انتقد العديد من السياسيين والمعلقين الاسرائيليين الأداء السياسي والأمني لرئيس حكومة العدو بينيامين نتنياهو في مواجهة الهبة الشعبية الفلسطينية. تركزت معظم الانتقادات على كون نتنياهو لم يقدم اي استراتيجية او مبادرة سياسية تؤدي الى احتواء التطور الامني.
وبدت خطوات نتنياهو ومواقفه في مؤتمره الصحافي قبل ايام، كما لو أنها مجرد خطط وقرارات عسكرية خالية من أي رؤية تتصل بمستقبل الوضع السياسي المتصل بالساحة الفلسطينية. وخلصت المقاربات الى تقديم نتنياهو كما لو انه فَشِل في رهاناته واستراتيجيته. ووصلت الانتقادات الى حد مطالبته بإستخلاص العبر وتسليم المفاتيح، كما عبر عن ذلك رئيس المعارضة الاسرائيلية يتسحاق هرتسوغ.
مع ذلك، للقضية وجه اخر مغاير كليا للخلاصات التي تناولها معارضو نتنياهو في الساحة الاسرائيلية، وخارجها. بداية ينبغي التنويه لحقيقة أن مساحة الاجماع بين مختلف التيارات والاحزاب السياسية في اسرائيل واسعة لدرجة اختفت معها الفروق بين هذه القوى في ما يتعلق بمختلف القضايا الاساسية العالقة مع السلطة الفلسطينية.
ونتيجة ذلك، لم يعد مفاجئا أن نشهد قياديا يتنقل بين الليكود وكديما والعمل، كما لا تلمس تغييرا جوهريا في مواقفه ازاء عملية التسوية على المسار الفلسطيني. واذا ما وجدت فروقاً بين بعض هذه الأحزاب، فهي اقرب الى الكمية منها الى النوعية، كأن يطالب هذا الطرف بضم مساحة محدَّدة من الضفة الى اسرائيل، فيما يطالب غيره بنسبة أقل أو أكثر. مع ذلك، فإن تسميات معسكر اليمين والوسط واليسار ما زالت سائدة في الساحة الاسرائيلية على الاقل لتعريف المقصود من هذا العنوان أو ذاك. وتُستثنى من هذا التعميم هوامش موجودة على جانبي اليمين واليسار، لكن ليس لها امتدادات جماهيرية واسعة.
قد يصح وصف تكريس الوضع القائم في الضفة الغربية، وبشكل تأكد مع الهبة الشعبية الفلسطينية، بأنه نوع من الفشل الاسرائيلي، لكن ذلك بالقياس الى رؤى وتقديرات ترى أن استمرار احتلال الضفة يعرض اسرائيل لمخاطر ديموغرافية وسياسية وحتى أمنية لاحقا. اما بالنسبة لمعسكر اليمين الاسرائيلي وعلى رأسه نتنياهو، فإن تكريس الوضع القائم هو هدف استراتيجي بامتياز. ويعتمد من اجل تحقيقه استراتيجية سياسية تقوم على منع التوصل الى اتفاق نهائي مع السلطة، بما يؤدي الى اقامة دولة فلسطينية ولو بحدودها الدنيا، تفرض على اسرائيل انسحابا فعلياً من اجزاء واسعة من اراضي الضفة الغربية.
ولا يخفى أن منشأ هذا الموقف اليميني يستند الى اسباب ايديولوجية واستراتيجية وسياسية. وضمن هذا الاطار تأتي سياسة التوسع الاستيطاني والعمل على فرض وقائع تتصل بالقدس وغيرها. وتتفرع عن هذا الخيار خطة تحويل ما كان يفترض أنه اتفاق مؤقت، اتفاق اوسلو، الى وضع دائم حتى لو تطلب الامر بعض التنقيحات والتعديلات لا يجد الإسرائيلي نفسه مضطرا حتى الان الى القيام بها .
وعلى ذلك، فإن ما تعتبره قيادات سياسية وشخصيات اعلامية، في الداخل الاسرائيلي وخارجه فشلا، هو من منظور اليمين الاسرائيلي نجاحا، على الاقل حتى الان. وللتذكير، مضى على اتفاق اوسلو المؤقت الذي كان يفترض أن يكون لمدة خمس سنوات فقط، نحو 22 سنة، على أن تعقبه مفاوضات حول قضايا الوضع النهائي، تؤدي الى اقامة دولة فلسطينية.
في هذا السياق، راهنت السلطة وجربت، على الاقل منذ خمس سنوات وبعد وقف المفاوضات الرسمية عام 2010، كل خياراتها البديلة، وكان من اهمها الذهاب للامم المتحدة والاعتراف بفلسطين دولة غير عضو تحت الاحتلال والذهاب الى محكمة الجنايات الدولية، اضافة الى حراك دبلوماسي يسعى الى كشف الممارسات الصهيونية في الضفة والقدس، لكن كانت النتيجة ان الاسرائيلي ازداد تصلباً وامعن في سياسة التوسع الاستيطاني وسياسة فرض الوقائع في القدس والحرم القدسي. وبات انغلاق افق التسوية أكثر إحكاما من اي وقت مضى، ومنشأ فشل هذه الخيارات خذلان ما يسمى المجتمع الدولي الذي راهنت عليه السلطة، الذي لم تتجاوز اعتراضاته على السياسة الاسرائيلية الاطار النظري، وبعض الخطوات المدروسة التي لا تؤدي الى اجبار القيادة الاسرائيلية على التراجع عن سياسة الاذلال والاضعاف لشريكها الفلسطيني الذي بدونه لا وجود لعملية التسوية.
في هذا السياق، اتت الهبة الشعبية الفلسطينية التي ابدعت وسائل نضالية جديدة – قديمة، لكن بزخم أكبر. إلا أن الذي حصل حتى الان لم يبلغ المرحلة التي يمكن أن تؤدي الى كسر القرار السياسي الاسرائيلي واجباره على التراجع، حتى لو كان التوظيف في سياق سياسي تسووي محدَّد. وعلى مستوى المفاعيل ما زال ضغط الشارع الفلسطيني ضمن السقف الذي يرى فيه نتنياهو، ومعسكره، أنه يأتي في سياق «التضحيات» التي يتطلبها نجاح المشروع الصهيوني المتصل بالضفة التي لم تنجح اسرائيل في الحاقها ضمن اطار اراضيها لدى قيامها عام 1948. وتتعامل القيادة الاسرائيلية الحالية، مع الظروف الاقليمية والدولية على أنها فرصة تاريخية ينبغي استثمارها في الطريق الى تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي وعلى قاعدة ضم أكبر مساحة من الارض مع أقل عدد من الفلسطينيين .
في ضوء ما تقدم، فإن الرهان الحقيقي هو على ابداعات الجمهور الفلسطيني الذي ما زالت الطريق أمامه طويلة. ومهما كانت الخيارات السياسية والاستراتيجية التي يتبناها هذا الفصيل أو ذاك، وهذه المجموعة أو تلك، فإن استمرار وتصاعد الهبة الشعبية وتطورها هي الممر الالزامي لكافة الشعارات التي تضج بها الساحة الفلسطينية.