أي قراءة لمؤتمر دعم الانتفاضة، في طهران، تنطلق حصراً من الظروف السياسية الحالية، تبقى ناقصة وقد يعتري بعضها قدر من التشوه. فالمؤتمر الذي انعقد قبل أيام هو امتداد لسلسلة مؤتمرات عقدتها إيران، في مواجهة المخطط الأميركي لشرعنة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، الذي أخذ شكلاً وزخماً جديدين مع مؤتمر مدريد عام 1991.
نقطة الانطلاق في هذا المسار، الذي شكل مؤتمر دعم الانتفاضة محطة من محطاته، كان انتصار الثورة في إيران التي لم تقتصر نتائجها على إقامة نظام الجمهورية الإسلامية، عام 1979، بل امتدت مفاعيلها الى إحداث ثورة جذرية في معادلات الصراع مع إسرائيل.
أولى هذه المفاعيل، تمثلت بإسقاط أهم حليف لإسرائيل في الشرق الأوسط، (نظام الشاه)، وهو ما أدى في حينه الى إعادة انتاج خريطة جديدة للتوازنات الإقليمية. ومما أضفى بعداً استثنائياً إضافياً على مفاعيل انتصار الثورة، إزاء معادلات الصراع مع العدو، هو التزامن مع خروج مصر (اتفاقية كامب ديفيد) من دائرة الصراع مع إسرائيل، التي لم تتأخر في ترجمة تغيير التوازن الاستراتيجي باجتياح واسع للأراضي اللبنانية عام 1982.
مع ذلك، فإن انتصار الثورة، ساهم في حينه باحتواء مفاعيل هذا الانقلاب في معادلة التوازن الاستراتيجي مع العدو، ثم تغيير معادلات القوة من خلال الساحة اللبنانية، التي تحولت الى مستنقع لقوات الاحتلال الاسرائيلي وصولاً الى انجاز التحرير عام 2000. ثم ارساء معادلة ردع متبادلة بين حزب الله والكيان الإسرائيلي. الخط الموازي في تغيير المعادلات، جرى من خلال انتقال ساحة الصراع الى داخل فلسطين المحتلة، كتجسيد لحقيقة أن إرادة الشعب الفلسطيني في المقاومة تتجاوز الفصائل والتيارات السياسية، وقادرة على الإبداع بما يتناسب مع كل مرحلة.
العامل الأهم الذي ساهم في الدفع نحو توازنات جديدة، أن النظام الإسلامي في طهران، لم يتبنَّ خطاباً "معتدلاً" في الصراع مع إسرائيل، مع أنه كان يوجد من المعطيات الموضوعية ما قد يبرر له مثل ذلك الخيار، في ذلك الحين، تحت شعار المرحلية إلى حين "التمكين". وترجم النظام الإسلامي في طهران خياراته الاستراتيجية، على المستوى العملي من خلال إقامة أول سفارة لدولة فلسطين، ودعم خيار المقاومة، في لبنان وفلسطين.
واصلت إيران الدولة، تمسكها بموقف الرفض المطلق للاعتراف بإسرائيل، وترجمت ذلك عبر نهج ثابت لدعم المقاومة في فلسطين، ومقاومة أي جهد تطبيعي مع كيان العدو. وتشهد المواقف السياسية والعملية، طوال العقود الأربعة الماضية، أن خياراتها ومواقفها لم تكن نتيجة ظروف سياسية استجدت في السنوات الأخيرة ولا في العقد الأخير.
مع ذلك، فإن عقد مؤتمر دعم الانتفاضة في طهران، في هذه المرحلة، ينطوي على أكثر من رسالة في أكثر من اتجاه، ويعزز خيارات الشعب الفلسطيني في مواجهة مخطط تهميش القضية الفلسطينية، وتصفيتها، عبر القفز فوق معاناة الشعب الفلسطيني.
تسارعت التطورات الإقليمية والدولية الضاغطة على القضية الفلسطينية. ونتيجة ذلك تكثفت الجهود التي تسعى لإخضاع الشعب الفلسطيني للتكيّف مع الاحتلال والتسليم به، ضمن صيغة تسوية ما. بهدف التمهيد لتحويل إسرائيل الى كيان طبيعي في المنطقة، والارتقاء به الى مرتبة الحليف العلني للاعتدال العربي ــ السعودي. على أن تتكامل أدوار ومهمات كل من أطراف هذا التحالف، كلٌّ من موقعه وبحسب إمكاناته وظروفه. وما ساهم في تزخيم هذا المسار الذي يهدد القضية الفلسطينية، كون الإدارة الأميركية الجديدة، أكثر قرباً من توجهات اليمين الإسرائيلي.
على خطٍّ مواز، ترى أغلب القوى السياسية، في تل أبيب، أن البيئة الإقليمية والدولية باتت تشكل ظرفاً مثالياً للانقضاض على ما تبقى من أراض فلسطينية تهويداً واستيطاناً وضماً. ولكن العقبة المتبقية هي إرادة الشعب الفلسطيني، بالصمود والتصدي.
والخطورة الأكبر في هذا المسار أنه يقترن بمخطط يستهدف تهميش معاناة الشعب الفلسطيني وإزاحتها عن سلم اهتمامات الرأي العام العربي. وما كان ذلك لينجح من دون إحكام الطوق على الشعب الفلسطيني لدفعه الى اليأس من إمكانية تحقيق أي إنجاز، وحشره في النهاية بين خيارين، إما ضياع فلسطين، أو القبول بما توفره التسوية على قاعدة "القليل خير من الحرمان".
في المقابل، لم يعد يوجد في هذا الفضاء العربي ــ الإسلامي، ثقل إقليمي استراتيجي، يشكل رافعة للموقف الفلسطيني المقاوم لهذا المخطط، إلا الجمهورية الإسلامية في إيران ومحور المقاومة. من هنا يأتي مؤتمر دعم الانتفاضة، في سياق إقليمي ــ دولي ضاغط على الشعب الفلسطيني، وفي منعطف تاريخي مفصلي في حركة مقاومة الشعب الفلسطيني.
ومن الناحية العملية، اقترن هذا المؤتمر مع ما سيليه، مع فشل الرهان على الجماعات المسلحة لتفكيك محور المقاومة من خلال البوابة السورية، والذي نجح في تثبيت العمق الاستراتيجي للمقاومة على الساحة السورية. ومن المؤكد أنه سيكون لهذا الانتصار في سوريا، تداعيات استراتيجية وتاريخية على مجمل معادلات الصراع مع العدو، وفي الساحة الفلسطينية خاصة.