ماذا يريد أسعد الشفتري أن يقول في كتابه الذي لم يقلْ شيئاً جديداً؟ متى يتوقّف الشفتري عن إعلانات ندم كاذبة؟ لا علاقة للحقيقة بكتابه الأخير، «الحقيقة: ولو بصوت يرتجف». إنّ مَن تابع مسيرة إعلانات طلب الغفران (الديني المحض) من أسعد الشفتري، بات معتاداً على أحاديثه التي تأخذ شكل الاعترافات من دون أن تكون اعترافات.
وهي تأخذ شكل الندم، من دون أن تتضمّن ندماً محدّداً. هي مداعبة لـ«إيغو» الذات فقط. هي تأخذ شكل الأسف، فيما لا يحيد كاتبها عن الزهو بكل مسيرة إجرام الحرب والتمسّك بالشعارات التي قادت إلى الحرب. وبالرغم من اعتراف الكاتب بأنه تربّى في بيئة كنّت احتقاراً للإسلام والمسلمين (وهذا إعلان متأخّر ونادر من وسط شعبي تربّى على عقدة تفوّق مسيحيّة قلّدت وأعانت عقدة التفوّق اليهوديّة في الحركة الصهيونيّة في فلسطين المحتلّة)، فإنه لا يحيد ــ من خلال كلامه هو ــ عن الفكر الذي تربّى عليه.
لقد أصبحت قصّة الشفتري معروفة، وظهر في فيلم إيليان الراهب «ليال بلا نوْم». لكنّني لم أصدّق رواية الشفتري ولم أتقبّل اعتذاره المصطنع والخاوي. في الحقيقة، إن الشفتري لم يعتذر عن شيء. هو يذكّر بالاعتذار ــ اللااعتذار من قبل سمير جعجع في واحدة من خطبه. الطرف الوحيد الذي اعتذر عن الحرب هو الطرف الذي ما كان يجب أن يعتذر عن الحرب، وأعني به الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة التي قدّمت اعتذاراً عن حرب جُرَّت جرّاً إليها من قبل كل أطراف الصراع اللبنانيّة، والتي تسابقت فيما بعد على لوم الشعب الفلسطيني وحركته الوطنيّة عن حرب كان للبنانيّين القسط الأكبر في نشوبها وفي استمرارها (قدّمت منظمّة التحرير اعتذارها بعدما نصّب الاحتلال الإسرائيلي محمود عبّاس على رأس سلطة «أنطوان لحد» في رام الله). كما أن محسن إبراهيم اعتذر عن تضامن الحركة الوطنيّة مع القضيّة الفلسطينيّة، وكأنه أراد أن يقول إن الكتائب وميليشيات اليمين كانت على حق، واعتذر أيضاً عن «انجرار» الحركة الوطنيّة إلى الحرب، وكأن كان هناك خيار عدم الردّ على إصرار ميلشيات اليمين المدعومة إسرائيليّاً وأميركيّاً على الحرب. ليس هناك ما يُعتذَر عنه في ممارسة حق الدفاع عن النفس.
لكن تتيقّن بعد قراءة هذا الكتاب أن الشفتري لم يعتذر ولن يعتذر. هذا مجرم حرب (بوصف أفعاله في كتابه)، انعزالي لا يأسف على أي جريمة من جرائمه الوطنيّة (أي الجرائم بحق الوطن ومواطنيه) أو حتى الشخصيّة. لا، من باب الدقّة، يجب القول إن الكتاب بين دفتيْه (في ٣٣٤ صفحة) لم يتضمّن إلا اعتذاراً شخصيّاً واحداً مُوجّهاً إلى جورجينا رزق التي لجأت إلى بيروت الشرقيّة في مرحلة من مراحل الحرب فقامت القوّات اللبنانيّة باعتقالها في قميص النوم (حسب ما يروي الشفتري). ويبدو أنها تعرّضت لإهانات سوقيّة وتعذيب نفسي (ص. ١٠٨). غير هذا الاعتذار لم يقدّم الشفتري اعتذاراً آخر. صحيح أن الكتاب يتضمّن كلاماً فارغاً يخلط بين ما درسه الشفتري في مادة ابتدائيّة عن إدارة الأعمال وما لُقِّن به في سنوات الطفولة والصبا عن الغفران المسيحي. لكن الغفران المسيحي الكنسي في لبنان سهلٌ كما يروي الكاتب إذ إن الكاهن كان يمنح مجرمي الحرب الكتائبيّين غفراناً مُسبقاً عن جرائم حرب مستقبليّة (ص. ٢٤ ــ وفي الحديث عن الغفران لا تزال الكنيسة المارونيّة، خصوصاً الرهبانيّات المارونيّة، لم تتلُ على اللبنانيّين فعل ندامة على ما ارتكبته من جرائم حرب مروّعة). لكن هذه حدود اعتذارات الشفتري.
لم أثق بأسعد الشفتري. هذا الذي كان جهازه الاستخباري في «القوّات اللبنانيّة» صنيعة الـ«موساد»، تحوّل بعد سقوط الاتفاق الثلاثي إلى صنيعة المخابرات السوريّة (هو وزعيمه الموسادي السابق، إيلي حبيقة). لكنني لاحظت أن الشفتري غيّر خطابه بعد خروج الجيش السوري مباشرة من لبنان في عام ٢٠٠٥، ومن على شاشة «المستقبل». وقلتُ في نفسي: أي من أقنعة الشفتري نصدّق، وأي من أدواره ومسرحيّاته؟ هل يصدق في الدور الأوّل ويكذب في الدور الثاني؟ هل أصدّقه في شاشة «المستقبل» أم أصدّقه في «ليال بلا نوْم»؟
استفزّني الشفتري قبل أن أقرأ كتابه عندما شاهدته في حلقة تلفزيونيّة قبل بضعة أشهر، وروّج فيها لكتابه (ولم يكن قد صدر بعد) وتحدّث فيه عن أن حزب «الكتائب» كان يطلب من مقاتليه «إثبات الأهليّة» في طقوس إجرام وحشيّة. وعليه، طُلب من الشفتري أن يقتل سجيناً فلسطينيّاً بيديه العاريتيْن، بسكّين. ويقول الشفتري إنه قتله من دون «أن يرف لي جفن» (ص. ٦٠). لكن في رواية مقابلة الشفتري على الشاشة كما في الكتاب يضيف إلى قصّة «إثبات الأهليّة» هذه العبارة: «واكتشفتُ فيما بعد أن تلك الممارسة كانت سائدة لدى الميشليات كافّة» (ص. ٦٠). وبهذه العبارة يقفل شفتري الموضوع على طريقة الانعزاليّين (باتت مستبطنة من جميع اللبنانيّين) في القول: الكل ارتكب مجازر، أو الكل تعامل مع الخارج، وهذه التوليفة تساوي بين كل أطراف الصراع الأهلي، وهي أيضاً تسوّغ بوقاحة للعمالة لإسرائيل التي سادت بين كل ميليشيات اليمين. لا، لم تكن كل الميلشيات سواسية في اللاأخلاقيّات التي ابتكرتها ميلشيات إسرائيل. لو تدرك يا أسعد الشفتري أن الحزب الشيوعي اللبناني ومنظمّة العمل الشيوعي وحزب العمل الاشتراكي العربي ــ لبنان وتنظيمات اليسار المتطرّف المجهولة من اللبنانيّين، والجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين والجبهة الديموقراطيّة لتحرير فلسطين وحزب العمّال الشيوعي الفلسطيني (وغيرهم)، كانوا يُضمّنون في تدريبهم العسكري دروساً في أخلاقيّات الحرب. لا، لم نكن مثل الميلشيات الانعزاليّة التي علّمت مقاتليها على جرائم الحرب، وكافأتهم عليها.
سأتحدّث هنا عن منظمّات مسلّحة عرفتها في اليسار الشيوعي اللبناني والفلسطيني وعن ميلشيات في بيروت الغربيّة. لا، يا أسعد الشفتري. لم تكن هناك طقوس قتل وتشنيع وتعذيب ووحشيّة عند أي من المنظمّات الفلسطينيّة. حتى منظمّة «الصاعقة» التي قبلت في صفوفها أوغاداً بعد تولّي زهير محسن قيادتها، لم تكن لديها هذه الطقوس. كانت بعض المنظمّات، مثل «الصاعقة» في مرحلة قيادة ضافي الجمعاني، تفرض على مقاتليها تدريبات قاسية وصارمة وصعبة، لكن لم يكن هناك طقوس قتل وتعذيب. أنا أذكر مقاتلاً في الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين صارح مسؤولَه بأن لا قدرة له على القتل حتى ضد المذنبين والمجرمين في الفريق الانعزالي. ولم يكن هناك عقوبة ضد هذا الرفيق. كانت حركة «المرابطون» حركة غير منضبطة ويتحمّل قائدها ابرهيم قليلات المسؤوليّة عن عدد من الجرائم في سنوات الحرب، لكن لم يكن هناك طقس قتل وتشنيع حتى في «المرابطون». هذا ما يجب أن يعرفه الشفتري والشعب اللبناني: لم تكن كل الميليشيات سواء في لبنان. إن الفريق الانعزالي يتحمّل المسؤوليّة الكبرى ليس فقط عن التحضير والشحن نحو الحرب، وليس فقط عن إشعال الحرب واستمرارها بل أيضاً عن معظم جرائم الحرب في سنوات الحرب. خذ مثلاً قصّة المخطوفين: هذه قصّة استغلّتها القوّات اللبنانيّة كي تخفي قسطها الأكبر في خطف وقتل الآلاف من اللبنانيّين (يعترف الشفتري أن عمليّات الخطف الذي قام به فريق سمير جعجع ضد خصومه في القوّات، وأن الموقوفين من مؤيّدي حبيقة «لم يعد كثرٌ منهم إلى ديارهم واعتبروا في عداد المفقودين، ولا يزالون كذلك، حتى اليوم» (ص. ٢٠٢)). وسمير جعجع، عميد الخاطفين في الحرب الأهليّة، بات مزايداً في موضوع المخطوفين ويطالب ــ مع مَن يطالب ــ النظام السوري بحلّ مشكلتهم). سُويّت المشكلة على الطريقة اللبنانيّة بتبرئة اللبنانيّين من الإجرام. نجحت القوّات في نسب كل الخطف في لبنان إلى النظام السوري فيما هي تتحمّل المسؤوليّة الكبرى عن كل أعمال الخطف. هذا فارق نوعي في العمل الميليشاوي اللبناني. ويعترف الكاتب أيضاً أن جماعته الميليشاويّة ابتكرت أسلوب القصف العشوائي ضد «الأحياء السكنيّة» (يعترف الشفتري أنه ورفاقه بادروا إلى قصف سينما الحمراء أثناء الحرب، ص. ٣٩). إن أشنع وسائل الحرب الوحشيّة في لبنان كانت من ابتكار هذه الميلشيات المتحالفة مع العدوّ الإسرائيلي. وكان عمل الشفتري في جهازه الاستخباري من الوحشيّة بمكان إلى درجة أن حزب الكتائب الإرهابي أرسل «مندوباً رفيعاً جدّاً لدراسة حيثيّات أحكام الموت» الصادرة عن جهازه (ص. ٨١).

لا يتطرّق الشفتري في كتابه لتفاصيل العلاقة مع العدوّ الإسرائيلي

لكن هناك ما هو أخطر في رواية الشفتري وفي تلاوته المصطنعة لفعل الندامة. هو لا يتطرّق بتاتاً لتفاصيل العلاقة مع العدوّ الإسرائيلي. والشفتري كان مسؤولاً عن جهاز استخباراتي قوّاتي، فيما كان إيلي حبيقة مسؤولاً عن جهاز استخباراتي ــ عملاني آخر (تم توحيد الجهازيْن في جهاز واحد بقيادة حبيقة بعد محاولة اغتيال بشير الجميّل الفاشلة في ١٩٨٠). وكان الجهازان من صناعة الـ«موساد» الإسرائيلي، لكن الشفتري يستّر كثيراً ــ وبصورة واضحة ومشبوهة ــ عن العلاقة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي وعن زياراته المتكرّرة إلى فلسطين المحتلّة، لا بل هو تستّر أيضاً عن علاقة غيره مع العدوّ وعن زيارتهم إلى فلسطين المحتلّة (مثل زيارات جعجع حيث تلقّى تدريبه الأساسي). لو أن الشفتري ندم على أفعاله (وكان أشنعها التحالف الذليل مع العدوّ الاسرائيل ــ راعي إجرام الانعزاليّين) لكان صارح قيادة المقاومة في لبنان وفي فلسطين بكل ما علمه عن طبيعة عمل الـ«موساد» ولكان أعطاهم ــ وأعطى الشعب اللبناني ــ كل ما لديه من معلومات ومن صور ومن وثائق عن طبيعة عمل الـ«موساد» (الذي كان هو واحداً من مرشديه في لبنان) لكن الشفتري لم يفعل ذلك. أكثر من ذلك: هو لا يزال مصرّاً على صوابيّة العمالة للعدوّ الإسرائيلي.
يقول الشفتري عن التحالف مع إسرائيل: «ويهمّني أن أكرّر أن الذين تعاطوا مع إسرائيل، لم يكونوا خونةً أو عملاء. رأينا في إسرائيل حليفاً، وليس آمراً» (ص. ٥١) ــ كأن إسرائيل كانت تنظر إلى هذه الميلشيات كحليف، مع أنها كانت ــ باعتراف الشفتري نفسه ــ تكنّ لهم كل الاحتقار لأنها تنظر إليهم، من خلال نظرتها العنصريّة، كعرب دونيّين. ويذكر زيارته إلى فلسطين المحتلّة ويذكر أنه كان بصحبة «ضبّاط من الموساد» (ص. ٥٦). ويروي الشفتري عن علاقات جهازه مع أجهزة استخباراتيّة أجنبيّة (ص. ٧٦) ويذكر شخصيّة ضابط الارتباط الأميركي في جهاز الـ«سي.آي.إي» لكنه لا يذكر شيئاً عن أي من الشخصيّات الإسرائيليّة التي عرفها وعن كثب؟ الاستنتاج الوحيد الذي يخلص إليه القارئ أن الشفتري لا يزال حريصاً على أمن العدوّ الإسرائيلي ويريد أن يحمي عمله الاستخباراتي. والنظام السوري عندما ضم (وبإيعاز وتسهيل من رفيق الحريري) أفراد الجهاز الموسادي «القوّاتي» إلى صفّه، لم يكترث لأمر علاقة الجهاز مع العدوّ الإسرائيلي، كما أن لوسيان الدحداح (المستشار الأقرب لسليمان فرنجيّة، الجد) أخبر ديبلوماسيّاً أميركيّاً (في وثيقة أميركيّة أُفرج عنها) أنه كان يُعلم النظام السوري بعلاقة الجبهة اللبنانيّة بإسرائيل لكن النظام لم يكن يكترث لذلك. ويقول الشفتري في هذا الصدد: «وبالرغم من علاقتنا مع الإسرائيليّين، فقد أظهر السوريّون مثالاً فريداً بالفعل، ولم يناقشوا معنا أبداً، ذلك الموضوع». (ص. ١٧٥). ويعترف الشفتري أيضاً أن حبيقة (كيف قبلت فصائل مُقاوِمَة، علمانيّة وإسلاميّة، التحالف مع هذا الرجل؟ التحالف معه قَبَّح ويُقبِّح كل مَن دخل فيه) صمتَ عن موضوع صبرا وشاتيلا «للحفاظ على علاقتنا بإسرائيل» (ص. ٩٥).
والشفتري الذي يستخدم «الحقيقة» عنواناً لكتابه، والذي لا يظهر على الإعلام إلا ويتشدّق باسم الحقيقة، يجانب الحقيقة في الكثير من روايته عن الحرب. إن ما قاله عن معركة زحلة من أنها كانت من صنع النظام السوري هي رواية كاذبة (ص. ٨٧)، وذلك باعتراف كل المراجع الغربيّة والإسرائيليّة عن الحرب. بات معروفاً أن بشير الجميّل هو الذي افتعل معركة زحلة من أجل أن يستدرج تدخلاً إسرائيليّاً لصالحه في لبنان. ويناقض الشفتري نفسَه عندما يستدرك في روايته عن زحلة «على الرغم من تقديرنا للتدخّل الإسرائيلي في زحلة إلا أنه كان أدنى من تطلّعاتنا» (ص. ٨٩). هذه كانت خطّة بشير الجميّل وحتى العدوّ أدركها وتمنّع عن الاستدراج كما أرادها الحليف الذليل. وفي صدد الأكاذيب يقول شفتري إن شارل مالك هو «حاصل على 51 شهادة دكتوراه» (ص. ٩٦). 51، يا شفتري؟ كما تقول أغنية فيروز، «مرة منيح، بس ٥١»؟
وفي روايته عن تنصيب بشير الجميّل رئيساً (وهنا هو يعترف بأنه كان للقوّات خطة بديلة في حال تمنّع النوّاب عن الذهاب لـ«انتخابه» بعد تلقّيهم الرشوة من ميشال المرّ ومن العدوّ الاسرائيلي) يردّد الرواية الرسميّة أن الجميّل هذا تغيّر بعدما أصبح رئيساً وأنه أصبح وطنيّاً لكل اللبنانيّين، وأن «المسلمين المعتدلين تبنّوا بشير المنتصر» (ص. ١٠٠). لكن من هم هؤلاء وماذا كانت صفتهم التمثيليّة؟ من علياء الصلح إلى عثمان الدنا إلى سليمان العلي إلى فيصل أرسلان (وطلال كان موجوداً إلى جانب بشير يتابع مع أخيه نتائج التنصيب الإسرائيلي)؟ لم يكن منهم مَن يعيش بين أهله، وليس ذلك صدفة. ويتناسى كل مَن يردّد هذه الأسطورة أنه لم يمضِ على الجميّل هذا إلا أيّام قبل أن يناله حبيب الشرتوني بساعديْه. كيف وأين ظهرت وطنيّة الرجل؟ وفي آخر خطاب (لم يبثّه الإعلام يومها) كان الجميّل صريحاً جداً في نواياه ومقاصده الطائفيّة القبيحة وفي عنصريّته. كما أن الشفتري يعترف ــ عرضاً وربما سهواً ــ أن بشير وجماعته «اتفقوا جميعاً (بعد تنصيبه) على ضرورة استعادة هيمنة المسيحيّين ببطء، وبشكل يضمن الحفاظ عليها على المدى الطويل» (ص. ٩٩). يذكر شفتري ذلك ثم يستدرك فيضيف كلامه العام عن ضرورة التحالف بين المسلمين والمسيحيّين. لكن كيف يكون هذا التحالف عندما تعترف أن بطلك، بشير، كان يريد الحفاظ على نظام الهيمنة الطائفيّة؟
ويتطرّق الشفتري لاغتيال بشير الجميّل ــ السيّئ الذكر ــ وإلى حبيب الشرتوني، وكيف واجه جلاّديه برباطة جأش وشجاعة تذكِّر بكيف واجه أنطون سعاده جلاّديه حتى لحظة إعدامه (خلافاً لـ«شهداء» ١٩١٦ الذين خارت قواهم في طريقهم إلى المشنقة ورجوا جلاّديهم منتحبين أن ينجدوهم). لكن الشفتري لا يتطرّق للتعذيب الذي تعرّض له الشرتوني وتعرّض له غيره من الآلاف في معتقلات حبيقة وشفتري وغيرهم في «القوّات اللبنانيّة» (اعترف بحالات عامّة وغير محدّدة من التعذيب). لكن الشفتري يروي قصّة غير معروفة عن الردّ على اعتقال الشرتوني من قبل القوّاتيّين، وكيف خطفوا والديْ الشرتوني وقتلوهما، كما أنهم دنّسوا مقابر عائلة الشرتوني «وارتكبوا عدداً من الجرائم الأخرى» (ص. ١٠٤) التي لم يفصح عنها شفتري كالعادة. هذا جانب من الجرائم التي لم ولن يبحث فيها المجلس العدلي في بيروت.
لكن لا يكتفي الشفتري بالتباهي بجرائم الحرب القوّاتيّة التي شارك فيها لسنوات طويلة، بل هو لا ينجح في التوفيق بين اعتراف مصطنع بالطائفيّة المسيحيّة الدفينة ضد الإسلام والمسلمين وبين دعوته إلى التوائم الوطني. فترى عقله الطائفي يتسرّب في ثنايا الكتاب ليكشف حدود تطوّره وتغيّره وندمه. يعترف مثلاً أن المعارك بين الأجنحة القوّاتيّة في الثمانينيات كانت مؤلمة لأن «القتيل سيكون مسيحيّاً ما، يفضي حتماً إلى خسارة» (ص. ١٢٠). هذه العقليّة سهّلت قتل وتعذيب وجرح والتنكيل بآلاف من المسلمين والفلسطينيّين والمسيحيّين المعارضين لنهج الانعزاليّين. وبعيداً عن المبدئيّة (الطائفيّة والعنصريّة) يكشف شفتري عن استعمال سلاح المال لجذب مناصرين والحفاظ على ولائهم في القوّات (ص. ١٢٥). وهو من ناحية يزعم أنه يريد لبنان «غير طائفي» (ص. ٢٨١)، لكنه يقول أيضاً إنه يرى نفسه «مواطناً مسيحيّاً» (ص. ٢٠٨) ويقول إن المجتمع «اقتصر بالنسبة إليه» على المسيحيّين (ص. ٢٨٤). لكن الصعوبة الكبرى في مشروع الشفتري، أو موضع الاستحالة، هو في إيمانه العميق ببطولة بشير الجميّل، واصطناعه لشخصيّة التائب.
والطريف أن الشفتري عندما التحق (هو وحبيقة) بركب المخابرات السوريّة كرّر كلامه الذي كان قد قاله من قبل (في الكتاب نفسه عن المخابرات الإسرائيليّة والولاء لها)، إذ يقول: «يجدر بي أن اعترف أنه خلال إقامتنا في دمشق وزحلة وبيروت، لم يشعر أحدٌ منّا يوماً، بأنه يُعامَل على أنه متواطئ أو عميل... دائماً تخطّت ضيافة السوريّين أقصى التوقّعات» (ص. ١٧٥). هل هذا ينم عن ولاء حاضر من قبل الشفتري لكل جهاز مخابرات أجنبي تعامل معه؟ أين ندمه؟ وكيف يُقنِع القارئ والشعب اللبناني بصدق نواياه وهو مُصرّ على حرصه على سمعة وسريّة الـ«موساد»؟
ويبرز في الكتاب الدور الذي لعبه رفيق الحريري (المناضل العنيد ضد الوجود السوري في لبنان ــ كما يُروى لنا هذه الأيّام) في رعاية ودعم فريق إيلي حبيقة ــ أسعد شفتري، فيقول: «لم يتخلَّ الحريري عنّا، بعد محنتنا، واستمرّ في تقديم المساعدات الماليّة والتقنيّة لسدّ حاجاتنا الماليّة والسياسيّة. وقدّم لنا إذاعة راديو بقدرة ١٠ كيلو واط كان قد اشتراها من فرنسا» (ص. ١٨٢). هل تدخل هذه في خانة العمل الخيري لرفيق لحريري؟
إذا كان الشفتري يحتاج إلى نصيحة في علم النفس، فيجب أن يعرف أن قراءة كتابه تدفع القارئ إلى الوصول إلى قناعة لا مهرب منها: لا يزال أسير العقيدة الطائفيّة اليمينيّة الرجعيّة العنصريّة إياها، تلك التي جذبته في سنوات الصبا. لا يزال يحمّل مشاكل وأوزار الحرب لـ«اليساريّين والمتطرّفين المسلمين والفلسطينيّين» (ص. ٢٠٤). أو عندما يقول «إن دعم المسلمين اللبنانيّين للفلسطينيّين، ولثوّار العالم وللإرهاب هو الذي أنزلنا إلى صفوف البلدان المشبوهة والتي تُعتبر سيّئة» (ص. ٢٣٣). ويريد أن يحصل على غفران، ويريد أن يُقنع أحداً من غير الرُضّع بأنه تائب لكن بصورة ضبابيّة ومبهمة. والمُحلّل النفسي سيلاحظ أن الانفصام في شخصيّة شفتري (بين التائب وبين الأصيل) يزول في عدد من اللحظات في الكتاب، فتراه يعود صاغراً إلى شخصيّة «الفتى الكتائبي» في سنوات الحرب. والإسرائيلي عنده، يظهر ضحيّة للشعب الفلسطيني. إذ أنه عندما يتحدّث عن إرهاب سمير جعجع لأنصار حبيقة يقول هكذا عرضاً: «فتعرّضنا إلى اعتداءات شبيهة بتلك التي يشنّها الفلسطينيّون على الإسرائيليّين». هو يعترف أنه لم «يترك سوءاً إلا واقترفه» (ص. ٢٣٠) لكنه لا يُعرّض الفكر والممارسة اللذيْن قاداه إلى تلك الاقترافات إلى مساءلة. فليكفّ أسعد الشفتري عن اعترافات لا طائل لها، وليعش على ذكرى جرائم الحرب الذي لا يزال مزهوّاً بها.
*كاتب عربي
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)