د. حسين طرّاف
لطالما شكّل نظام السرية المصرفية في لبنان غطاءً لمن يريد القيام بعمليات تبييض الأموال. فقد تمتع هذا النظام بمزايا تُسهل القيام بعمليات تبيض الأموال والتهرب الضريبي، مثل الاستعمال الكثيف للنقد الأجنبي والتحويل دون قيد أو شرط وتجيير الشيكات عدة مرات والإيداع النقدي دون ضوابط وإمكانية فتح حسابات مصرفية مُرقمة... وهذا كله تحت غطاء من السرية المصرفية المُطلقة.

من ناحية أخرى، أسهم نظام السرية المصرفية في جذب رؤوس الأموال المحلية والأجنبية، وشجع على الاستثمار، ووفّر الثقة بالائتمان المصرفي، منعكساً بنحو إيجابي على مناخ الاستقرار الاقتصادي في لبنان.
تلقّى قانون السرية المصرفية في لبنان ضربات عدة في السنوات الأخيرة، جعلته يفقد الكثير من مزاياه، وبالتالي لم يعد هذا القانون يُحقق للبنان ما كان مرجواً منه، بل أصبح أشبه «بالغربال» بعد إقرار العديد من القوانين المالية والتعاميم المصرفية استجابةً للمتطلبات الدولية، وبالتالي أصبحت حسابات المُودع في لبنان مكشوفة أمام سلطات كل دول العالم، ما عدا سلطات الدولة المعنية مباشرةً - أي لبنان. فلماذا التمسك بالإبقاء على قانون السرية المصرفية؟
صدر قانون سرية المصارف في لبنان بتاريخ 3 أيلول 1956. بموجب هذا القانون، تلتزم المصارف في لبنان السرية المطلقة، حيث لا يمكن كشف الحساب المصرفي للجهات الخاصة أو السلطات العامة، سواءٌ أكانت قضائية أم إدارية أم مالية أم عسكرية إلا في حالات معينة وردت حصراً في هذا القانون. إن السرية المصرفية التي طُبقت في لبنان بموجب قانون 3 أيلول 1956 كانت من أكثر أنواع السرية المصرفية المُطبقة في العالم شمولاً وإطلاقاً، بحيث أجبر هذا القانون المصارف اللبنانية على كتمان السر المصرفي لمصلحة العملاء بصورة مُطلقة، وجعل هذا القانون إفشاء السر المصرفي عمداً جريمة يعاقب عليها القانون بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنة. استفاد لبنان من اعتماد السرية المصرفية، في ظل الظروف السياسية والاقتصادية التي كانت سائدة في تلك الفترة، وسُمّي «سويسرا الشرق»، وحظي بمكانة مالية واقتصادية استثنائية جعلت منه ملاذاً آمناً للرساميل الأجنبية الهاربة من عمليات التأميم التي شهدتها القطاعات المالية والإنتاجية بعد ثورات مصر والعراق وسوريا لتحتمي بالنظام المصرفي اللبناني الجديد الذي وفّر حرية حركة رؤوس الأموال والسرية المطلقة بالإضافة إلى المزايا الضريبية.

انتشار الفساد في لبنان
مرتبط إلى حد كبير بقانون
السرية المصرفية


بالفعل، أسهم هذا القانون إسهاماً كبيراً في ازدهار لبنان مصرفياً وخدماتياً، إذ ازدادت الودائع بنسبة 467% بين عامي 1950 و1961، وارتفع عدد المصارف اللبنانية من 31 مصرفاً عام 1955 إلى 72 مصرفاً عام 1968. واستمرت الودائع المصرفية بالازدياد بصورة كبيرة في خلال الحرب الأهلية وبعدها نتيجة لعمليات تبيض الأموال، وخاصة المتعلقة بتجارة المخدرات وتجارة السلاح والإثراء غير المشروع والتهرب الجمركي والضريبي وعمليات الفساد والاحتيال المالي.
إلا أنّ الأمور لم تعد كما كانت، ففي خلال السنتين الماضيتين، صدرت قوانين شكلت تحدياً لقانون السرية المصرفية، أهمها:
1- قانون الالتزام الضريبي الأميركي: بدأت المصارف في لبنان تطبيق قانون الالتزام الضريبي الأميركي في الأول من تموز سنة 2014، ويفرض هذا القانون على المصارف والمؤسسات المالية تزويد مصلحة الضرائب الأميركية دورياً بمعلومات عن العملاء الذين يُعَدّون أشخاصاً أميركيين من الناحية الضريبية. ولا يمكن المصارف اللبنانية التذرع بقانون السرية المصرفية لعدم التعاون مع السلطات الأميركية. ومن المُلاحظ في ما يتعلق بهذا الموضوع، أن مصرف لبنان كان قد اتخذ قراراً سمح بموجبه للمصارف اللبنانية بأن توقِّع اتفاقيات منفردة مع الإدارة الأميركية حول تطبيق هذا القانون في إطار عملية مباشرة بين المصارف اللبنانية ومصلحة الضرائب الأميركية. وبنتيجة هذا القانون، أُجبر جزء من المودعين في المصارف اللبنانية على التنازل عن حقهم في السرية المصرفية.
2- قانون تبادل المعلومات لغايات ضريبية: وافق المجلس النيابي على إقرار هذا القانون بتاريخ 27/10/2016، ويُجيز هذا القانون لوزير المالية إبرام اتفاقيات ثنائية أو متعددة الأطراف مع أية دولة أجنبية لتبادل المعلومات المتعلقة بالتهرب الضريبي أو الاحتيال الضريبي، وبالتالي يجب على وزير المالية إجابة طلبات الحصول على المعلومات المُقدمة من هذه الدول، سواء بموجب اتفاقيات موقعة أو بشكل تبادل تلقائي للمعلومات. ومن المُلاحظ أن هذا القانون أعطى وزير المالية صلاحية إدخال لبنان في اتفاقيات مع دول من شأنها المساس بالسرية المصرفية في لبنان. وبالرغم من نص هذا القانون على ضرورة إجابة طلب المعلومات المُقدم من الدولة المعنية إذا استند إلى حكم مُبرم أو وقائع جدية أو قرائن دامغة على ارتكاب المُستعلَم عنه جرم تهرب أو احتيال ضريبي في البلد مُقدم الاستعلام، إلا أنه لم يحدد ماهية «الوقائع الجدية»، تاركاً بذلك للدولة المُستعلِمة حرية التذرع بوجود وقائع جدية بهدف الوصول إلى معلومات مصرفية ومالية متعلقة بأشخاص لبنانيين. وبالرغم من أن هذا القانون أقرّ بوجوب إحالة الطلبات المُقدمة إلى هيئة التحقيق الخاصة عندما تكون المعلومات المطلوبة مشمولة بقانون السرية المصرفية، إلا أن هذه الهيئة مُلزمة هي الأخرى بالتقيد بالاتفاقيات الدولية المتعلقة بتبادل المعلومات، وبالتالي ستستجيب حُكماً لمُعظم الطلبات المُقدمة، مُعرِّضة بذلك السرية المصرفية للاختلال، خاصة أنه يمكن تزويد الدولة المستعلِمة بالمعلومات دون الإخطار المُسبق للشخص المُستعلَم عنه إذا كان إبلاغه قد يؤثر بفرص نجاح التحقيقات التي تقوم بها الدولة مُقدِّمة الطلب.
3- قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب: أُقرَّ هذا القانون بتاريخ 24/11/2015 لتعديل قانون مكافحة تبييض الأموال رقم 318/2001. فقد ألغت المادة الأولى من هذا القانون المادة القديمة ووسعت نطاق الأموال غير المشروعة لتشمل 21 جريمة بدلاً من الجرائم السبع الأساسية المنصوص عليها في القانون القديم. كذلك نصت المادتان 5 و 7 على أنه يتعين على المحاسبين المجازين وكُتّاب العدل تطبيق موجبات الحيطة والحذر عند إعدادهم أو تنفيذهم عمليات تتعلق ببيع العقارات أو شرائها أو إدارة أموال العملاء أو إدارة الحسابات المصرفية وإبلاغ هيئة التحقيق الخاصة فوراً عن تفاصيل العمليات المنفّذة والتي يشتبهون بأنها تتعلق بتبييض الأموال أو تمويل الأرهاب.
نتيجة لما تقدم، لم يعُد قانون السرية المصرفية في لبنان يلعب الدور الذي وُضع لأجله، لأسباب عدة، أهمها التزام لبنان القوانين الدولية ذات الصلة، وبالتالي لم يعد لبنان يستفيد مالياً واقتصادياً من وجود السرية المصرفية التي لم تعُد السبب في جذب الودائع التي أصبحت مرتبطة أساساً بتحويلات اللبنانيين وبمستوى الفوائد المرتفع جداً نسبةً إلى الدول الأخرى. إن استمرار التمسك بقانون السرية المصرفية سيزيد من التشكيك بسلامة النظام المصرفي اللبناني وشفافيته، وسيقف عائقاً أمام محاولات الإصلاح ومحاربة الفساد، فانتشار الفساد في لبنان مرتبط إلى حد كبير بقانون السرية المصرفية الذي يقف عائقاً أمام التدقيق المالي لحسابات الأفراد والمؤسسات، في ظل الازدياد الهائل للثروات الشخصية، وبالتالي يمنع تتبُّع مصادر هذه الثروات وحركتها. وعليه يبقى الهدف الرئيسي من إبقاء هذا القانون هو حماية الأثرياء وعدم السماح بإمكانية محاسبتهم على إثرائهم غير المشروع أو تهربهم الضريبي.