منذ عشرين عاماً، أودع طارق الملاح في دار الأيتام الإسلامية. كان عمره تسع سنوات عندما تعرّض للاغتصاب من قبل ثلاثة «شبّان» (هم أطفال أيضاً في الدار تتراوح أعمارهم بين 14 و15 عاماً). بقي الملاح يتعرّض للاغتصاب حتى الـ14 من عمره، حينها قرر «الهرب». طوال خمس سنوات لم يتجرّأ الطفل/الشاب على الشكوى أو الإفصاح.
«البيئة التي سمحت بتعرّضي للاغتصاب لن تسمح لي بالتجرؤ على الشكوى»، يقول الملاح الذي «يعزّ عليه» أن الدار لم تسأل عنه عندما فرّ. «ولا كأنو في ولد اختفى من عندن». كثيرة هي «الخبريات» التي يقولها الملاح عن طبيعة الحياة في الدار وعن «استمرار الانتهاكات التي لا تزال تحصل حتى اليوم». إلا أن المؤلم بالنسبة إلى طارق هو صعوبة المواجهة التي خاضها بوجه الدار «المحمية» من الوزارة (السلطة المؤتمنة) قبل كل جهة أخرى.
«كانوا يقولولي ملفك عند دار الفتوى روح خدو من هنيك»، هذا ما كان يُقال للملاح في كل مرة كان يريد متابعة شكواه. ويضيف الملاح: «وزير الشؤون الاجتماعية رفض استقبالي، والمجلس الاعلى للطفولة عرض عليّ مبلغاً من المال لقاء سكوتي، إلا أن هناك المئات من الاطفال ما زالوا يتعرضون لما تعرضت له ولا أحد يجرؤ على رفع الصوت». من هنا كانت المبادرة التي أطلقتها «المفكرة القانونية» بالتعاون مع جمعية «بدائل» لرفع الصوت ولـ»تحقيق تحرك اجتماعي داعم لجميع الأشخاص المودعين بمؤسسات رعاية بديلة». المبادرة تنطلق من السعي الى مواجهة «النظام الرعائي المؤسساتي الذي يسمح ويتيح هذا النوع من الانتهاكات وغيرها». هذا النظام ليس إلا انعكاساً للنظام الطائفي القائم على المحاصصة وغيرها، بحيث كل زعيم طائفي «يربي» رعاياه. وليس غياب أي قانون مدني يرعى هذه المسألة وينظمها إلا دليلاً على «السلخ» المتعمد للجذور، بحيث يصبح ولاء هؤلاء لدور رعاية الطائفة التي ينتمون اليها.

المسألة تتصل بممارسات النظام القائمة على المحاصصة

تقول مديرة جمعية بدائل، زينة علّوش، إن المؤسسات الرعائية، وعلى اختلاف نظم الرعاية المعتمدة فيها، «تعتمد نظام رعاية مؤسساتياً، هو الأخطر من ناحية النوعية والحماية، وفق المعايير الدولية للرعاية البديلة الصادرة عن الامم المتحدة عام 2009».
وبحسب تقرير «هيئة الامم المتحدة» الصادر عام 2006 المتعلّق بأوضاع الأطفال، فإن هناك حوالى 28 ألف طفل مودعين في مؤسسات رعائية. «نتكلم عن أكثر من 2% من أطفال لبنان متروكين لمؤسسات ترسم مصير حياتهم بأموال مدفوعة من قبل الدولة متمثلة في وزارة الشؤون الاجتماعية، ومتروكين من جهة أخرى لسماسرة بيع الأطفال»، تعلّق علّوش، لافتة الى الإهمال الحاصل المتعلّق بالتبنّي غير الشرعي الممارس في لبنان، والى «غياب الإحصاءات أو الأرقام التقريبية لحالات التبنّي غير الشرعي».
المفارقة أن «الأموال المدفوعة» التي تشير إليها علوش والتي تنفقها وزارة الشؤون الاجتماعية على مؤسسات الرعاية تصل الى 70% من موازنة الوزارة، وهو أمر من المفترض أن ينعكس إيجاباً على أداء هذه المؤسسات على مستوى الرقابة والتعليم وتأمين الإطار الصحي والنفسي والاجتماعي المناسب للأطفال المودعين، وهو أمر تدحضه المعطيات والتقارير الميدانية. بل على العكس، تشير «بدائل» الى تقارير موثقة لانتهاكات عديدة يتعرّض لها الأطفال «إضافة الى الانتهاكات الجنسية الفاضحة»، فضلاً عن غياب الأداء الرقابي وانعدام الشروط الصحية النفسية.
يقول المدير التنفيذي لـ»المفكرة القانونية»، المحامي نزار صاغية، إنه في أي دولة، تحظى الأسئلة المتعلّقة بالضوابط الإدارية والقانونية والقضائية الواجب توافرها لضمان سلامة هؤلاء الأطفال بحيّز واسع من الاهتمام، «ولكن على نقيض ذلك، فإن مواقف السلطتين التنفيذية والتشريعية تبقى ملتزمة الصمت». ويشير صاغية الى أدبيات الغرف المغلقة التي تتناول المسألة «على أنها تتصل بممارسات النظام القائمة على المحاصصة، وأن أي محاولة لتغييرها يضرّ بمصالح أصحابها». ويضيف صاغية «وعليه، ينسى وزير الشؤون الاجتماعية أن المسألة هي مسألة حقوق أطفال بالرعاية، ففي ظل هذا النظام، هي أولاً وأخيراً مسألة سياسية تتوزع على أساسها الحصص، وأي إعادة نظر فيها هي بمثابة التفاف حول شروط النظام الذي ارتضاه الوزير».
«لهلق عندي ثقة بالقضاء»، يقول الملاح فرحاً، لافتاً الى أن فرصة «احتضانه من بدائل والمفكرة لا يحظى بها آلاف الأطفال غيره». برأيه، الحل يكمن في إعادة طرح هذه المسألة كقضية رأي عام. من هنا كان إعلان المفكرة القانونية إطلاق ورشة لصياغة قانون حول الرعاية البديلة ابتداءً من 15/5/2015 فضلاً عن إعلانها دعم أي مبادرة لإعلاء الصوت مناصرة لحقوق جميع الأطفال والأشخاص الذين تعرضوا للفصل عن بيئتهم العائلية.