تبدو الأمور في سوريا كأنّها تندفع نحو الوضع الليبي، إذ لم يستطع النظام سوى اللجوء إلى الحل الأمني/ العسكري العنيف. ولقد توسّع الحراك الشعبي في الأسبوعين الأخيرين كثيراً، ليصل إلى معظم مناطق سوريا، مع تزايد في أعداد المشاركين وتصميمهم على الاستمرار إلى حين تحقيق الأهداف المطروحة.ولم يكن وقف العمل بقانون الطوارئ وإلغاء الأحكام العرفية سوى مطلب من جملة مطالب، أساسها إعادة بناء الدولة بما يسمح بتحقيق الحرية. وهنا لا فائدة من وقف العمل ذاك إذا ظلت الأجهزة الأمنية مسيطرة، كما كانت خلال العقود السابقة. وكانت الدعوة الى وقف العمل بقانون الطوارئ تهدف إلى ذلك، لأنّ «تغوّل» الأجهزة الأمنية وسيطرتها الشاملة على كلّ شيء، من السياسة إلى الاقتصاد، ارتبط بوجود حالة الطوارئ، وبالتالي ليس من إنهاء لها دون إعادة هيكلة هذه الأجهزة، بما يعطي الفسحة للنشاط السياسي، ويقود إلى كف نهب مقدرات البلد والتحكم بالاقتصاد. ولا ننسى أنّ مسألة السيطرة على أرض الفلاحين في درعا كانت في أساس الحراك الذي فجّر الوضع السوري كلّه، وتلك حالة منتشرة في كلّ المناطق. كما لا ننسى أنّ احتكار السيطرة على أراضي الدولة والمشاريع المفيدة وكل ما هو اقتصادي وتمركز الثروة، يتحقق من خلال «قوّة السلطة».
وبالتالي، فإنّ الانفجار الاجتماعي لم يحصل نتيجة أخطاء فقط، ولا يتوقف عبر حلّ شكلي. فهو تفجر لأنّ الأزمة قد وصلت إلى مفصل يفرض المعالجة الجذرية لكلية الوضع، من الاقتصاد إلى الدولة والقانون والدستور إلى السياسة. فمثلاً لم تفِ زيادة الأجور بنسبة 30% بوضع يفرض زيادتها ثلاثة أضعاف ما هي عليه الآن (وذلك حسب دراسات الدولة ذاتها). وانهيار الزراعة لا يفرض الإتيان بالوزير الذي انهارت في عهده لكي يصبح رئيساً للوزراء، بل يفرض تغيير كلّ السياسات التي أفضت إلى ذلك، وهي ليست القدر (الجفاف) فقط بل السياسة الاقتصادية التي رفعت أسعار المازوت والأسمدة، وهو الأمر الذي انعكس على الصناعة كذلك، إذ رفعت أسعار المواد الأولية، إضافة إلى المشتقات النفطية، ما جعل كلفة الإنتاج أعلى من أن تجعل السلع منافسة لما بات يستورد. والحل لا يقوم على إيكال الإصلاح للفئات التي أسهمت في الأزمة العميقة، ولا اعتبار الهيكل «الدستوري» الحاكم هو القادر على حلّ المشكلات لتجاوز الأزمة. فلا حزب البعث، الذي تحوّل إلى مجموعة مصالح، قادر على ذلك، ولا مجلس الشعب، ولا الحكومة المؤلّفة من الفئات ذاتها، فتلك هي البنى التي أوجدت الأزمة.
لذلك، لم يلحظ المنتفضون أنّ تغيّراً يحصل، وخصوصاً بعد كلّ عمليات القتل والتحريض التي جرت. عمليات رفعت سقف الشعارات إلى رفع الشعار العربي الأثير: الشعب يريد إسقاط النظام.
هنا تقوم السلطة بمعالجة تقليدية لوضع لم يعد تقليدياً ومتفجراً، وحين تُغيّر تلجأ إلى العنف والاعتقال، أي من خلال العودة إلى أسلوب نهاية سبعينيات القرن الماضي. لكن إلامَ يمكن أن يقود ذلك؟
من الواضح أولاً أنّ الحراك يتصاعد رغم العنف الذي مورس منذ البدء، وأنّ كلّ تصعيد في العنف يقود إلى تصاعد في الحراك، لا العكس. ومن ثم فإنّ الحل الأمني/ العسكري لن يفضي إلى حسم، وربما يفتح على تدخل خارجي كان ينتظر وضعاً يسمح بالتدخل منذ سنوات. فالولايات المتحدة التي أبدت عدم اهتمامها بما يجري في الشهر الأول، وربما صرّحت بما يُفهم منه أنّها ليست مبالية، لديها منذ سنوات «مخطط» لتغيير الوضع، ولقد حاولت ذلك سنوات 2006 و2007. وربما يكون الظرف الراهن بالنسبة إليها أكثر ملاءمةً لدور تدخلي يفضي إلى «التغيير»، لكن أيضاً سحب رجالات السلطة إلى محاكم دولية، تعيد فيها اتهامات اغتيال الحريري وتكمل بما يجري الآن.
اليوم هو ليس سنة 1980، لا داخلياً ولا عالمياً. فقد تحوّل الوضع الشعبي داخلياً بما يجعل كتلة مهمة من الشعب في تناقض مع السلطة، رغم عدم مشاركة جزء كبير بعد في الحراك الجاري. فتهميش كتلة كبيرة اقتصادياً يقود حتماً الى تحوّلها إلى المعارضة، واندفاع قطاعات كبيرة منها إلى ميدان الصراع. هذا هو أصلاً أساس الصراع الراهن وليس كلّ «الأفلام» التي يرددها الإعلام الحكومي. وبالتالي، فلم تعد المسألة هي مسألة «عصابات إرهابية»، بل باتت مسألة شعب لم يعد قادراً على التكيّف مع الوضع الذي بات فيه. وهذا ينعكس على كلّ بنية المجتمع والدولة، التي ستبدو هشة أكثر مما يمكن تصوّره.
وعالمياً، إذا كانت السلطة تقول إنّها في «الممانعة»، فإنّ السيناريو الأميركي لا بد من أن ينطلق من كسر ذلك. وإذا لم يستطع سابقاً، فإنّ الميل إلى العنف الفائق سوف يفتح الأفق لتداعٍ دولي للتدخل كما حصل في ليبيا. والفارق بين البلدين هو أنّ الولايات المتحدة لم تكن تريد تغيير القذافي، فعملت على تأخير التدخل الدولي، ثم تدخلت وانسحبت، ثم تدخلت من جديد تحت الضغط الأوروبي، وربما باتت معنية الآن بتغيير النظام. لكن في سوريا، هي منذ البدء مع «التغيير»، ولسوف تستغل أول لحظة لكي تتدخل. وهنا تكون السلطة هي السبب في ما يمكن أن يجري، لأنّها بدل تقديم حلول حقيقية، لجأت إلى العنف الفاضح. رغم أنّ موقفي هو في كلّ الأحوال ضد أي تدخل، ما أقوله هو أنّ سياق التصعيد السلطوي يقود إلى إعطاء كلّ المبررات للتدخل الإمبريالي.
وبالتالي، ستبدو السلطة إزاء خيارين. الأول هو الاستمرار في الحل العنفي، وجرّ البلد إلى مجازر تقود إلى التدخل، وشطب السلطة، مع تأثير مباشر في الوضع الداخلي. الخيار الثاني تقديم حلّ حقيقي للمشكلات، ينطلق من إعادة صياغة الاقتصاد والدولة. فالدولة الأمنية لا بد من أن تنتهي لمصلحة دولة مدنية، واحتكار حزب للسياسة والمجتمع لا بد من أن ينتهي لمصلحة التعددية، والنظام الديموقراطي الذي يقرر الحريات العامة، دون قانون عائق أو مرجعية غير الدستور، ومن ثم صياغة دستور جديد من نخبة مجتمعية، يجري التوافق عليها. كما المطلوب أيضاً، فكّ السيطرة على النقابات والاتحادات، وإقرار الحق في الإضراب والتظاهر دون قيود.
وفي الاقتصاد، لا بدّ من فئات أخرى غير التي نهبت وأثرت، تكون معنية بإعادة بناء الاقتصاد الحقيقي (الصناعي والزراعي)، وضبط الاستيراد لمصلحة الإنتاج، وضمان أجور تسمح بعيش كريم، وإعادة بناء التعليم لكي يسهم في بناء كادرات حقيقية، وأن يكون مجانياً. كما يجب إعادة بناء الوضع الصحي والضمان الصحي، وإنهاء تهميش كلّ تلك الكتلة الكبيرة من السوريين، وهو الأمر الذي يقتضي فتح ملف الفساد حقيقة، بدءاً من رأس الهرم، وإعادة ما نهب، وإحقاق حق المتضررين، سواء الأفراد أو الدولة. فقد نهبت الأرض ونهب القطاع العام، ووصلت الأموال المنهوبة إلى مئات مليارات الدولارات، إذا لم يكن أكثر، وهو الأمر الذي فرض تهميش الكتلة الأكبر من الشعب. ولا شك في أنّ هذا الوضع أساس كلّ الانفجار الذي حدث والاستقرار مبني على إيجاد حلّ لذلك. فالبطالة والفقر هما نتاج التحكم بالبنية الاقتصادية وتحويلها إلى بنية ريعية، وبالتالي، فإنّ المطلوب دولة مدنية قائمة على اقتصاد منتج.

* كاتب عربي