«هناك شيء جديد في السياسة الأميركية حيال منطقتنا»، يقول سياسي أردني عائد للتو من رحلة «عصف ذهني» في واشنطن. لكن، في جديدها ذاك، اضطراب، ولا سيما في القضية السورية. هنا بالذات مَن يقدر على إعطائنا جواباً شافياً حول التصور الأميركي لحل هذه القضية؟
لا أحد... لأن ذلك التصوّر غير متبلور أصلاً؛ فالولايات المتحدة توصلت إلى اقتناع بمخاطر تفكيك النظام والجيش السوريين، (لا تريد عراقاً آخر في سوريا) ولكنها لا تزال تريد تنحّي الرئيس بشار الأسد. وهاتان رغبتان متناقضتان، ولا يمكن تنفيذهما، في الواقع، معاً. وعلى خلفية هذه التناقض بالذات، هناك أرضية مشتركة بين واشنطن والروس، وبينها وبين «المعارضين» المطالبين بأولوية تنحية الرئيس الأسد. موسكو تعرف ما تريد؛ فالأسد هو ضمانة وحدة البلد والنظام والجيش والسياسات والتسوية القائمة على التغيير في ظل الاستمرارية وإدماج المعارضة في عملية سياسية وطنية. وهذا هو، بالضبط، ما يجعل أطراف «ائتلاف الدوحة»، وداعميهم الأتراك والخليجيين، مصرّين على أولوية التنحّي كمقدمة لتسوية ذات مضمون تفكيكي، تسمح لمعارضة الخارج بالاستيلاء على السلطة، سواء في كل سوريا أو في بعضها.
هنا، تتوحد المعارضة الخارجية مع «جبهة النصرة» الإرهابية والمجموعات المسلحة المفتتة المسمّاة «الجيش الحر»، حول هدف مؤقت هو إسقاط الرئاسة السورية (وبالتالي إسقاط النظام وتفكيك الجيش) باعتباره المدخل الضروري لاقتسام الكعكة: تسعى «النصرة» للإفادة من الغطاء المحلي والإقليمي والدولي لإقامة سورياستان جهادية، بينما يظن «الائتلاف» و«الجيش الحر» أنهما يستطيعان الإفادة من «النصرة» لتحقيق ذلك الهدف، ومن ثم ضربها أو تهجيرها لاحقاً، وتستند مطالبتهما للغرب بالتسليح إلى خطة مزدوجة لإسقاط النظام وإزاحة «النصرة» معاً. وتبدو خطة كهذه مغرية للأميركيين، إلا أن المعطيات الميدانية تجعلهم حذرين ومترددين؛ فيغضّون البصر عن التسليح الإقليمي للتمرد بكل اتجاهاته ويتشددون في منح أو الترخيص بتزويد المجموعات المسلحة بمعدات نوعية كالصواريخ المضادة للطائرات التي سوف تمنع الطائرات السورية من دكّ مقاتلي «النصرة» المطلوب إقصاؤهم، وهكذا في دائرة مغلقة من الضياع بين التنسيق مع الروس، بل والإقرار بالمرجعية الروسية للملف السوري، وبين تقديم الدعم المعنوي والمالي لـ«الجيش الحر»، أي، رئيسياً، للإخوان المسلمين، المتحالفين، ميدانياً، مع «النصرة».
داخل المعارضة الخارجية، هناك وحدة هشّة مؤقتة؛ فالإخوان المسلمون يديرون اللعبة بحيث تنتهي إلى تمكينهم، وسط أطراف صغيرة لا وجود لها في الميدان، ولكنها تظن، بالنظر إلى «علمانيتها»، أن الغرب سيدعمها لتحكم بدلاً من الإسلاميين. والجديد الأميركي، هنا، هو التعاطي مع فكرة روسية للتعامل مع مجموعات المعارضة الداخلية، وفي مقدمها «هيئة التنسيق» وحلفاؤها، وتيار بناء الدولة إلخ، إضافة إلى شخصيات مستقلة منشقة مثل رياض حجاب ومناف طلاس وتعبيرات سنيّة معتدلة أخرى، في مسعى لإقامة وفد تفاوضي موحد للمعارضة السورية، سوى أن هذا المسعى لم يتخذ، بعد، وجهة سياسية واضحة وواقعية، إذ يلزمه، ابتداءً، حسم مسألة أولوية تنحّي الرئيس لدى الأميركيين أنفسهم. هذه الأولوية غير الواقعية، هي التي تسبّب، حتى اليوم، عرقلة السير نحو التسوية، وتسمح بالفوضى السياسية في مجمل الحراك الدبلوماسي حول القضية السورية. في مثال ممتاز على الاضطراب الأميركي إزاء الشأن السوري، ما رشح من معلومات حول تدريب نحو 500 جندي سوري منشق على برنامج عمليات نوعية، خصوصاً تأمين المنشآت التي تضم أسلحة كيميائية، في معسكر في الأردن، في صيف 2012، لكن البرنامج سرعان ما أوقف فجأة، ولم يتم إرسال أي من أولئك الجنود إلى سوريا. حدثٌ ربما كان أحد دوافع حسم السياسة الأردنية باتجاه الانتقال إلى الحياد الإيجابي نحو الأزمة السورية، وتعزيز التفاهمات مع روسيا بشأن حلها في تسوية سياسية واقعية، تسعى عمان، اليوم، إلى لعب دور لم تتضح خطوطه بعد، فيها. وهو ما تطلب إعادة قنوات الاتصال الأمنية والسياسية مع السوريين. ويظل السؤال عن السر وراء تسريب المعلومات المضطربة عن ذلك البرنامج التدريبي الملغى، بعد ستة أشهر من إلغائه، إلى «التايمز» و«الفيغارو»؟ يرجّح مصدر أردني أن السر يكمن في رغبة قوى إقليمية في إحراج عمّان، والتشويش على مساعيها الحالية لدعم الرؤية الروسية للتسوية في سوريا، وتسريعها بما يجنّب الأردن خطرين محدقين: التزايد الكبير في عدد اللاجئين السوريين القادمين إلى البلاد، والتسلل الإرهابي.
واشنطن مضطربة، أيضاً، نحو إسرائيل، ولديها أمل ضعيف إزاء المفاوضات الفلسطينية ـــ الإسرائيلية، وحائرة إزاء السعودية، لكن لديها شيء من الوضوح نحو إيران وتركيا والعراق ولبنان والأردن. وهو ما سنترك الحديث عنه إلى الأربعاء المقبل.