ليل السبت، التاسع عشر من تشرين الثاني 1977، هبطت طائرة «بيونغ 707» موسومة برموز وشارات الجيش العربي المصري في مطار «بن غوريون» في تل أبيب. حدّة التوتر والترقب تبقى في تصاعد مستمر حتى الدقيقة التسعين، حينما حذّرت وزارة الأمن الإسرائيلية من أن الحديث قد يدور حول «مناورة»، وربما «عملية تفجيرية قاسية في عمق إسرائيل».
لكن عندما فُتح الباب، تبدد كل شيء، إذ ظهر الرجل الذي كان حتى تلك اللحظة واحداً من «ألدّ أعداء إسرائيل»: الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات، الذي أصبح منذ تلك اللحظة «عرّاب» التطبيع مع العدو باسم «السلام».
في اليوم التالي، يصل السادات إلى الكنيست في مدينة القدس المحتلة، وهناك يقف خلف المنصة ليلقي خطابه التاريخي: «جئتكم اليوم بقدمين ثابتتين، من أجل أن نبني حياة جديدة، ولنبني السلام». كان ذلك قبل أربعين عاماً، أي عندما كان لا يزال العداء لإسرائيل أمراً بديهياً بالنسبة إلى الدول العربية. حتى إن وزير خارجية السادات نفسه قدم استقالته قبل يومين من الزيارة، محتجاً على فعل رئيسه. اليوم، تبدلت تلك البديهيات عند البعض، وإن كان هؤلاء قد سبقوا السادات بأشواط، وقد عرّتهم الوثائق أخيراً... وصولاً إلى آخر ما كُشف عن وثيقة وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، لولي عهده، محمد بن سلمان، عن «طبختهم» للتطبيع مع إسرائيل.
خطيئة الرئيس المصري الراحل لم تنحصر في تعميم نمط «كامب ديفيد» أو التمهيد لما تلا ذلك من الاتفاقات القائمة على تقديم التنازلات من الضحية إلى الجلاد، وإنما في كونه أخرج الدولة الأكثر مركزية في قلب الأمة العربية من جبهة حاولت أن تبدو ذات يوم «موحدة» ضد العدو الإسرائيلي. كان هذا هو هدف رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، مناحيم بيغن، بالتحديد، وفق ما قاله السكرتير الحكومي، أريه ناؤور، لصحيفة «يديعوت أحرونوت»، أمس.
ففي الأسبوع المقبل، يحيي الكنيست ذكرى الزيارة التاريخية في مؤتمر تشارك فيه شخصيات إسرائيلية ومصرية، من بينهم السفير المصري لدى تل أبيب، حازم خيرت، كما تقيم حلقات حوارية عن دور الكنيست في مسار السلام ومتانة الاتفاقات الموقعة مع مصر.
الصحيفة العبرية استبقت المؤتمر لتفرد مساحة من المقابلات مع المسؤولين الإسرائيليين الذين شهدوا على تلك الزيارة. وفي حديث لعضو الكنيست ورئيس كتلة «الليكود» آنذاك، روني ميليو، يشرح الأخير أن «وصول السادات إلى إسرائيل كان مؤثراً جداً، فمصر ليست مجرد دولة، وإنما دولة خضنا معها حرباً في يوم الغفران، في حين أن القائد الذي وصل إلينا كان أهم قائد عربي... عندما أنظر إلى الصورة التي جمعت بيغن والسادات وشامير، يقشعر بدني».
يرى ميليو أن زيارة السادات هي «معيار أساسي في تاريخ إسرائيل، وخصوصاً أنه بعد انتخابه رئيساً للوزراء، كان بيغن، الذي قال الجميع إنه سيجلب الحرب، قد استضاف السادات في الكنيست، وأخيراً وقّع اتفاق السلام مع مصر».

أدركت إسرائيل أنه لمنع
جبهة عربية موحدة، يجب
إخراج مصر منها

في استقبال السادات، لم يكن هناك مسؤولون سياسيون فقط، مثل مناحيم بيغن، أو الرئيس أفرايم كتسير، وإنما أيضاً أستاذ اللغة العربية في الجامعة العبرية، مناحيم ميلسون. الأخير وجد نفسه في منصب المُلحق العسكري فجأة: «تلقيت رسالة تفيد بأنني عيّنت في هذا المنصب، لقد كانت تصرفات الجيش الإسرائيلي غير مقبولة بالنسبة إلى العرب، ولذلك اخترت تحديداً لأؤدي دوري على نحو ممتاز». هنا يستذكر ميلسون كيف حيّا السادات باللغة العربية، قائلاً إن «الرئيس المصري فوجئ بإتقاني اللغة، وصرخ شاداً على يدي: برافو».
أمّا عضو الكنيست عن «الحزب الشيوعي الإسرائيلي»، تشيرلي بيطون، فقال إنه «كان لدينا اعتقاد راسخ بأننا نشرع في عملية مهمة وجادة، من شأنها أن تقود إلى السلام بين جميع شعوب المنطقة. كانت مصر أهم شيء بالنسبة إلينا، حتى إن الجمهور الإسرائيلي عموماً كان متحمساً للفكرة».
بالعودة إلى سكرتير الحكومة آنذاك، يقول ناؤور إن «زيارة السادات لم تأتِ من السماء أو في يوم مشرق وجميل، بل حُضّر لها على نحو صارم، إذ إن الهدف لم يكن مجرد وصول الرئيس المصري إلى إسرائيل، وإنما عقد اتفاق سلام. ولذلك، كان الاستعداد يجري على قدم وساق لإظهار الود... لكن مع أهمية هذه الأجواء، فإن الغرف المغلقة هي التي حددت لاحقاً بنود اتفاق السلام».
قبل ستة أشهر من تلك الزيارة، أثار فوز بيغن في الانتخابات اضطراباً ومخاوف بشأن إمكانية «تحقيق السلام في المنطقة»، إذ إن بيغن نفسه عارض الانسحاب من قطاع غزة والضفة المحتلة على اعتبار «أنهما جزء لا يتجزأ من إسرئيل»، وقد احتج على قرار الأمم المتحدة الرقم 242 الذي طالب إسرائيل بالانسحاب من الأراضي التي احتلتها عام 1967. لكن بيغن نفسه، رغم مواقفه، تفاوض مع دول في المنطقة من أجل التوصل إلى اتفاقات تسوية.
ضمن هذا الإطار، يوضح ناؤور كيف تبدلت مواقف كل من بيغن وموشيه ديّان، إذ إنه مباشرة بعد «حرب الأيام» الستة قال ديّان: «لو خيّرت بين شرم الشيخ والسلام، لاخترت شرم الشيخ». ولكن عندما وصل السادات إلى إسرائيل، بدّل ديان موقفه، وقال: «أختار السلام»، معللاً هذا التبدل بسببين: «أولاً، فقط لأنني لست حماراً، والثاني لأن السلام، حين قلت ذلك سابقاً، لم يكن في متناول اليد».
أمّا بيغن، الذي عُرف بأنه واحد من «الصقور» الجارحة، فـ«تخلى فجأة» عن صحراء سيناء. ووفق ناؤور، فإن «عملية التفكير التي مرّ بها أشخاص مثل بيغن وديّان هي أمر مثير للاهتمام، وخصوصاً أنها أفضت إلى نتائج عملانية».
ويُعزي ناؤور سبب التغيير في مزاج حاكمي مصر وإسرائيل إلى حرب الغفران، فقد أوضحت هذه الحرب لكلا الجانبين «أننا وصلنا إلى طريق مسدود، وأنه لا يوجد قرار لا لبس فيه إبان الحروب». فمن وجهة نظر عسكرية، انتصر الجيش الإسرائيلي، ولكن من ناحية أخرى «أدركنا أن الحروب تكلف أثماناً باهظة، وأنه لا يمكن الاعتماد على المعجزات ليتحقق ذلك مرة أخرى، كما حدث في حرب الأيام الستة». ويضيف: «أصحاب القرار الإسرائيلي آنذاك أدركوا أنه لكي نمنع إقامة جبهة عربية موحدة تهدد وجود إسرائيل، علينا إخراج مصر من هذه الدائرة، ولتحقيق ذلك كان علينا فصل السادات عن الاتحاد السوفياتي ودفعه باتجاه أميركا، ثم الدفع بمبادرة للسلام... هذا ما فعله بيغن بالتحديد».
إذاً، ربط بيغن الولايات المتحدة بالعملية برمتها، هذا أمر لم يكن بسيطاً، لأن أصواتاً من داخل الحكومة الاسرائيلية نفسها عارضت ذلك، وفي مقدمهم وزير الأمن آنذاك، عازر فايتسمن، الذي رأى أن «اتفاق السلام يجب أن يكون محصوراً بين إسرائيل ومصر فقط». لكن بيغن أصرّ على إدخال الأميركيين إلى الصورة ليسجل موقفاً على الأقل إن لم يتحقق السلام. وطبقاً لناؤور، «في البداية، حاولوا إبقاء المستوطنات في سيناء، وبحثوا عن حلول كثيرة. لكن في النهاية، عندما وصل الاختيار إلى الحد بين المستوطنات أو الاتفاق، اختار بيغن السلام».
يستذكر السكرتير الحكومي صور إخلاء المستوطنات التي قدمت مشهداً «صعباً للغاية»، حيث جنود إسرائيليون مفترض أنهم يدافعون عن جمهورهم وُجدوا وهم يخلون المستوطنات، وقد أثار ذلك عاصفة من ردود الفعل الحادّة في الأوساط الإسرائيلية. وواجه بيغن ذلك قائلاً: «نقاتل اليوم من أجل السلام، نحن سعداء بتحقيق ذلك. نعم، هناك عقبات في السلام، وهناك آلام أيضاً، وضحايا من أجله... كل هذا يبقى أفضل من ضحايا الحرب»، علماً بأن تلك المستوطنات المخلاة كانت قد أقيمت على أراضٍ مصرية!