أعيدوا النازحين السوريين إلى بلادهم، أو خذوهم إلى أي بلد آخر!هذا الشعار، يكاد يكون المشترك الحقيقي بين غالبية ساحقة من اللبنانيين. جذر العنصرية المعشِّش في عقول أهل بلاد الأرز ونفوسهم، يعوق التصرف بما يتوافق مع الادعاءات بالحرص على حقوق الناس وكراماتهم. حتى الذين يُغرقوننا بالمواقف الرافضة للتعرض للنازحين، وعدم إلزامهم العودة إلى بلادهم، لم يسبق لهم أن عاشوا يوماً واحداً مع عائلة سورية نازحة. ولم يقبلوا أن تستضيف قصورهم وبيوتهم التي يسكنون فيها أو التي يزورنها مرة كل عام، أي فرد من هؤلاء النازحين.
أما الحشد الكبير من الناشطين في منظمات غير حكومية تتلقى التمويل من الغرب أو من دول عربية أو مانحين، فإنهم يتصرفون مع النازحين كأنهم بئر النفط الخاص بهم. يعيشون على عذاباته. ويسرقون باسمهم نصف ما يقرر إنفاقه عليهم. وبرغم ما يبذله هؤلاء من جهود لإخفاء حقيقة الأرقام، إلا أن خلافاتهم، والأصوات المرتفعة من بعض المانحين، ستكشف لنا قريباً عن فظاعات هؤلاء، وسيكون لفضحهم والتشهير بهم جمعية جمعية، وفرداً فرداً، أفضل الأثر على موقف بات ضرورياً من كل هذه المنظمات البائسة، التي قد يكون ما فعله معها فلاديمير بوتين، هو الحل النموذجي لبقية دول العالم.

كيف لأهل هذه الأرض الاقتناع بأن قواعد
عيشهم لا تتجاوز حدود قبيلة بأفخاذ كثيرة؟


المشكلة عند اللبنانيين، ليس نفاقهم فقط. أو حالة الانتفاخ التي يعيشونها، وسلوك المتفوق على الآخرين من حولنا، بل المشكلة في كونهم يتوهمون، أن بيدهم العلاج لمشكلات سوريا. الأمر هنا لا يتعلق بالإدارة السياسية على طريقة نقل الوصفة الطائفية اللبنانية إلى سوريا. ولا يتعلق ثانياً بالوصفة الأمنية والعسكرية حيث تُوزَّع الأجهزة بحسب الولاءات الطائفية والمذهبية. ولا يتعلق ثالثاً بالوصفة الاجتماعية، حيث استراتيجية الجزر المنعزلة هي الحاكمة في لبنان.
الأنكى، أن في لبنان غالبية تعتقد أنها المؤهلة لإدارة برنامج إعادة إعمار سوريا، دولة ومؤسسات وقطاعاً خاصاً أيضاً. ويستند شعب لبنان العظيم هنا، إلى ما يعتقده خبرة ونموذجاً. وهنا الطامة الكبرى. وكأن سوريا، بكل ما فيها من مشاكل، وصعوبة في تقدير تغييرات حقيقية في آليات وبنى النظام الحاكم، كأنها تخلو من الأفكار والأشخاص القادرين على إعادة بناء البلد بما يتناسب وما هو أقرب إلى حاجات شعبه.
اللبنانيون العظماء يعتقدون أن السوريين سيضطرون إلى طلب عون اللبنانيين في إعادة الإعمار. وسنسمع من أحزاب وشخصيات وجهات دروساً ومحاضرات في كيفية بناء الدولة والمؤسسات، وقد يتطوع لبنانيون للذهاب إلى سوريا للإشراف على إدارة الانتخابات المحلية أو النيابية أو حتى الرئاسية، وبناء نظام تعليمي وصحي وخدماتي للشعب السوري. وكأن تجربة اللبنانيين خلال سبعين سنة من العهر، قد أظهرت كفاءة عالية ونجاحات غير مسبوقة في العالم.
إلا أن المسافة الفاصلة بين توقف الحرب في سوريا وإطلاق عملية الإعمار، ستشهد غلياناً لبنانياً عنوانه البحث عن موطئ رأس لا قدم في سوريا الجديدة. والجديدة هنا، لا تفترض الأفضل والأحسن بالضرورة، بل الجديدة ربطاً بكل ما فرضته الحرب من متغيرات داخلية وإقليمية وخارجية من حول البلاد المنكوبة. وفي هذه الفترة الفاصلة، سيظل بعض اللبنانيين، يعظوننا حول الأفضل لبلدينا. ويمكن بسهولة فائقة اكتشاف أن عتاة الرافضين استعادة علاقات طبيعية مع سوريا، من زعماء طوائف أو قادة قوى طائفية، إنما يرفقون موقفهم بالحديث عن النظام المجرم، وعن الفساد والسرقة والأيدي الملطخة بالدماء... ترى، ألا يهدأ هؤلاء قليلاً، ويتذكروا ماذا فعلوا بالبلاد والعباد قبل ربع قرن فقط؟
قد يكون من الصعب اليوم توقع مآل الأمور خلال عام أو عامين. لكن بدل أن نتواضع قليلاً، ترانا نستمر في رمي الأوساخ تحت السجاد ورمي الطفل مع المياه الوسخة. بينما تحصل من حولنا أحداث هائلة، ستسبب الكآبة لقسم كبير من «المتفوقين أخلاقياً» علينا، بينما لا نعرف إذا كان الجمهور سيبقى منتظراً لصندوقة الإعاشة آخر كل شهر.
إلا أن سؤالاً سيظل مطروحاً علينا: كيف لأهل هذه الأرض المسماة زوراً دولة، الاقتناع بأن قواعد عيشهم لا تتجاوز حدود قبيلة بأفخاذ كثيرة، وأن «اللبنانية» هي أقرب إلى مهنة منها إلى جنسية؟