لا يزال خطاب قائد «فيلق النار»، العميد دان غولدفوس، الذي يقاتل ضباطه وجنوده منذ أكثر من ثلاثة أشهر في خانيونس، يثير عاصفة من ردود الفعل في إسرائيل. الخطاب الذي حمل الكثير من المضامين السياسية، وانتقاداً ظاهرياً لوزراء الحكومة، من المفترض أن يجرّ صاحبه إلى جلسة استيضاح أمام رئيس الأركان، هرتسي هليفي، باعتبار أن المستوى العسكري عليه الحفاظ على مسافة من الخطاب السياسي وصخبه. والانتقادات التي طاولت غولدفوس، أتت أيضاً من ضباط وجنود رفضوا دعوته المبطنة إلى إعفاء «الحريديين» من الخدمة العسكرية، بحجة الحفاظ على الوحدة وعدم العودة إلى مرحلة ما قبل السابع من أكتوبر التي سادتها الخلافات داخل المجتمع الإسرائيلي. إشارةٌ سرعان ما التقطها عدد من وزراء الحكومة الذين دعاهم غولدفوس إلى أن يكونوا جديرين بقتال جنوده؛ إذ كان من أوائل من أثنوا على خطابه وزير المالية، بتسئليل سموتريتش، الذي شُرعت في عهده أكثر الميزانيات «فساداً». وقال إن «غولدفوس جندي شجاع ومن نوع القائد الذي يحتاجه الجيش الإسرائيلي اليوم أكثر من أي وقت مضى. ومع تقدمه في القتال في خان يونس، عبّر عن الشعور الحقيقي للجنود في الميدان، والذين طالبونا بأن نكون جديرين بشجاعتهم وتضحيتهم وتكاتفهم... هذا ليس وقت الاستيضاحات والتحقيقات. كلماته التي تأتي من قلبه يجب أن تدخل قلوبنا جميعاً».أمّا المحلل السياسي لصحيفة «يديعوت أحرونوت»، ناحوم برنياع، فوجه، في مقاله أمس، انتقاداً لاذعاً إلى غولدفوس، تسبب بفتح جبهة مشاحنات بين قرائه. ورأى برنياع أن «الخطاب الذي ألقاه قائد الفرقة 98 لا يقل عن كونه فضيحة. وهو يعبّر عن فقدان السيطرة، التي باتت مشكلة ترافق الجيش منذ 7 أكتوبر. ومع كل الاحترام لوساوس قلب ضابط يحظى بالتقدير، القتال في غزة لا يمنحه الحق ولا السلطة للتعبير عن موقفه من قضايا سياسية». وبحسبه، فإن غولدفوس «لا يختلف كثيراً» عن العميد باراك حيرام، الذي دمّر جامعة الإسراء في غزة «لأنه رغب في تدمير جامعة»، أو عن الضابط الذي أمر بتدمير مبنى المجلس التشريعي بعد احتلاله وتطهيره، واحتفل بذلك بالصوت والصورة.
وحذر برنياع من أن «ثمة شيئاً سيئاً يحدث في الجيش»، عائداً بالذاكرة «إلى حزم بن غوريون تجاه فصل الجيش عن السياسة، في خضم حرب الاستقلال (النكبة الفلسطينية)، إذ كانت تلك عملية قاسية، مؤلمة، وضرورية، وبلغت ذروتها بإغراق سفينة ألتالينا، وتفكيك البلماخ. من دون ذلك، ما كان لنا جيش». وشبّه الكاتب خطاب غولدفوس بـ«خطاب الهولوكوست الفاضح» الذي ألقاه نائب رئيس الأركان سابقاً، العميد يائير غولان، في عام 2016؛ إذ وعظ ضد ما يجري في المجتمع الإسرائيلي لكون ذلك ذكّره بألمانيا وأوروبا في ثلاثينيات القرن الماضي. وأضاف: «رغم أنني أيّدت ما قاله، اعتبرت أنه من الواجب عزله من الجيش في اليوم التالي لخطابه، فلم يأذن له أحد بوعظ في الأخلاق أو التحدث في التاريخ». ولكن اتضح بعدها أن «غولان لم يتعلّم الدرس»؛ ففي السابع من أكتوبر، «أجرى مقابلات سياسية بينما كان يرتدي زيه العسكري... لقد اتضح أنه لم يتعلم شيئاً: الغطرسة ذاتها، وعدم احترام القواعد المشتقة من الزي العسكري والرتبة، ذاته. ومن المؤسف أن الجيش لم يرَ أنه من المناسب التنصل مما فعله غولان وغيره من المسؤولين الآخرين في الاحتياط، الأمر الذي أوجد حفرة انزلق إليها غولدفوس».
وكان غولدفوس قد قرأ خطابه من ورقة مكتوبة، أمام ميكروفونات قنوات التلفزة، في ما وصفه برنياع بأنه خطاب «منظّم، رسمي، ملتزم»، متسائلاً: «أيّ من بين الأوراق التي قرأها، أَطلع عليها ضباط الناطقية العسكرية، وأيّ فضّل عدم إطلاعهم عليها؟». غير أن ذلك «ليس بالأمر الجوهري»؛ إذ إنه من مضمون خطابه «يسهل فهم وساوس قلبه، وأنا أسمع أحاديث مماثلة من ضباط ومقاتلين في الخدمة النظامية والاحتياطية منذ بداية الحرب... الاغتراب الذي يشعرون به تجاه الجدل الدائر في الجبهة الداخلية أمر مفهوم، لقد ظهر وبرز في كل حرب تقريباً، وهو بارز بشكل خاص في هذه الحرب، على خلفية السلوك الفظيع للنخبة السياسية»، بحسب ما يضيف برنياع، مستدركاً: «لكن، ماذا يقترح في الواقع؟ صادق الكنيست (أول من أمس) على ميزانية حكومية زائفة وفاسدة ومدمرة. فهل كان يقترح في خطابه تقبل ما سبق بصمت باسم الوحدة؟ وهل ينقذ الحريديين ضمنياً، وهو يقترح باسم الوحدة والتكافل الامتناع عن مكافحة تهرّبهم من الخدمة العسكرية الإلزامية؟». على خلفية ما تقدم، «لم يكن مستغرباً أن أوّل من سارع إلى تبني خطابه، كان الوزير الحريدي، موشيه أربيل، من حزب "شاس"، فالوحدة هي السترة الواقية التي تتلطّى خلفها الأحزاب الحريدية. أربيل كان أولهم، وبعده اندفع جميع أنصار الحكومة»، كما قال الكاتب.
ونبّه برنياع إلى أن «الضباط الذين يقحمون السياسة في خطاباتهم يدعون السياسيين (إلى التدخل) في الجيش»، معتبراً أن الاكتفاء بتوجيه «ملاحظة قيادية» إلى العميد حيرام بسبب تدميره جامعة الإسراء من دون حصوله على تصريح، «سمح لوزراء الحكومة بالتعهد لهيئة الأركان العامة بأن التعيينات المقبلة في الجيش ستكون على أساس الارتباط بالسياسيين. باختصار: لا نريد تحقيقات، نريد وظائف. مشروع الحكومة الحالية التدميري وصل إلى الجيش». وختم قائلاً بأن «كل حرب تجلب معها مرحلة من الوقوع في غرام أولئك الذين يرتدون الزّي العسكري. كل ضابط مقاتل يحظى بجرعة كبيرة من عبادة الشخصية وبصق الخطايا. هذا ما حدث لنا في نهاية حرب الأيام الستة، وكان أحد العوامل التي أفضت إلى العمى والغطرسة وفشل حرب يوم الغفران (1973). اتضح أننا لم نتعلم الدرس. وهذه المرة يبدو تقديس الشخصية محيراً، خصوصاً لكونه يأتي على خلفية أخطر فشل عسكري عرفته الدولة على الإطلاق. جميل أن يتحمل غولدفوس وغيره من الضباط المسؤولية، لكن أين التواضع؟».