سجلت حسابات مصرف لبنان لشهر تشرين الثاني الماضي فائضاً في ميزان المدفوعات بقيمة 68.2 مليون دولار، في مقابل عجز بقيمة 887.8 مليون دولار في الشهر الذي سبقه.
هذه النتيجة خالفت كل التوقعات، وكانت بمثابة مفاجأة حقيقية لجميع المتابعين من الخبراء والمصرفيين، إذ إن الوقائع الثابتة في الشهر المذكور تفيد بأن حركة خروج الأموال من لبنان كانت أكبر بكثير من حركة دخول الأموال إليه، وبالتالي لا يوجد أدنى شك في أن الحسابات الحقيقية غير الملعوب بها تنطوي على عجز كبير أكيد، وهو ما تؤكّده تقديرات مديرية الإحصاءات في مصرف لبنان نفسه، التي أفادت بأن شهر تشرين الثاني شهد خروج ما لا يقل عن مليارَي دولار من الودائع من لبنان، بالتزامن مع طلب كثيف على الدولار، ما ساهم في تخفيض الموجودات الخارجية لمصرف لبنان (أي الموجودات بالعملات الأجنبية) بقيمة 1.6 مليار دولار إلى 41.9 مليار دولار في نهاية الشهر المذكور.
هذه الوقائع نتجت من سياق سلبي مستمر منذ عام 2011، وتعاظمت في تشرين الثاني الماضي في ظل ما عُرف بقضية «احتجاز رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري في السعودية» وإعلان استقالته من الرياض والعودة عنها في بيروت واتهام قوى محلية للسعودية بأنها تسعى الى زعزعة الاستقرار في البلاد والضغط على الحكومة عبر التأثير على الأوضاع النقدية الهشّة أصلاً.
فما الذي حصل كي ينقلب العجز الأكيد في ميزان المدفوعات الى فائض وهمي؟
للإجابة عن هذا السؤال، لا بد بداية من تعريف ميزان المدفوعات.
بحسب صندوق النقد الدولي، فإن «ميزان المدفوعات هو بيان إحصائي يلخص نتيجة المبادلات والمعاملات التي تنشأ بين المقيمين في البلد والمقيمين في الخارج خلال فترة معينة»، أو بمعنى أكثر وضوحاً، فإن ميزان المدفوعات يعبّر عن صافي الحركة المالية المتبادلة بين لبنان وبقية العالم. فإذا كانت النتيجة فائضاً، فهذا يعني زيادة موجودات البلد الصافية بالعملات الأجنبية. وإذا كانت عجزاً، فهذا يعني تراجعاً في هذه الموجودات، وبالتالي مزيداً من الضغوط على سعر صرف الليرة الثابت والمربوط بالدولار منذ تسعينيات القرن الماضي.
هذا الميزان يسجل عجزاً تراكمياً منذ عام 2011 (ما عدا في عام 2016 الذي سجل فيه فائضاً بقيمة 1.2 مليار دولار نتيجة ما عُرف باسم الهندسة المالية)، وقد بلغ هذا العجز التراكمي نحو 9.2 مليارات دولار حتى نهاية شهر تشرين الثاني الماضي (وهو آخر شهر تتوفر الإحصاءات عنه).
="" title="" class="imagecache-465img" />
للصورة المكبرة انقر هنا


ما الذي تغيّر في شهر تشرين الثاني الماضي إذاً؟ ولماذا اتهام مصرف لبنان باللعب في هذه الحسابات؟
بحسب جدول الإحصاءات الرسمية الصادر عن مصرف لبنان والذي يخص الشهر المذكور (الجدول مرفق)، ترد جملة «سحرية» في أسفل الجدول مفادها أن «صافي الموجودات الخارجية لمصرف لبنان في شهر تشرين الثاني 2017 يشمل سندات دين الجمهورية اللبنانية المصدرة بعملات أجنبية»، أي أن المصرف المركزي أدخل تعديلاً استنسابياً وانتقائياً في طريقة احتساب ميزان المدفوعات لشهر واحد من دون الأشهر الأخرى، وهو ما يعدّ «هرطقة» إحصائية.
المعروف أن وزارة المال، وبناءً على طلب مصرف لبنان، قامت في النصف الأخير من الشهر المذكور بعملية «دفترية»، إذ استبدلت سندات خزينة بالعملة اللبنانية بقيمة 2562 مليار ليرة لبنانية يحملها مصرف لبنان بما يوازيها (أي نحو 1.7 مليار دولار) من سندات خزينة جديدة بالدولار الأميركي (يوروبوندز). وكان البيان الصادر عن وزارة المال في حينه واضحاً بإشارته الى أن «هذا الاستبدال لا ينجم عنه انتقال أموال نقدية بين كل من وزارة المال ومصرف لبنان»! بمعنى أن هذه العملية لم يقابلها أي تدفقات نقدية من الخارج، وبالتالي لا يمكن في أي حال من الأحوال إدخالها في حساب ميزان المدفوعات كما هو معرّف أعلاه.
يعلّق الخبير الاقتصادي والمستشار السابق في صندوق النقد الدولي ووزارة المال، توفيق كسبار، أن «لا علاقة لسندات اليوروبوندز التي تصدرها وزارة المال بميزان المدفوعات، كما لا يمكن أن يكون لهذه السندات أي تأثير عليه، كونها مجرّد عمليّة تحويل قائمة بين وزارة المال ومصرف لبنان». يتفق المدير التنفيذي في «بلوم بنك»، فادي عسيران، مع كسبار، إذ علّق بأن احتساب حصيلة الاستبدال في ميزان المدفوعات «مش صحيح بالمبدأ!».
كذلك يتفق رئيس قسم البحوث والدراسات في مجموعة «بيبلوس بنك»، نسيب غبريل، مع كسبار وعسيران، إذ يشرح أن «كلّ عمليّة تبادل لم تدخل إلى السوق لا يمكن احتسابها في ميزان المدفوعات، وهو ما يمكن تطبيقه على الإصدار الأخير لوزارة المال»، ويتابع غبريل «هناك منهجيّة رسميّة وواضحة ترتكز على معايير دوليّة لاحتساب ميزان المدفوعات، وبالتالي لا يمكن زيادة أو حسم مبالغ معيّنة وفق الأهواء أو الظروف. ولكن لا يمكن لأحد أن يعلّق على صحّة هذا الإجراء سوى مصرف لبنان نفسه»، وينهي غبريل «في الواقع، لم أطلع على البيان، وبالتالي يجب سؤال المعنيين عن كيفيّة احتساب الأرقام، والتأكّد من إدخال عمليّة التبادل التي تمّت مع وزارة المال ضمن ميزان المدفوعات».

شهد تشرين الثاني خروج
ما لا يقل عن مليارَي دولار
من الودائع من لبنان



بالفعل، حاولت «الاخبار» استيضاح مصرف لبنان عن سبب هذا التعديل في احتساب ميزان المدفوعات في شهر تشرين الثاني الماضي والأساس المنهجي الذي يقوم عليه، إلا أن مدير العمليّات الماليّة في مصرف لبنان، يوسف الخليل، رفض التعليق في اتصال مع «الأخبار»، مشيراً إلى أن «هذا الأمر لا يدخل ضمن صلاحياته، بل يندرج ضمن اختصاص مديريّة الدراسات الاقتصاديّة والإحصاءات في مصرف لبنان التي يمكنكم التوجّه إليها بالسؤال». إلا أن هذه المديرية، بلسان ربيع تيموتاوس، أجابت بأنها «غير ملزمة بالإجابة أو التوضيح كون أرقام شهر تشرين الثاني لم تنشر بعد على موقع مصرف لبنان، ولا يوجد ما يؤكّد أن الأرقام التي بحوزتكم صادرة عنّا»!
هذه الأجوبة من المعنيين في مصرف لبنان تدلّ على إرباك واضح، وعجز عن التبرير والتفسير، إلا أن ما صدر عن تيموتاوس يوحي بأن حجم الفضيحة كبير جداً الى درجة أن مصرف لبنان قد يكون بصدد التراجع عن فعلته وإعادة الأمور الى نصابها واحترام الإحصاءات الصادرة عنه وشفافيتها ودقتها.