عالم الديجيتال يشبه أجزاء الأحجية. حالما نكتشف المكان المخصّص لجزء ما، يتسع المشهد أمامنا، ويصبح بإمكاننا بناء مشهد إضافي. قبل سنوات، لم يكن في الإمكان بناء مشروع مثل Worldcoin. كل البنية التحتية التي كان يتطلبّها أمر مماثل لم تكن جاهزة أو موجودة حتى. حتى فكرة «نظام الدخل العالمي» (Universal basic income تُختصر بـ UBI)، كانت مجرّد خطة متخيّلة لعالم يسيطر فيه الذكاء الاصطناعي على وظائف البشر. أن يصبح الإنسان حرّاً من العمل، وألا يكون في حاجة له ليعيش على كوكب الأرض ومجرّداً من المهام التي لا يحبها، هي فكرة مغرية. لكن من الذي سيبني ويطوّر ويكتشف؟ وكيف يمكن لمجتمع مماثل أن يحافظ على وجوده؟ لسرد هذه القصة، يجب أن نعود إلى أثينا القديمة، حين كانت العبودية ركناً أساسياً من المجتمع والاقتصاد. لم تكن للعبيد حقوق واعتبروا «ممتلكات». كانت العبودية ممارسة مقبولة وواسعة الانتشار، فيما تمّ توظيف العبيد في مهام مختلفة، مثل العمل اليدوي، والعمل المنزلي، وحتى في المهن التي تتطلّب مهارات. ازدهر اقتصاد أثينا على ظهر العبودية، وفي المقابل، تفرغت غالبية المواطنين «الأحرار» لمجموعة من الأنشطة، بما في ذلك الفنون والسياسة والفلسفة. وهذا جوهر قصّتنا.عاش جزء كبير من مواطني أثينا القديمة من دون الحاجة إلى عمل، ومن دون أن يتأثّر الاقتصاد. في عالم اليوم، مع تغيّر المفاهيم والقيم والحريات التي ناضل من أجلها البشر، انتفت العبودية بشكلها القديم (اتخذت طابعاً آخر). لكنّنا نعاصر قفزة تكنولوجية هائلة في مجال الذكاء الاصطناعي. بحسب تقرير لـ «غولدمن ساكس»، ستلغي أنظمة الذكاء الاصطناعي مثل ChatGPT، أكثر من 300 مليون وظيفة يقوم بها البشر، لتحلّ مكانهم أنظمة أسرع وأكثر قدرة وكفاءة. هنا، تبرز أسئلة عدّة: ماذا سيفعل كل هؤلاء؟ وكم سيصبح عددهم مع تطوّر تلك الأنظمة خلال الأشهر والسنوات المقبلة؟ وماذا سنفعل بهم؟
هكذا، أعيد طرح فكرة «نظام الدخل العالمي». أي بناء أثينا رقمية. وبدلاً من العبيد، سيحلّ الذكاء الاصطناعي مكان البشر في الأعمال، وبالتالي ستعطي الحكومات مبالغ مالية شهرية لمن لا يعمل. آلية عمل هذه الخطة لم تتضح بعد، بل لا تزال في مرحلة التجربة، فيما تنفّذ اختبارات على عدد محدود من الناس في كل من الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية وبريطانيا. كذلك، من غير الواضح من أين ستأتي الأموال التي ستُدفع للناس، وبأي عملة سيتمّ ذلك.
بمجرّد مسح قزحية العين ينشئ الجهاز هوية عالمية للمستخدم


انطلاقاً من الضبابية المحيطة بكيفية تطبيق فكرة «نظام الدخل العالمي»، وبالتوازي مع الزخم الذي يحيط بها مع تنامي قدرات أنظمة الذكاء الاصطناعي منذ أواخر العام الماضي، استغلّ سام ألتمان هذه اللحظة للإعلان رسمياً عن إطلاق مشروع عملة العالم المشفرة Worldcoin.
مشكلة العملات المشفّرة الأساسية، بالنسبة إلى المشرّعين والساسة، تحديداً في أميركا وأوروبا، هي أنّ هوية مَنْ يملكها مجهولة. إذ يمكن لأي شخص شراء عملة بتكوين ووضعها في محفظة رقمية من دون معرفة هويته. لذا، صنع مشروع Worldcoin جهازاً يسمى ORB، سيُستخدم في مسح قزحية العين للتحقّق من هويات الأشخاص. أي إنّ هذه العملة لا تتصرف مثل بقية العملات المشفرة، وكل شخص يريد استخدامها يتوجب عليه أن يقوم بمسح شبكة عينيه كي يستطيع استلام أو إرسال العملات. وبدأت الشركة في تقديم بضع عملات Worldcoin مجاناً لكلّ شخص يسجّل مقلتيه على الجهاز. وتقول الشركة إنّها تبني شبكة عالمية من الهويات الرقمية التي ستدمج هوية الشخص وبصمة عينيه وما يملكه من عملات. وبمجرد مسح قزحية العين، ينشئ الجهاز هوية عالمية (World ID) للمستخدم، ليصبح جزءاً من الشبكة، وبالتالي قادراً على استخدام خدماتها.
وزّعت Worldcoin بالفعل عملات بقيمة ملايين الدولارات على أشخاص مسجّلين، وتقول إنّها تخطّط لتقديم مجموعة منوّعة من الخدمات التي تستخدم مسح قزحية العين للتحقق، مثل الخدمات المصرفية عبر الإنترنت، والتصويت، والسفر. كما تبشّرنا مستقبلاً أنه يمكن استخدام Worldcoin كشكل من أشكال «نظام الدخل العالمي». وتجدر الإشارة إلى أنّ مجتمع الكريبتو ينظر إلى المشروع بعين الريبة، تحديداً لجهة تسجيل بصمة العين.
علماً أنّه على الرغم من الأزمة التي عصفت بمجال صناعة العملات المشفرة التي سميت بـ «شتاء الكريبتو» منذ نهاية عام 2021، وانهيار عملات مشفرة مستقرة مثل تيرا لونا وسيلسيوز، وانعدام الثقة بمنصات تداول عملاقة وانهيارها مثل FTX، وما تلا من فضائح رئيسها التنفيذي سام بنكمن فريد، بالإضافة إلى كل العقبات التنظيمية الأميركية الأخيرة، استطاعت Worldcoin تأمين ما يقرب من 250 مليون دولار من أموال المستثمرين، بما في ذلك مجموعتا رأس المال الاستثماري Andreessen Horowitz وKhosla Ventures وغيرهما. ويحظى المشروع باهتمام كبير، فيما سيكون من المثير معرفة كيفية تطوّره في الأشهر المقبلة.