لن يكتفي الأميركيون بعدم الانسحاب من شرق الفرات حيث يعدون للبقاء لسنين خلف حرس الحدود العشائري العربي والأكراد بحجة حماية المنطقة من عودة «داعش» المحتملة، والحفاظ على ما أصبح الحدود مع تركيا وسوريا على ما قالته، الرئيسة المشتركة للهيئة التنفيذية (الكردية) لإقليم شمال سوريا فوزة اليوسف.الأميركيون يعدّون لعملية أوسع في شمال غرب سوريا، على ما تقوله معلومات من المعارضة السورية في المنطقة.

وبحسب هذه المعلومات، يعمل «البنتاغون» على دفع قوات من جماعتي «فيلق الشام» و«الفرقة الساحلية الأولى» إلى إعادة إشعال جبهة أرياف اللاذقية إلى الغرب من جسر الشغور. وهي جبهات استكمل الجيش السوري الانتشار فيها وطرد المجموعات المسلحة من معاقلها الجبلية الأمنع قبل عامين في دورين وسلمى، وعلى طول الجزء الأكبر من الشريط الحدودي مع تركيا. العملية جرت في سياق تعزيز الطوق الجبلي لقاعدة حميميم الروسية وإبعادها عن مدى صواريخ المجموعات المسلحة، وتأمين البيئة المحيطة بالعملية الروسية والاندفاع نحو الشريط الحدودي، وتحصين الساحل السوري من أيّ اختراق معاد.
وكان «فيلق الشام»، وهو أحد أذرع «الإخوان المسلمين» في سوريا، قد تلقّى في الأشهر الاخيرة المزيد من الأسلحة الأميركية من عربات مدرعة من طراز «بانتر بي ٩»، التي أظهرت فعالية كبيرة في المعارك الأخيرة في أرياف حماه وحلب وادلب.
وكان يجري تجميع هذه العربات في الإمارات قبل أن يزود بها «البنتاغون» مجموعاته في إدلب. وتقول مصادر في المعارضة السورية في أوروبا، إن «الفيلق» لعب دوراً كبيراً في الهجوم بطائرات مسيرة عن بعد، وبالصواريخ، على قاعدة حميميم الروسية. والأرجح أن العملية التي يجري الإعداد لها تستهدف مواصلة تشتيت وإنهاك القوات السورية في ذروة عملية قضم تدريجي لإدلب واستعادة مطار أبو الضهور الاستراتيجي. وتندرج العملية أيضاً في محاولة الاقتراب مجدداً من الطوق الجبلي الذي يحيط بقاعدة حميميم لوضعها في مدى صواريخها، وتحدي الروس في «عقر دارهم»، فيما تنشغل موسكو في الإعداد لمؤتمر سوتشي الذي سيكرّس سيطرتها على العملية السياسية في سوريا.
فالروس لا يزالون يحجمون عن اتهام واشنطن صراحة بالوقوف وراء العملية بعد تبرئتهم للأتراك، لتفادي تحمل تبعات الاتهام سياسياً وعسكرياً. كذلك لم يتوقف «البنتاغون» عن محاولات تخريب أي تفاهم دبلوماسي أميركي ــ روسي، ولا سيما ما عرف باتفاق جون كيري - سيرغي لافروف (قصف مواقع الجيش السوري في جبل الثردة في دير الزور وتسهيل تقدم داعش لمحاصرة مطار المدينة وشق أحيائها في أيلول من عام ٢٠١٦ مثال على ذلك)، لتُدفن محاولة الإدارة الأميركية السابقة في التفاهم مع الروس حول صيغة مقبولة للحل في سوريا، وهو ما عدّه العسكريون الأميركيون إمعاناً في السياسة الانسحابية لباراك أوباما من المنطقة، بعد إبرام الاتفاق النووي الإيراني.
الميدان يرسم السياسة الأميركية في سوريا تدريجاً، وتتأقلم وفق الهدف الرئيسي لها باحتواء إيران أولاً، ومنع الروس من الانفراد بتوزيع النفوذ والحل السياسي.
هذه البديهة تعزّزت مع قرار الاستمرار بالتدخل في سوريا، بل والتوسع من الشرق نحو الشمال وحيث أمكن. وهذا ما يجعل نسبياً جدّاً ما قاله ناطق باسم «التحالف الدولي» ريان ديلون أمس من أن «منطقة عفرين ليست من أولويات التحالف الدولي، وأنه غير معنيّ بمكافحة «داعش» في المناطق الشمالية الغربية لحلب».
استعادة الزبائن القدماء لبرنامج «البنتاغون» التسلحي والتدريبي لم يتوقف، خصوصاً أن عملية في ريف اللاذقية المفترضة ستؤدي إلى توسيع الحزام الذي تسيطر عليه القوات الأميركية في سوريا، من الشرق إلى الشمال، ومنه إلى اختراق الغرب وتشكيل حزام يحيط بجزء كبير من حدود سوريا مع العراق وتركيا، والاستحواذ على موارد الطاقة والمياه والزراعة التي تشكّل أكثر من نصف الموارد التي تحتاجها سوريا، لتمويل إعادة الاعمار.
هدف آخر للاستشراس الأميركي لتخريب أستانا وسوتشي هو عرقلة التعاون المتزايد بين موسكو وأنقرة الذي سيمنحه نجاح المسار دفعاً كبيراً إلى الأمام ليصبح شراكة استراتيجية بينهما. واشنطن تخشى الانزياح التركي المتزايد باتجاه الشرق، رغم أنها تتحمّل والاتحاد الأوروبي مسؤولية كبيرة عن هذا الانزياح. ويزيد من مخاوفها إدراكها حجم التحولات على بنية الائتلاف الحاكم في تركيا.
منظوراً إليها أميركياً وغربياً، يبدو مشهد العلاقات ــ التركية الروسية راهناً بمثابة زلزال جيواستراتيجي هائل. وعودة سريعة إلى الوراء، أيام كانت تسمى فيه السلطنة العثمانية «الرجل المريض»، قامت سياسة بريطانيا العظمى آنذاك على إطالة عمر السلطنة لأنها تشكّل حاجزاً أمام تمدد روسيا القيصرية إلى المياه الدافئة. وخلال النصف الثاني من القرن العشرين، ظلت تركيا حاجزاً أمام روسيا السوفياتية وأضحت قلعة «الناتو» إزاءها. وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي، احتلت موقعاً مميّزاً كشريك للولايات المتحدة في محاربة الإرهاب، وكنموذج معتدل يحتذى به بين دول العالم الاسلامي، نجح بالمزاوجة بين الإسلام والديمقراطية، روّج له برنار لويس وبول وولفوفيتز.
السياق بات شديد الاختلاف راهناً. النفوذ الأميركي تراجع في الشرق الأوسط، وتركيا أضحت قوة إقليمية صاعدة تسعى للحصول على اعتراف بدورها وعلاقات ندية مع الدول الغربية. وهو تطلّع يلقى آذاناً صاغية في موسكو فيما لم يجد سوى الازدراء في واشنطن. أما بالنسبة إلى العلاقات الأوروبية التركية، فقد شكّلت زيارة الرئيس رجب طيب أردوغان لباريس ساعة الحقيقة. فقد تبلغ رفضاً رئاسياً فرنسياً صريحاً لضم أوروبا يوماً ما تركيا. إذ لم يتردد الرئيس إيمانويل ماكرون بالقول في المؤتمر الصحافي المشترك «إن الوضع التركي لا يسمح بنتيجة في السنوات القادمة. علينا أن نرى إذا ما كان ممكناً إعادة صياغة هذه العلاقة ليس في إطار الاندماج الأوروبي، بل في إطار التعاون والشراكة». سمع وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو كلاماً مشابهاً في برلين من نظيره سيغمار غابرييل. الرسالة واضحة لا لبس فيها: لا مكان لتركيا في أوروبا.
وعلى العكس مما توقعته غالبية المحللين الغربيين، لم يحدث هذا الموقف الأوروبي فجيعة في أنقرة. لم تشهد تركيا بكائيات الماضي عن تبدد قدرها الأوروبي هباء. إذ اعتبرت افتتاحيات الصحف المؤيدة لحكومة العدالة والتنمية، أن الوقت قد حان لطيّ صفحة الانتظار الطويل أمام أبواب الاتحاد الأوروبي، ومسلسل تلبية شروط مجحفة لم تسعفها في النهاية بانتزاع مقعد في أوروبا وإعادة صياغة علاقاتها معها على قاعدة براغماتية رصينة. منذ ذلك الحين ينحو الأتراك إلى التوجه شرقاً. هذا الانزياح تعززه التحولات التي طرأت على بنية الائتلاف الحاكم. وعلى العكس من التحليلات الرائجة عن تجانس الطبيعة الإسلامية للحكم التركي، انضم إلى الائتلاف مجموعة من الحرس القومي القديم، الأتاتوركية التوجه والمحسوبة على الدولة العميقة السابقة، ولا سيما الاستخبارات العسكرية. ترى هذه المجموعة أن وحدة تركيا واستقلالها مهددان، وأن صيانة سيادة تركيا ومصالحها الحيوية تفرض عليها التحالف مع قوى آسيوية صاعدة كالصين وروسيا. وفي هذا السبيل، لعبت هذه المجموعة دوراً مهماً في إفشال انقلاب تموز من عام ٢٠١٦. أحدثت هذه التطورات تغييراً في بنية النظام تجعل من الصدام مع حليف الأمس الأميركي حتمياً، خصوصاً في ظل إدارة الرئيس دونالد ترامب الذي حددت عقيدته الاستراتيجية للأمن القومي، أصدقاء تركيا، أعداء العقود المقبلة للولايات المتحدة من الصين وروسيا فإيران. إن ما لم تقله هذه العقيدة الجديدة، والذي يلمسه الأتراك، أن سوريا قد أصبحت ساحة المواجهة ليس مع إيران وروسيا فحسب، بل مع تركيا أيضاً.