحقيقة. هو مثالٌ نظري فحسب ينطبق في أي مكان).

تغيّر الظّرف الدولي بعد عام 2001 وكان من نتائجه، «ثورةً» في لبنان. كان لنا نصف البلد والآن نريده كلّه، هذه كانت «ثورة الأرز»: ثورة رأس المال الدولي في لبنان


حين تصبح السياسة «بسيطة» هكذا ومقرّرة سلفاً، وأنت في الوقت ذاته لا تملك مشروعاً اجتماعيّاً باستثناء توسيع النفوذ الغربي والخليجي في البلد، تصبح أكثر أشكال النشاط السياسي التي تزعمها هي نمطٌ من الـ»لاربنغ»: «لاربنغ» نضال و«لاربنغ» ثقافة و«لاربنغ» ثورة و«لاربنغ» فلسطين (LARPing، من الصعب ترجمة المصطلح الإنكليزي، ابحثوا عنه إن شئتم، لكنه مشتقُّ من نشاطٍ يشبه مدن الملاهي في اميركا، يذهب إليه الذكور المتوحّدون في يوم الإجازة لكي يرتدوا أزياء تنكرية ويلعبوا أدوار فرسانٍ وأقزام في عالم تولكن. (ظهرت منذ فترة منظمة اسمها «نقابة الصحافة البديلة»، لم يسألني أحد، بالطبع، مثلهم مثل النقابة الرسمية). أحتاج أوّلاً إلى أن أقول شيئاً عن افتتان الكثير من الناشطين، وخصوصاً من لهم ماضٍ يساري أو أوهام ماركسيّة، بفكرة «النقابة» وتقديسها. يعتقدون أنّ النقابة المهنية هي، في ذاتها، شيءٌ تقدّمي وديموقراطي لأنهم قرأوا اسمها في الأدبيات اليسارية، فتجدهم ينشئون النقابات لـ»عمال» الجامعة الأميركية في لبنان أو في فلسطين أو لموظفي المنظمات الدولية (أي أكثر الفئات حظوةً في المجتمع) ويعتقدون أنه فعلٌ اشتراكيّ. يا إخوان: النقابات ليست كلّها نقابة العمال الثوريّة التي سمعتم عنها في السياق الأوروبي، بل هي أساساً وغالباً تنظيمٌ محافظ ورجعي وقديم. النقابات موجودة في تراثنا منذ أيام العباسيين وفي أوروبا منذ القرون الوسطى، ودورها الرئيسي، الى اليوم، هو في أن تجني وتحافظ على امتيازات الفئة التي تمثّلها، وتضع شروطاً وحائطاً حولها، وبخاصة النقابات المهنية والنخبوية مثل الأطباء والمهندسين وغيرهم (الجملة الدائمة التي تسمعونها على لسان النقيب «حفظ حقوق أعضاء النقابة»، وماذا عن حقوق الباقين؟).
عودة الى النقابة «البديلة»، يكفي أن ترى صورةً لهم في تظاهرة أو اعتصام وتحصيهم (نحن هنا لا نتكلّم على جماهير وجحافل) حتى تبدو القصة واضحة لا لبس فيها: هناك رأسمال «تقليدي» قديم في الصحافة اللبنانية («النهار» على «اللواء» على عوني الكعكي)، وهو في طور الانحدار، وهم يمثّلون رأسمالاً جديداً صاعداً، هو رأس المال الغربي الذي أصبح ينتج منصاتٍ لمصلحته مباشرة في البلد، ووكالات خليجية توظّف عدداً معتبراً من الصحافيين في بيروت، وكلّهم من خارج تلك المنظومة القديمة، وهم يريدون مكانهم الخاص. حتّى إنّك تكتشف أنّ بينهم أفراداً ليسوا صحافيين حتى، ولا علاقة لهم بالمهنة، ولكنهم «ناشطون» يعملون في منظمات غربية التمويل، فاعتبروا تلقائياً وغريزياً أنهم عائلة واحدة، وهم على حقّ. هذه قصة قديمة ومعروفة في دول الأطراف، الجديد يستبدل القديم، ووكيلٌ يحلّ مكان وكيل. هذا كلّه مفهوم، ولكن لماذا إذاً الكلمات الكبيرة في تعريفهم لأنفسهم، ولماذا اللغة النضالية؟ وهل يظنّون أن القاسم المشترك بينهم صعبٌ على الملاحظة؟ فلينشئوا نادياً سياسياً أو حزباً يتكلّم باسمهم، ولكن لماذا هذا الـ»لاربنغ» النقابي؟ ولماذا يتكلّمون باسمنا؟ هنا المشكلة الوحيدة: لا تتكلّموا باسمنا، أنتم لا تملكون حتى أن تتكلّموا باسمكم. وطالما أننا في مجال الـ«لاربنغ»، فماذا لو أخذ أحدٌ هذه البنى على محمل الجدّ وقرّر أن يجاريكم؟ ماذا سيحصل إن زاركم جمال غصن وأصدقاؤه، في المرة القادمة التي تتظاهرون فيها لأجل أوكرانيا، وقاموا باعتصامٍ مضاد؟ (هذا، بالمناسبة، سيناريو معروف وتاريخي في «النضال» العمّالي والنقابي الذي تستوحون منه: «التقت مجموعتان عماليّتان ثوريّتان، ووقع اختلاف ايديولوجيّ بينهما، وحصلت أمورٌ مؤسفة» - أمزح بالطّبع، والحقيقة هي أنّه، إن لم يحصل تغيير جذري في مسار الأمور من حولنا، فهم من سيقوم باصطيادنا يوماً ما).

خاتمة: بلدٌ لا يلزم؟
في دول الأطراف الصغيرة، أنت تشعر بالضياع حين تخسر «وظيفتك» في النظام الدولي، وهؤلاء الناس - غالباً - لم يجتمعوا في بلدٍ لسببٍ ذاتي، أو لأنّهم أمّة قديمة ولا يقوون إلّا على العيش معاً. هذه كيانات حديثة ولّدتها عواملٌ مثل الصدفة التاريخية والرعاية الدولية، وموقعٌ في المنظومة ووعود تغري هذه النخب بأن من مصلحتها أن تسكن البيت نفسه. وفوق هذا الأساس تبني أسطورة وطنية وتاريخاً مشتركاً وعلماً والرحابنة وفيروز وباقي هذه العناصر. إلا أنّ الظروف تتغيّر ويظهر لاعبون جدد وتصبح التفاهمات القديمة، مثل «الطائف»، شيئاً من الماضي، لا يوجد من يرعاها ويضمنها. في مثل هذه الحالات، وفي غياب بديل، تجد العديد من هذه الدّول تستمرّ لفترةٍ طويلة ببساطة «من قلّة الموت»، ويشعر بعض أهلها وكأنهم «عالقون» فيها في انتظار شيءٍ ما.
من هنا، نسمع أخيراً تصاعد الدعوات الى الفيدرالية والتقسيم، ومن سياسيين ووجوه عامّة، تطرح ببساطةٍ ما يعتبر «محرّماً» في أغلب الأمم. وقد أصبح كلام التقسيم يخرج تلقائياً عند كلّ حدثٍ في البلد (وهذا يستمرّ حتّى ونحن في حرب، بل ربّما لأننا في حرب). كمن قرّر مسبقاً أنه يريد الطّلاق فيبحث باستمرارٍ عن أيّ مناسبة لطرحه، ويعتبره على الدوام الحلّ الوحيد لديه. هذا «المخرج» الوهمي هو تعبيرٌ طبيعي عن مأزق تاريخي متصاعد تواجهه الأحزاب التقليدية في لبنان، وبخاصة المسيحية منها، لن نناقشه هنا. ولكن بالمعنى الشعبوي، قد يكون هذا الشعار جاذباً للبعض: «في هذه الظروف وبعد كلّ ما جرى، ما معنى أن أظلّ مع غالبية إسلامية متزايدة باستمرار؟ ومالي أنا ومال فلسطين، وأخبار السنّة والشيعة، والحرب مع أميركا وتحرير الإقليم؟ فلنسحب وظائف لبنان التاريخية - مصارف، سياحة، الزمن الجميل - الى جبل لبنان وليكملوا هم حفلتهم الخاصّة». وهذا منطقٌ، بصراحة، لا يسعك الّا أن تتفهّمه، وهو يعد بحلّ جميع التناقضات معاً. المشكلة هي أن هذا المشروع لن يتحقّق، وذلك ليس بسبب كلّ العوائق والاستحالات المادية والجغرافية والبشرية أمام مثل هذا الطرح (يحرّك دعاة التقسيم وهمٌ بأنّك، إن انفصلت عمّن يزعجك، فهو سيختفي، والحال أنّه سيظلّ بجانبك ولكن بلا توافق ولا ضمانات). السبب الأول هو في غياب رغبةٍ دولية في التقسيم، أو الدخول في مشاريع «بناء دول» هنا، وأنت لست غاريبالدي حتّى تستولد أمّةً بقدراتك الذاتية. السبب الثاني، والأهمّ، هو أن البورجوازية المسيحية ذاتها تحتاج الى لبنان الكبير، فقدرتها المالية تأتي من البيع والاستيراد والتمويل لسوقٍ من ستة ملايين، وليس لسوقٍ حجمه مليون لبناني ومثلهم من السوريين. فهم، قبل أيّ شيءٍ آخر، من سيضع «فيتو» على التقسيم. في مثل هذه الحالات، طالما أنّنا عالقون معاً ولا مخرج الّا صوب ما هو أسوأ فمن الأسلم، منطقياً، أن تصبر على ما لا يمكن تغييره وتجنح الى الوفاق وتظلّ بأدبك. غير أنّ اللبنانيين أثبتوا مراراً أنهم ليسوا أسياد المنطق، والظروف والحوافز والموانع التي لا تزال تمنع الجنون اليوم قد تنقلب بسهولة، فجأةً وفي أيّ لحظة.