ضاعفت المبادرة الجديدة للجامعة العربية، وردّ الفعل السلبي السوري عليها، الصورة القائمة لتفاقم الأزمة في المرحلة القريبة، من دون أن توحي المبادرة سلفاً بأن آليتها تقود حتماً إلى التسوية، ومن دون التيقّن كذلك من مقدرة النظام السوري على فرض حلّ داخلي بينه وبين خصومه يوقف الانهيار على أبواب الشهر الحادي عشر. إلا أن رفض مبادرة الجامعة، والحجج التي ساقها وزير الخارجية وليد المعلم، حملت دمشق على تحديد خياراتها الآنية في أحسن الأحوال: أولها، رفضها العمود الفقري للتسوية التي اقترحتها الجامعة، وهو تفويض الرئيس بشّار الأسد صلاحياته إلى نائبه لإدارة مرحلة انتقالية تؤول إلى تفكيك النظام برمته. وهو رفض لا يقتصر على تمسّك القيادة السورية ببقاء الرئيس في منصبه حتى عام 2014، وهو موعد انتهاء ولايته، بل هو أيضاً تأكيد لمرجعية الرئيس في وضع التسوية والإشراف على مراحلها كاملة. لا تسوية بلا الأسد.
لكن لا تسوية أيضاً بلا حزب البعث الذي لا يزال يمسك بمعظم مفاصل السلطة في الحكومة ومجلس الشعب والجبهة الوطنية التقدّمية، وفي الجيش والأمن والإدارة، ويدخل دوره في صلب الدستور النافذ. وهو بذلك شريك رئيسي في التسوية التي يقتضي أن تؤول إلى أوسع تقليص لنفوذه.
ولعلّ في هذا الجانب يكمن مغزى ما كان قد ردّده مسؤولون سوريون كبار لزائريهم اللبنانيين على مرّ مراحل الأزمة حتى الأمس القريب، وهو أن لا حوار وطنياً ولا تسوية إلا تحت سقف النظام الذي يعني أولاً وأخيراً مرجعية الرئيس وشراكة الحزب.
بيد أن النظام، في المقابل، لم يعترف حتى الآن بحصول انقسام وطني في البلاد لم يخلُ من نعرات مذهبية قابلة للاشتعال، وبنزاع مفتوح بين السلطة ومعارضيها. لم يعترف خصوصاً إلا بجزء من المعارضة في الداخل، ولا ينظر إلى الفريق الآخر منها في الداخل والخارج سوى أدوات في أيدي دول. قاد ذلك الرئيس السوري إلى التحدّث عن حكومة موسعة لا عن حكومة وحدة وطنية، وتكلم على مستقلين لا على معارضين.
بذلك يثابر النظام على رفض أي تعديل لتوازن القوى في السلطة منذ اقترحت عليه تركيا، في منتصف الأزمة وقبل انقطاع اتصالها بدمشق، ضم الإخوان المسلمين إلى حكومة يتقاسمونها مع الموالين. ليس كل هؤلاء المعارضين مصدر الأزمة، بل وجود مسلحين يقوّضون الاستقرار.
ثانيها، جعلت دمشق الحلّ الأمني صنو الحلّ السياسي. ومع أنها لم تتخلَّ عن الأول في أيٍّ من مراحل أزمتها منذ انفجارها، إلا أن إعلان الرئيس السوري في خطاب 10 كانون الثاني التمسّك بهذا الخيار، قبل أقل من أسبوعين على اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة، ثم إعادة المعلم تأكيده غداة الاجتماع، يعكسان تشبّث النظام بأولوية الجانب الأمني في المعالجة على الجانب السياسي، الموزّع بين الكشف عن رزم إصلاحات واجتماعات تعقدها لجنة تعديل الدستور وعقد حوار وطني وإبداء الاستعداد لتأليف حكومة جديدة بشروط النظام.
برّر ذلك إبطاء حركة الإصلاحات من جرّاء تأخر الحسم الأمني الذي يبدو يوماً بعد آخر أنه يصبح أكثر تعذّراً.
ورغم تسلّح النظام بحجّة مفادها أنه لا يزال قادراً على منع انزلاق الأحداث المتسارعة، وأخصّها الشقّ الأمني، إلى حرب أهلية من خلال الدور الذي يضطلع به الجيش، وهو حؤوله في مناطق تماس تجمّعات مذهبية دون احتكاكها المباشر ودون خوضها وجهاً لوجه نزاعاً أهلياً على الطريقة اللبنانية، مثّلت هذه الحجّة واحداً من بضعة مؤشرات تكوّنت لدى القيادة عن حالات فرار في المؤسسة العسكرية، العقائدية والمتماسكة.
بعث الاطمئنان في الرئيس السوري ما كان يحدّثه عنه ضبّاط كبار في الأركان والعمليات والاستخبارات، عندما كان يناقشهم في مهاجمة منطقة مذهبية حسّاسة كحماه وحمص لضرب المسلحين من دون أن يُخلّف ذلك ردود فعل مذهبية خطيرة. راح هؤلاء يجيبونه بأن الجيش السوري هو «جيش البعث وليس جيش الطوائف».
كانت قد وقعت اعتداءات أثارت قلقاً عميقاً عندما هوجم علويون عبروا في حمص فقتلهم مسلحون سنّة. سرعان ما أدّى ذلك إلى ردّ فعل علوي استنفر العشائر، فكَمَنَ مسلحون علويون لسنّة وقتلوهم انتقاماً. وقع بعض المسيحيين ضحية هذا الاقتتال. تحت وطأة هذا التهديد، يحاول الجيش أن لا يكتفي بالفصل بين طرفين متنازعين، بل ضرب المسلحين المناوئين للنظام بقسوة.
ثالثها، يشير تمسّك النظام بالحلّ الأمني إلى ثقته بالأداة التي يستخدمها لفرض هذا الحلّ، وهي الجيش وأجهزة الاستخبارات التي لا تزال تحافظ على حدود قصوى من التماسك والولاء للرئيس. ورغم حالات انشقاق يعترف بها، إلا أن هذه لم تنجح في إضعاف الآلة العسكرية السورية.
لم يتمكّن المنشقون من اتخاذ مقرّ قيادة لهم في البلاد، في حين أنهم يستمدون الأوامر التي يتلقونها من الحدود التركية ـــــ السورية التي يتمركز فيها القائد المفترض لـ«الجيش السوري الحرّ» العقيد رياض الأسعد. يتحرّك المنشقون، بالأسلحة التي يفرّون بها، على غرار ميليشيات صغيرة قليلة الخبرة، تفتقر إلى قيادة وهرمية وتنسيق عملياتها ونيرانها وإلى أسلحة ثقيلة. وهي بذلك على صورة التنظيم المسلح للإخوان المسلمين من دون امتلاك تنظيمهم ومراسهم وبأسهم.
لا يزال الجيش واستخباراته قادرين على التحرّك في كل الأراضي السورية. وهو إذ انسحب من بعض القرى التي سيطر عليها المسلحون والمنشقون، بيد أنه يحاصرها بإحكام، ويمنع اتصالها بمناطق أخرى للحؤول دون اتساع بقعة الزيت التي تفقد النظام سيطرته تدريجاً على البلاد.
رابعها، ينسجم إصرار النظام على مهمة المراقبين العرب مع تشديده على الشقّ الأمني في الأزمة الذي أنكره عليه العرب والغرب، ودَحَضَا طوال أشهر فكرة المؤامرة التي ساقها. بيد أن التقرير الثاني للمراقبين أعطى الرئيس السوري، إلى الآن على الأقل، صدقية ما كان قد ردّده في الأشهر الأخيرة، وهو وجود مسلحين يستهدفون الجيش والسكان والمنشآت. سرعان ما وثّقه تقرير المراقبين، ومنح الأسد مبّرراً إضافياً كي يثابر على ضرب معارضيه المسلحين، ويفصل بينهم وبين بعض المعارضين الآخرين الذين يدعوهم إلى حوار وطني.