بجمعه للحوارات التي أُجريت معه في كتاب بعنوان «مسار» (توبقال للنشر/ الدار البيضاء)، يُضيف عبد الفتاح كيليطو (1945) «كتاباً» آخر إلى مؤلفاته التي اشتغل فيها على القراءة والتأويل واللعب بالمآلات المنطقية والنهائية للنقد الأدبي والثقافي. الكاتب والناقد المغربي الذي ينفي دوماً عن نفسه صفة الناقد والأكاديمي، يعتبر أن سيرته كمؤلف هي سيرة قراءاته، وأن القراءة هي متعة فردية متغيرة باستمرار، وأنها مليئة بمقترحات يمكنها أن تشكك بقراءات سابقة أو راهنة لأي «حقيقة أدبية».
وفي هذا السياق، يبدو كتاب الحوارات بمثابة باحة خلفية لما كتبه كيليطو منذ باكورته «الأدب والغرابة» (1982) حتى كتابه «أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية» (2013)، فمحاوروه يستقصون ما أثارته هذه الكتب من أسئلة وتأملات تعيد الاعتبار للقراءة كممارسة «تدويرية» لا نهاية لها بحسب النزعة البورخيسية التي لا ينفي كيليطو انتماءه إليها. تأثيرات بورخيس موجودة إلى جانب أسماء مثل تودوروف وستاروبنسكي ورولان بارت، ولكن هؤلاء وغيرهم ينضمون إلى قائمة أطول تشمل الجاحظ والمعري وابن المقفع والجرجاني وألف ليلة وليلة والمقامات ولسان العرب. ومن الطرفين، ينشأ ذلك المزيج الحكائي والنقدي الذي برع صاحب «خصومة الصور» في تحويله إلى مادة سردية جذابة ومدهشة يصبح فيها النقد رطباً وطرياً مثل الأدب، ويصبح الأدب متعة ومؤانسة مثل الحكايات.
ذهب كيليطو إلى التراث والنصوص الكلاسيكية العربية بذهنية القارئ المعاصر المزدوج اللغة. كتب بالعربية والفرنسية، ودرّس بهما، ولكنه امتلك طوال الوقت موهبة السخرية والريبة والنظر إلى ما وراء النصوص وما يوجد في طياتها من تأويلات غير مكتشفة. جزء من هذه الموهبة متوافر كإشارات رمزية في عناوين كتبه: «الأدب والارتياب»، «الحكاية والتأويل»، «الكتابة والتناسخ»، حيث مفاهيم مثل الارتياب والتأويل والتناسخ تستبعد الواحدية في القراءة، بل إن كيليطو ذهب أبعد من ذلك بإبعاد المؤلفين عن صورتهم الدارجة كي يتسنى له الكتابة عن أعمالهم.
ويتساءل: «إن لم يكن إبعاد الكاتب عن نفسه يعني إعادته إليها!». وهو ما يطبّقه على نفسه في الحوارات التي يضمها كتابه الجديد، إذْ نراه يحاول تجديد إجاباته، ومقاربة ما يُسأل عنه بأسئلة أخرى، مشككاً في كون كتبه أكاديمية، وفي كونه قارئاً وأديباً يضطر إلى الاشتغال كناقد وأكاديمي حين يُطلب منه المشاركة في محاضرات وندوات. لعل هذا هو ما سمّاه عبد الكبير الخطيبي بالكتابة المصحوبة بـ«نوع من المكر النادر في النقد الأدبي» في تقديمه لباكورة كيليطو «الأدب والغرابة».
الحوارات التي جمعها كيليطو تصلح لأن تكون «مديحاً» للقراءة، و«تحية» لـ«مسار»(ه) ككاتب وناقد، ولكنه يصرّ على وضع صفته كـ«قارئ» قبل تلك الصفتين، وحتى كقارئ يفاجئنا بأنه لم يكن مطلوباً منه أن يقرأ كل ما كتبه كاتبٌ ما لكي ينجح في الكتابة عنه، ويقرّ بأنه فعل ذلك مع المعري والجاحظ، وبأنه لم يقرأ «ألف ليلة وليلة» كاملة حتى الآن. أما القارئ، فسيظل يسأل إن كان كيليطو يقول الحقيقة أم أنه مجرد قارئ ماكر ومدهش!؟