إنه عام 1952؛ توجَّه رئيس وزراء إسرائيل الأول، ديفيد بن غوريون، إلى بيت القائد الروحي للتيار اللتواني، الراف أبراهام يشعياهو كرليتس المعروف باسم «حزون إيش»، في مستعمرة «بني براك»، معقل الحريديين، حيث تَقَابَل العالمان العلماني والديني حول الطاولة. استخرج «حزون إيش» قصة الجمل من التلمود البابلي، قاطعاً على ضيفه ما جاء لأجله، إذ قال: «عندما يقف جملان، واحد مقابل الآخر، إزاء طريق ضيّق لا يتّسع إلا لمرور أحدهما، أيُّ جملٍ له أولويّة المرور؟ الذي يَحمِل الحِمل أم ذلك الذي لا يحمل حِملاً؟ نحن المتديّنين نحمل عبء دراسة التوراة، الحفاظ على قدسيّة السبت والكشروت (الحلال). ولذلك، على الآخرين أن يخلوا الطريق لنا». حاول بن غوريون مناقشته بأن العلمانيين يحملون عبء الاستيطان، وحماية دولة إسرائيل، والحفاظ على تلامذة اليشيفوت، لكن من دون فائدة؛ فالعجوز حزم أمره رافضاً تجنيد أتباعه للجيش.قبل ذلك اللقاء بسنوات، نَظَم بن غوريون العلاقة الهوياتية بين الدين والدولة، برسالة «الستاتوس كو» التي بعث بها يوم كان رئيس الوكالة اليهودية عام 1947، إلى رئيس حزب «أغودات يسرائيل» الحريدي، يتسحاق مئير لفين، لضمان موافقة الأخير على إقامة دولة إسرائيل. وفيها، وضع بن غوريون عمليّاً أسس النظام الاجتماعي التوافقي بين العلمانيين والحريديم، محدّداً موقف الدولة من قضايا قدسية السبت، والتعليم المستقلّ للحريديم، وقوانين الأحوال الشخصية، والكشروت. ومنذ ذلك الحين، باتت أيّ محاولة لإنهاء الاستقلال الذاتي في منظومة التعليم الحريدية، أو فرض التجنيد على منتسبيها، مرفوضة بوصفها «إخلالاً» برسالة «الستاتوس كو».
إنه عام 2024؛ لا شيء تبدّل. العالمان العلماني والديني يسيران في خطَّين متوازيَين، حتى في خضم "أعظم كارثة" تمرّ على إسرائيل. هكذا، أعلن الحريديون أنهم «يفضّلون الجلوس بين الخنازير على الجلوس مع العلمانيين، والقتل على أيدي العرب أو السجن على أن يتجنّدوا»، كما قال مُحرّكهم الرافي تسيفي فريدمان، لِمَن أتاه من «إخوة السلاح» في محاولة لإقناعه بتجنيد أبنائه. أما رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، فلم تسعفه هذه المرة الدقيقة التسعون التي لطالما نجح في استغلالها لتسجيل أهدافه؛ إذ طالب ثلاث مرات «المحكمة العليا» بمنحه مهلة، كان آخرها 30 يوماً إضافيّاً تبدأ من يوم أمس، بعدما عمّمت المستشارة القانونية للحكومة، غالي بهاراف - ميارا، مسوّدة على الوزارات المعنية، حول موقفها القانوني في شأن قانون التجنيد، قائلةً إنه اعتباراً من الأول من نيسان، سيتعيّن على الدولة تجنيد الحريديين ووقف تمويل التعليم في المعاهد التوراتية للطلاب الذين يمتنعون عن الخدمة العسكرية. وأوضحت، وفقاً لمقتطفات المسوّدة التي نشرتها وسائل الإعلام العبرية، أن السبب في ذلك عائدٌ إلى عدم توفّر صلاحيات تسمح للحكومة بمواصلة إعفاء الحريديين من الخدمة، خصوصاً أن «أمر الساعة (الأمر المؤقت بالإعفاء) الصادر عن الحكومة ينتهي في نهاية الشهر الجاري، ولم تتمّ المصادقة على أيّ قرار آخر يسمح بتمديد هذه الصلاحية». وشدّدت على أنه ابتداءً من يوم الإثنين المقبل، «سيتعيّن على سلطات التجنيد استدعاء طلاب المدارس الدينية، وخرّيجي المؤسسات التعليمية الحريدية الذين انتهت مدّة تأجيل خدمتهم، أو الذين وصلوا إلى سن التجنيد بعد انتهاء أمر الساعة، للامتثال للخدمة العسكرية» (عادت "المحكمة العليا" وأصدرت، مساء أمس، أمراً مؤقتاً يقضي بأنه اعتباراً من الأول من نيسان، "لن تتمكّن الدولة من تحويل الأموال إلى طلاب المدارس الدينية في إسرائيل من الذين تلقّوا أمر التجنيد ولم يلتحقوا").
العالمان العلماني والديني يسيران في خطَّين متوازيَين لا يلتقيان أبداً، حتى في خضم "أعظم كارثة" تمرّ على إسرائيل


ولم يمضِ وقت طويل على انتشار مسوّدة بهاراف - ميارا، حتى رفع أعضاء الكنيست من الأحزاب الحريدية الشريكة في ائتلاف نتنياهو البطاقة الحمراء، مهدّدين بإسقاط حكومته. ووفقاً لما ذكرته هيئة البث الإسرائيلية الرسمية (كان 11)، فإن الأحزاب الحريدية، فضّلت عدم المضيّ قدماً في سنّ القانون حالياً، ولو أفضى ذلك إلى تعليق تمويل الحكومة لسلك التعليم الحريدي ومؤسّساته. بالنسبة إلى هذه الأحزاب، فإن الخطاب تجاه جمهورها في خضم الحرب كان «صدامياً وعدائياً»، خاصة مع وصف أبنائها بـ«الطفيليين والمتهرّبين». وعليه، فإن «حكومة أخرى قد تكون أكثر استعداداً لأخذ مطالب الجمهور الحريدي في الاعتبار»، علماً أن الحكومة الحالية فتحت للحريديين صنبور التمويل حتى في خضم أزمة الميزانية التي يتطلّبها «المجهود الحربي»، فيما منحتهم حكومات نتنياهو المتعاقبة، منذ عام 2015، الإعفاء تباعاً.
أمّا نتنياهو الذي طالب بـ30 يوماً إضافياً، فقال إنه «لا يمكن إصدار أمر بوقف دعم طلاب اليشيفوت قبل انتهاء السنة الدراسة»، بحسب ما أظهر الردّ الرسمي للدولة على "المحكمة العليا". وبحسب ادّعائه: «لا يوجد تغيير في الصلاحية القانونية لتمرير ميزانيات دعم المؤسسات الحريدية طالما أن (الحريدي) المطلوب للخدمة العسكرية لم يتلقَّ أمراً بالامتثال من القيادة». ووفقاً لبيان صدر عن مكتبه، طالب رئيس الحكومة، المحكمة بمنحه مهلة 30 يوماً إضافية للتوصّل إلى تفاهمات في شأن القانون، متذرّعاً بالحرب المتواصلة. ولفت إلى أن «الحكومة تنوي حلّ هذه القضية المعقّدة، والتي لم تُحلّ منذ عقود، وقد التزمت بذلك منذ حزيران من العام الماضي، في غضون تسعة أشهر»، مضيفاً: «لكنّ الوقت الذي كان تحت تصرّفنا، هو ثلاثة أشهر فقط، إذ أُجبرنا، منذ السابع من أكتوبر، على حشد موارد الوقت والاهتمام بشكل رئيسي، بإدارة الحرب خلال الأشهر الستة التي انقضت منذ ذلك الحين». وتابع: «مع ذلك، بذلنا جهداً كبيراً، حتى أثناء الحرب، لحلّ هذه القضية المهمة»، مشيراً إلى أن «المبدأ الذي يوجّهنا، هو محاولة التوصّل إلى اتفاق يمكن ضمان نجاحه، وذلك بعدما ثبت في الماضي أن التجنيد دون ترتيب متفق عليه، يؤدي في الواقع إلى نتيجة عكسيّة». وذكر أن «هناك حاجة إلى فترة زمنية قصيرة أخرى لوضع اللمسات الأخيرة على الترتيب، واستكمال العمل المهنيّ، وتحديد الطرق والأطر التي ستسمح للمجنّدين بالحفاظ على نمط حياتهم أثناء خدمتهم».
عملياً، قد تُمنح حكومة نتنياهو المهلة التي طالبت بها، فيما من المستبعد - حتى ضمن هذه المهلة - التوصّل إلى اتفاق يحلّ الأزمة التي عمرها من عمر إسرائيل. فأزمة القانون، كما وصفها وزير القضاء، ياريف ليفين، هي «حدث كارثي». واعتبر ليفين أن ما حصل «يهدّد استقرار الحكومة وشعبية الليكود»، ولا سيما أن الأخير عليه «الإيفاء بالوعود التي قطعها للأحزاب الحريدية في الاتفاقات الائتلافية»، لكن هذا الوفاء سيكون «باهظ الثمن» بسبب معارضة ناخبي الحزب مواصلة إعفاء الحريديين من الخدمة الإجبارية. وأتت أقوال ليفين في جلسة مغلقة أعقبت قرار الحكومة إلغاء جلسة التصويت، يوم الثلاثاء، على اقتراح نتنياهو، بسبب عدم التوصل إلى توافق حوله، على الرغم من تخلّي الأحزاب الحريدية عن البند الذي يرفع سنّ الإعفاء إلى 35 عاماً.
كذلك، هاجم رئيس حزب «إسرائيل بيتنا»، أفيغدور ليبرمان، الحريديين، قائلاً في مقابلة مع موقع «واينت»: «إذا هيلل العجوز بحد ذاته كان حطاباً، فلماذا لا يريد (عضو الكنيست من يهودية التوارة، موشيه) غافني أن يكون حطّاباً؟ لا يريد أن يعمل، يريدون جمهوراً أسيراً»، في إشارة إلى أن عالم الحريديين هو العالم الشمولي المغلق الوحيد ربّما في العالم الحديث، والذي لا يختلط بالآخرين، ولا يقوم بأيّ واجبات بينما يحصل على حقوقه كاملة. وفي لحظة هجوم ليبرمان، كان غافي مشغولاً بوضع الحجر الأساس لمدرسة «التعليم المستقل» الحريدية في طبريا. ومن هناك ردّ: «من دون دراسة التوراة، لا حقّ لنا في الوجود في البلاد. بعد ألفي عام من الشتات، شعب إسرائيل عاد ليكون شعباً يهودياً في أرضه، وهذا بفضل دارسي التوراة الذين يحافظون على القيم».