تفتقت عبقرية مجلس الانماء والاعمار وبلدية الجية والشركة المتعهدة فاختاروا انشاء حفرة لتخزين وضخ مياه المجارير في موقع اثري فريد في مدينة الجية الساحلية.
وكشفت التنقيبات التي اجرتها بعثة مشتركة لبنانية ــ بولونية عن خليط رائع من الاثار الهلنستية والرومانية والبيزنطية، حيث تقع مدينة بورفيريون PORPHYREON التي عرفت بين القرنين الرابع والسابع للميلاد أكبر اتساع لها كمحطة على الطريق الساحلي بين عكا وإنطاكيا، وشيّدت فيها بيوت تضم غرفاً عدة ورصفت أرضيتها بالفسيفساء، وتظهر فيها الشوارع الضيقة المجهزة بالمجارير والأقنية لتصريف المياه الى البحر.
لكن «الابداع» الهندسي اللبناني في القرن الواحد والعشرين تفوّق على المهندسين الرومان، فاختيرت الجهة الجنوبية الغربية للموقع الاثري لاقامة محطة ضخ للصرف الصحي في العقار ٢١٤٦ المستملك من وزارة الثقافة.
اللافت ان الحفرة التي حُفرت في العقار المذكور من قبل بلدية الجية لم تخضع للموافقة المسبقة للمديرية العامة للاثار. ردة فعل وزير الثقافة غابي ليون كانت زيارة البلدة حيث عاين الاعمال التي تجري هناك، وبعد شهر على الزيارة اصدر ليون بتاريخ ١٨ تموز الماضي قراراً وافق فيه على طلب البلدية اقامة مضخة للصرف الصحي على العقار الذي تملكه الوزارة، مشترطاً ان لا تتعدى مقاسات الحفرة ١٢م X ٨ م، وأن لا تجري اعمال حفر اضافية إلا باشراف المديرية العامة للاثار. وطلب ليون «في حال اكتشاف اي معالم أثرية خلال الحفر الاضافي، أن تتوقف اعمال الحفر تحت طائلة إلغاء الموافقة على اقامة مضخة الصرف الصحي».
«الانجاز الاضافي» الذي انتزعه ليون من بلدية الجية هو استعدادها تسييج كامل العقار المذكور بالسرعة الممكنة. علماً ان الاهمال اللاحق بالموقع الاثري واضح للعيان، حيث تتكدس الاتربة وترتفع الحشائش. وتعرض الموقع لاعمال نهب متكررة منذ ان أجريت فيه أول حفرية للمديرية العامة للاثار في العام ١٩٧٥، كما ان محيط العقار تحول الى منطقة زراعية شوهت الحيز العام، اضافة الى انشاء منتجع سياحي ضخم على جزء من الموقع الاثري، وهو واحد من الشواهد الضخمة على التعديات على الاملاك العامة البحرية على طول الشاطئ اللبناني.
يدافع رئيس بلدية الجية جورج قزي عن المشروع كونه سيلغي الحرمان اللاحق بما لا يقل عن ثلث سكان البلدة، من شبكة الصرف الصحي نتيجة وقوع منازلهم تحت الطريق العام. ويشدد قزي على ان انشاء مضخة على الموقع الاثري «سيلغي تفلت الصرف الصحي المتفشي على عدة مسارب مكشوفة وموزعة على امتداد البلدة وتصب جميعها على الشاطئ وتلوث مياهه، الامر الذي يتعارض مع تحولات البلدة التي اصبحت تعتمد بشكل كبير على السياحة البحرية كمورد هام يساعد على انمائها، وقد أضحت مقصداً لوافدين كثر يأتونها من مناطق عدة في لبنان».
الناشط السياسي ناصيف قزي أكد لـ«الأخبار» ان مشروع شبكة الصرف الصحي مهم للجية لكن البلدية لم تكلف نفسها عناء البحث عن موقع بعيد عن الآثارات لإنشاء مضخة للمجارير. وسأل قزي عن الاسباب التي منعت البلدية طلب الاذن من وزارة الاشغال العامة اقامة المضخة على العقار الذي تملكه مصلحة سكك الحديد، بدل تشويه موقع أثري والقضاء على امكانية ادراجه ضمن المعالم السياحية للبنان.
ولفت قزي الى أن شبكة المجارير القريبة من الشاطئ مهددة بفعل العواصف البحرية التي من الممكن ان تعيد المجارير الى الطرقات في اي لحظة. طارحاً علامات استفهام عن مصير الموزاييك الذي نقل من الجية الى صيدا بدافع الترميم، ولم يُعد الى اليوم.
وفي معلومات لـ «الأخبار» فإن مقاسات الحفرة التي اجازتها وزارة الثقافة ليست كافية لاقامة مضخة للصرف الصحي، وذلك بحسب كتاب من شركة رفيق الخوري وشركاه للهندسة موجه الى الوزير ليون.
وتفيد الشركة بانه بعد معاينة الموقع المقترح لمحطة ضخ الصرف الصحي PS4، بحضور مريام زيادة عن وزارة الثقافة وممثل الاستشاري والشركة المتعهدة، تبينت الحاجة الضرورية لزيادة مساحة موقع المحطة بعرض ٤ امتار شمالاً، والتراجع عن حدود العقار المجاور وعن حدود املاك سكة الحديد مسافة ٣ امتار. وخلصت الشركة الى طلب توسيع مساحة مضخة الصرف الصحي ٤م X ١٢م عن المساحة الاساسية التي وافقت عليها وزارة الثقافة، والسماح باجراء حفرة استقصائية على المساحة المطلوبة للتأكد من عدم وجود آثارات فيها. ويستنتج من هذا الكتاب، الذي لم يعرف ما اذا كانت وزارة الثقافة سوف توافق على مضمونه، ان المساحة التي ستتربع فيها مضخة الصرف الصحي على واحد من اهم المواقع الاثرية في لبنان، سوف تشكل المعلم الابرز فيه، متفوقه على المكتشفات الاثرية، في تخريب وتشويه غير مسبوق للموقع.
ويمتد موقع الجية الاثري على ما يعرف برأس النبي يونس على مساحة تصل الى ٢ كلم من الشاطئ اللبناني. وفي الجهة الشمالية من موقع «بورفيريون» تمتد مدينة مدفنية فيها مقابر محفورة في الصخور الرملية، كما يوجد فيها مغاور مدفنية تعود الى فترات تاريخية مختلفة منها مقابر يونانية مغطاة بالكلس على شكل النواويس، وآبار مدفنية ذات طبقتين، وأغطية نواويس حجرية تعرّضت للنهب والتدمير.
وضع Ernest Renan موقع الجية الاثري على خارطة المواقع الاثرية في العام ١٨٦٤، حيث يشرح عن وجود معبد بيزنطي مغطى بالموزاييك يعود الى عام ٥٥٤ بعد الميلاد، وكشفت اعمال الحفر التي قام بها Georges Contenau في العام ١٩١٤ عن اكتشاف بازيليك وبقايا أبنية سكنية ومدافن. وفي العام ١٩٧٥ اجرى روجيه صيدح من مديرية الاثار حفرية سريعة ادت الى تحديد معالم المنطقة السكنية التي تعود الى الحقبة الرومانية المتأخرة. وخلال فترة الحرب الاهلية نقل النائب وليد جنبلاط الموزاييك المكتشف في الجية الى متحف بيت الدين بعد ان اجريت له اعمال ترميم واسعة. ورغم تعاقب عدد من المجالس البلدية لم تنجح المساعي الى انشاء متحف للاثار في الجية، وتأهيل الموقع الاثري ليصبح متاحاً للزوار. كما ان المديرية العامة للاثار لم تكلف نفسها عناء حماية الموقع وتسييجه، الامر الذي عرضه للمزيد من العبث والتخريب طمعاً بالعثور على الذهب أو المقتنيات الاثرية الباهظة الثمن.
وتجري بعثة لبنانية ــ بولونية مشتركة اعمال تنقيب في الموقع منذ العام ١٩٩٦ ، وفي العام ٢٠٠٢ تعرض الموقع لعملية هدم من الجهة الشمالية، حيث أدت اعمال بناء منتجع سياحي الى القضاء على مساحة واسعة منه، الامر الذي دفع البعثة البولونية الى اجراء حفريات انقاذية في الاعوام ٢٠٠٣- ٢٠٠٥ لتوثيق المكتشفات الاثرية قبل هدمها.