ليست المرة الأولى التي يتم فيها توقيف خلية يُشتبه في أن أعضاءها يعملون لحساب الاستخبارات الإسرائيلية في لبنان. سقطت خلايا كثيرة منذ عام 2006. لكنها المرة الأولى في غضون تسع سنوات، التي يصطدم فيها التوقيف بجدار حصانة قانونية منحتها الدولة اللبنانية، منذ عام 1996، لموظفي قوات الطوارئ الدولية (يونيفيل). الخلية مؤلفة من 3 أشخاص: اللبناني هاني م، السوري رامز س وزوجته اللبنانية س. ش. الرأس هاني م، لبناني موظف في اليونيفيل، وتحديداً في مقرها العام في الناقورة، منذ عام 1984.
بدأت العملية التي نفذها الأمن العام قبل أشهر، عندما جرى الاشتباه في رامز الذي يعرّف عن نفسه بأنه «المسؤول التنظيمي في لبنان لحزب اليسار الديموقراطي السوري» المعارض. أخضِع للمراقبة، تقنياً وبشرياً، قبل أن يقبض عليه يوم 27 تشرين الأول الماضي. وخلال التحقيق معه، أقرّ بالتعامل مع استخبارات العدو الإسرائيلي، وبأن زوجته (اللبنانية) س. ش. متورطة معه. أوقف الأمن العام س. ش. بعد يومين على توقيف زوجها (عُثر على عقد زواج نظمه لهما رجل دين، لكن زواجهما غير مسجّل في دوائر الأحوال الشخصية). وبحسب التحقيق معهما، فإنهما كانا يعلمان بهوية الجهة التي يعملان لحسابها. كان رامز يتلقى التعليمات من مشغليه الإسرائيليين، فينفذ ما يُطلب منه، ثم يفيدهم بالنتيجة، بواسطة برنامج اتصال عبر جهاز «آي باد» الخاص به، يتم تشغيله قرب الحدود. وأقرّا بأنهما توليا جمع معلومات عن رئيس التنظيم الشعبي الناصري النائب السابق أسامة سعد، وعن إمام مسجد القدس الشيخ ماهر حمود، وإمام مسجد إبراهيم الشيخ صهيب حبلي (قصده رامز وس. ش. لعقد زواجهما. ويُعتقد بأن الهدف الحقيقي للزيارة كان جمع المعلومات والتصوير)، إضافة إلى جمع معلومات عن موكب المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم، وعن شخصيات في حزب الله ومن سرايا المقاومة. وقد استأجر رامز شقة سكنية في صيدا، بالقرب من منزل حمود، لتسهيل مراقبته. وكان الموقوف يستخدم 8 أجهزة هاتف في عمله، جرى ضبطها.

لم يعثر المحققون على رابط بين خلية التجسس وخلية داعش، رغم تقاطع أهدافهما


وبحسب التحقيقات، أقّرا بأن الوسيط الأولي بينهما وبين مشغليهما، هو هاني م. وقال رامز للمحققين إن مشغليه طلبوا منه قبل مدة قصيرة، التنسيق مع هاني، ليتولى الأخير عملية إدخاله إلى فلسطين المحتلة، لكنه أوقِف قبل إتمام «الرحلة».
أوقِف هاني (يوم الجمعة 30 تشرين الأول 2015)، ودُهِم منزله في شرقي صيدا (علماً بأنه من بلدة جنوبية محاذية للحدود مع فلسطين المحتلة). صودرت أجهزة من منزله. واعترف بأنه تولى تجنيد رامز لحساب استخبارات العدو، زاعماً أن صلته به انقطعت لاحقاً. فيما كان رامز يقول إن اتصالاته بالعدو من منطقة قريبة من الحدود كانت تتم بوجود هاني. كذلك أقرّ الأخير بأنه دخل إلى فلسطين المحتلة أكثر من مرة، قبل عام 2000، زاعماً أنه فعل ذلك بهدف السياحة.
كان موظف اليونيفيل يدّعي في البداية أن اتصالاته بأشخاص في فلسطين المحتلة مرتبطة حصراً بكونه ينتمي إلى جماعة «شهود يهوه»، علماً بأن المحققين يشككون في كونه حقاً ينتمي إلى هذه الجماعة. فقد جرى توقيف شخص ناشط فيها، من منطقة الشمال، بسبب وجود اتصالات كثيفة بينه وبين هاني، لكن لم يتبيّن أن له صلة بعمل هاني الاستخباري، فأطلق سراحه.
وقال هاني إن من جنّده هو قريب لزوجته، وهو عميل فر إلى الأراضي المحتلة مع قوات الاحتلال المنسحبة من الجنوب عام 2000. زعم أن تجنيده جرى منذ أكثر من عام، لكن المشرفين على التحقيق مقتنعون بأن عمله التجسسي يعود إلى تسعينيات القرن الماضي على أقرب تقدير. إلا أن التحقيقات معه لحسم هذه المسألة لم تأخذ المدى المطلوب. فمنذ لحظة توقيفه، كان المشتبه فيه مدركاً للحصانة التي يتمتع بها، ويعلم جيداً أن مكوثه في «النظارة» لن يطول. وبالفعل، ما إن أوقفه الأمن العام حتى استنفرت قوات الأمم المتحدة وفرقها القانونية، لتجري اتصالات بالمدعي العام التمييزي القاضي سمير حمود، ومفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي صقر صقر. أبرز الفريق القانوني لليونيفيل اتفاقية موقعة مع الحكومة اللبنانية منذ عام 1996، ومنشورة في الجريدة الرسمية، تمنح العاملين في اليونيفيل حصانة تحول دون توقيفهم قبل موافقة قيادة القوات الدولية. وطالب الفريق الأممي القضاء اللبناني بتسليمه الموقوف. مباشرة، انصاع القضاء للضغوط الدولية، ووجّه إشارة إلى الأمن العام بعدم توقيف الرجل، والاكتفاء بالاستماع لإفادته، ثم تسليمه إلى اليونيفيل. وجرى الاتفاق على أن يبقى المشتبه فيه موقوفاً لدى القوات الدولية، على أن يستكمل المحققون الاستماع لإفادته، إنما من دون احتجازه. سُلّم المشتبه فيه إلى اليونيفيل يوم توقيفه، ولم تُعِده إلى التحقيق إلا بعد خمسة أيام (يوم الأربعاء الماضي). ترافقه سيارة من اليونيفيل صباحاً إلى مقر للأمن العام، ثم تأخذه ليلاً. هذه هي أوامر القضاء، الذي قدّم طلباً إلى اليونيفيل يطلب فيه رفع الحصانة عن المشتبه فيه. تأثر التحقيق سلباً بهذه الإجراءات. فالمشتبه فيه تمكّن من بناء رواياته التي سيواجه بها المحققين، كما أنه يراهن على أن الأمم المتحدة لن ترفع عنه الحصانة، ما يجعله يصمد أمام المحققين.
لكن المشرفين على الملف، في القضاء والأمن، يبدون راضين عن النتيجة التي تحققت. برأيهم، جرى إحباط عمليات اغتيال. فالمعطيات التي كانت تجمعها الخلية، ليست، بلغة الأمن، سوى الأعمال التمهيدية التي تسبق تنفيذ عمليات اغتيال. وتوقف مسؤولون أمنيون وقضائيون عند كون الشخصيات التي وضعها الإسرائيليون كأهداف للمراقبة (سعد وحمود وابراهيم)، كانت نفسها أهدافاً للمراقبة من قبل خلية تابعة لتنظيم «داعش» أوقفها الأمن العام الشهر الماضي. لكن المحققين لم يعثروا على أي رابط بين الخليتين.
ليست هذه العملية الأولى التي ينفذها الأمن العام في مجال مكافحة التجسس الإسرائيلي، لكنها الأولى بهذا المستوى منذ أعوام. وقد راكمت المديرية قدرات وخبرات خلال السنوات الأربع الماضية، تسمح لها بأن تصبح لاعباً أمنياً أساسياً في هذا المجال، كما في مجال مكافحة الإرهاب التكفيري. وبحسب «العقيدة الأمنية» للأمن العام، فإن المعركة مع الإرهاب واحدة، سواء كان تكفيرياً أو إسرائيلياً.