عند باب الكنيسة المريمية التي تتوسط حارات الشام القديمة، كانت تنتظرنا بشعرها الفضي ونظاراتها الطبية التي لم تستطع حجب الشغف المشعّ من عينيها الزرقاوتين، ابتسمت، وبلهجة فلسطينية ملونة بتكسيرات أجنبية زادتها لطافة قالت "مرحبا، أنا هايكا تفضلوا البيت قريب من هون". سارت هايكا فايبر أمامنا مسرعة كطفلة تحفظ الحارات وتعرف ساكنيها، كانت توزع السلامات على جيرانها، فيرد أهل الحي السلام، فهي صانعة الجمال كما يحبون توصيفها. أخرجت من جيبها ساقط الباب (مفتاح الباب الرئيسي للبيوت العربية القديمة)، وفتحت الباب الخشبي العتيق، فأطل أمامنا "الدهليز"، سرداب طويل، تخيّم عليه ظلمة تخترقها الشمس من فتحات جانبية، ويصل إلى "أرض الديار" (ساحة البيت) الذي تتوسطه البحرة، وتترامى على أطرافه غرف المنزل وأقسامه المختلفة، عبرنا "أرض الديار" المزينة كباقي المنزل بمشغولات من التطريز الفلسطيني القديم، ما زاد بيتها الشامي سحراً وألقاً من نوع آخر.
قادتنا إلى "الليوان أو الإيوان" أحد أبرز عناصر البيت الدمشقي الذي ينفتح مباشرة على الباحة السماوية، ويرتفع حوالى 50 سم عنها، يعتليه قوس كبير، وهناك جلستْ. كانت ترتدي ثوباً أزرق، نُقشت عليه أبيات قصيدة بحروف عربيّة، جُمعت بترتيب يرسم خريطة فلسطين، وعنه قالت هايكا (70 عاماً) "هذه قصيدة لا أعرف من كتبها، لكنني سمعت الفنانة الفلسطينية الراحلة ريم البنا تغنيها، وتقول فيها ′عناة يا أمي يا مرجة الأقحوان′، أعجبتني، فقمت بتطريزها بالخط العربي على شكل خريطة فلسطين، وعناة هي آلهة الصيد والحرب لدى الكنعانيين، سكان فلسطين في العصر القديم".
تعرّف السيدة هايكا عن نفسها، بأنها ألمانية الأصل، "أمي وأبي ألمانيان، لكنني عشت المدة الأطول من حياتي هنا، وكانت علاقتي قوية جداً مع الفلسطينيّين، فقد كنت متزوجة من فلسطيني، فأنا جزء مني ألماني، وجزء فلسطيني، وآخر سوري، ولا أعرف أي الأجزاء يغلب على البقية، لكن ليس من الضروري أن يوصف الإنسان نفسه بمنطقة معينة".

من برلين الغربية إلى فلسطين
في عام 1967، كانت هايكا تبلغ السادسة عشرة من عمرها، لم تعرف حينها حقيقة ما يجري في المنطقة العربية، حيث كانت الدعاية الإسرائيلية تزيف كل الحقائق، تقول "هنا الأطفال ترضع السياسة مع حليب أمهاتهم، وأنا أنحدر من برلين الغربية، كان لدينا وقتها اهتمام بالسياسة بسبب المشكلات السياسية بين شقَّي البلاد الغربية والشرقية".
تستذكر هايكا الدعاية التي كانت رائجة في ألمانيا الغربية في تلك الفترة، ومدى تأثيرها على أبناء جيلها، "أدخلتنا مديرة مدرستنا إلى صالة العرض، وجعلتنا نستمع إلى الراديو الذي كان يروّج للرواية الإسرائيلية، بأن إسرائيل لها حق الوجود في فلسطين، وأن العرب سيأتون لرمي اليهود في البحر. كان الشباب بعمري متحمّسين للذهاب إلى إسرائيل، للقتال إلى جانب اليهود، إلا أنني لم أتدخل كثيراً بهذا الموضوع".
مع بدء نشاط الحركة الطلابية في برلين الغربية، انخرطت هايكا فيها، وبدأت ترى الأمور من منظور آخر، فأصبحت ترى ليلى خالد رمزاً للأنثى المقاتلة، وخلال التظاهرات في شوارع برلين، كانت تحمل هي ورفاقها صور هوشي منه، وجيفارا وليلى خالد، وبدؤوا يقرؤون عن فلسطين، "أدركنا أن الأمر ليس كما أخبرونا عنه، ومن وقتها بدأت أهتم بأمور العرب والفلسطينيين بشكل خاص، لمعرفة حقيقة ما يجري في تلك المنطقة من العالم".
درست هايكا الأدب المقارن، إضافة إلى العلوم الموسيقية، وخلال انخراطها مع الحركة الطلابية في برلين الغربية، تعرفت إلى المخرج السينمائي الفلسطيني جبريل عوض أحد كوادر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وصاحب فيلم "برلين المصيدة"، وتزوجا فيما بعد.

لقاء بيروت الأول والحياة داخل الحصار
رافقت هايكا زوجها إلى لبنان لإعداد فيلم "صباح الخير يا بيروت"، تتذكر لحظاتها الأولى في تلك العاصمة العربية، "وصلنا إلى لبنان في الشهر الرابع من عام 1982 وكانت الحرب قائمة والأوضاع متوترة، والجو بارد جداً، وشعرت أنه أبرد من طقس ألمانيا! كنت متحمّسة لأرى ماذا يحدث، حيث تم قصف مطار بيروت لحظة خروجنا منه، فيما اندلعت الاشتباكات قبيل أحداث جونية، وكذلك قصف سوق الفاكهاني، خلال وجودنا فيه، وبدأنا نركض هرباً، أنا لم أكن أعرف بيروت قبل الحرب".
في ظل هذه الظروف استطاعت هايكا وزوجها تصوير أماكن الدمار وإجراء المقابلات مع الناس، لكنها اضطرت للعودة إلى ألمانيا، لتأمين المواد الفيليمة لإكمال التصوير، بعد أن أصبحت مفقودة في بيروت، عادت وأكملا العمل على فيلمهما.
لم تستطع هايكا وزوجها ترك أهالي بيروت المحاصرين، فبدآ عرض أفلام في الملاجئ، خاصة داخل المخيمات الفلسطينية التي أنهكها القصف الإسرائيلي، "في الحقيقة كان بحوزتنا فيلم واحد، روسي عن الحرب العالمية الثانية، كانت أحداثه مشابهة لما يحدث في بيروت، كانت الطائرات الإسرائيلية تحوم فوقنا، والصغار يتجمعون حولنا، أما الكبار فكانوا أكثر حذراً، واقترحنا على الأطفال عرض أفلام كرتونية لهم في المرة القادمة، لكنهم رفضوا ذلك، لأنهم يريدون مشاهدة أفلام تحاكي أحداثاً حقيقة من الواقع".

صدمة الخروج من بيروت
"لم أكن أتوقع أن الرفاق سيفعلون ذلك" بهذه الكلمات تصف هايكا مغادرة التنظيمات الفلسطينية للبنان، وتضيف: "قالوا إنهم يخرجون لأن اللبنانيين طلبوا ذلك"، لافتةً إلى أن تصرفات بعض التنظيمات الفلسطينية في لبنان، وانخراطها في الحرب الأهلية، دفعت بعض اللبنانيين إلى الشعور بأن الفلسطينيين يحتلون بلدهم، وهذه الأخطاء هي التي أدت إلى خروجهم.
الأخطاء ذاتها التي وقعت بها بعض التنظيمات الفلسطينية في الأردن وخلال أحداث أيلول الأسود تكرّرت في لبنان، إلا أن الوضع في الأردن مختلف عن لبنان بحسب هايكا التي تقول: "الفلسطينيون في الأردن كانوا يشكلون الغالبية، حتى قبل عام 1967، وبالتالي يعتبرون الأردن بلدهم، وخاصة أن الأردنيين قريبون جداً من الفلسطينيين بالعادات والتقاليد والقرابة، أما لبنان كان يعاني من توترات قبل قدوم التنظيمات الفلسطينية ومع مجيئهم ازداد الوضع سوءاً".
تتنهد هايكا مقلبة كفيها، تنظر بعيداً وتتابع حديثها عن تلك المرحلة التي عاشتها الثورة الفلسطينية "أعتبر المنطقة كلها بلداً واحدة، هي بلاد الشام، لكن كان للاحتلال الفرنسي تأثير أكبر على لبنان، أصبح بعض اللبنانيين يعتبرون أنفسهم فرنسيين أو فينيقيين، وأنهم أعلى مستوى من العرب، كان على المرء أن يتصرف عندهم بحذر أكثر حتى لو كانوا مجموعة قليلة".
غادرت هايكا وزوجها بيروت إلى مدينة طرطوس السورية، على متن سفينة كانت تقلُّ اليساريين الذين ينتمون إلى المقاومة الفلسطينية، وفي مقدمتهم الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين جورج حبش، والأمين العام للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين نايف حواتمه، حاصرت البوارج الأميركية السفينة التي تقلهم من اليمين واليسار حتى وصولها إلى المياه السورية، تصف هايكا تلك اللحظات، بعدما ارتسمت معالم الخيبة على وجهها "كان الوضع حزيناً جداً، ونحن نرى حجم بيروت يصغر ونحن نبتعد عنها".
استغربت الألمانية اليسارية المناصرة للفلسطينيين من المشهد الذي رأته لحظة نزولها ميناء طرطوس، أناس كثر، وأعلام ورايات وهتافات تُرحب بالأبطال القادمين من ساحة المواجهة مع العدو الصهيوني، تضيف "لم نكن مسرورين بالقدوم إلى سوريا، كنا نود البقاء في بيروت، بعد ما شهدناه من أحداث ومجازر، ومدى الألم الذي يعيشه اللبنانيون والفلسطينيون، ولكن بعدما عايشت الشعب السوري، ورأيت ثقافتهم، أحببتهم كثيراً".
استقرت هايكا، داخل حي التضامن على أطراف مخيم اليرموك جنوبي العاصمة السورية، "على مر السنين ازداد عدد ساكني المخيم من السوريين، كان يضم الكثير من الثوريين والمثقفين والفنانين من السوريين والفلسطينيين، ثم قدم التجار وازداد الاختلاط فيه، إلا أنه بقي محافظاً على طابعه الفلسطيني حتى اندلاع الحرب في سوريا التي قلبت الأمور رأساً على عقب".

من الحصار إلى التطريز
اتجهت هايكا بعد استقرارها في سوريا إلى تعلّم التطريز الفلسطيني الذي برعت فيه والدة زوجها، ونقلت عنها أسرار ذلك الفن، بل ذهبت إلى البحث في دلائل وأصول كل تطريزة ورسمة من الجانب الميثولوجي، "لست ربة منزل فقط، قررت أن أقيم دورات للأشغال اليدوية للنساء، فقد كان لدي هدفان الأول تعلم اللغة بشكل أفضل، والثاني التقرب أكثر من النساء هنا والاحتكاك بهن أكثر".
مارست هايكا الأشغال اليدوية منذ الرابعة من عمرها في بيت أمها وأبيها بألمانيا، فجيلها والأجيال السابقة كان يتوجب عليهم تعلم الأشغال، تقول: "لم أكن أحبها جداً، لكنني كنت أساعد جدتي في العمل، لذلك أعرف خطوات صنعها، لكن عندما رأيت التطريز الفلسطيني، ومن ثم السوري، فكّرت بالعمق الذي يحمله هذا الفن، وأنه ليس فقط ديكوراً وتزييناً، فبدأت أبحث عن هذا الموضوع، عن أصل التطريز، وتفسير أشكال النقوش والرموز وما عمرها، وما هي الأفكار التي توحي بها هذه النقوش؟".

"بنورة" والخطوات الأولى في التطريز
ألقت أثواب بنورة (والدة زوج هايكا) المطرزة وشخصيتها القوية بسحرها في قلب هايكا، الأمر الذي دفعها إلى مجالستها ومحاولة التعلم منها، تصفها بالمعلمة الماهرة جداً، "عندما تعرفت إليها أخذت نماذج من عملها، حاولت أن أطرز ′قبة′ كما تفعل هي، وعندما انتهيت عرضتها عليها، فقالت لي لا بأس بها إن استمررتِ بالتعلّم سيتحسّن عملك، صدمني جوابها وسألتها ما الذي لم يعجبك بها؟ فأخبرتني أنه جميل، لكنه يختلف عن طريقتهم في التطريز، وبدأت تلاحظ الاختلافات في أدق التفاصيل، مؤكدة أنه لا بد من اتباع قوانين هذا التطريز، لم يكن تطريزي مقروءاً بالنسبة إلى امرأة مثل بنورة بارعة جداً في التطريز".
ترى هايكا أن عملها الأول في التطريز كان أشبه بمن يقلد الخط العربي، فإن رآه شخص ليس عربياً، سيقول إنه خط عربي، لكن عند عرضه على ابن المنطقة العربية، سيجده غير دقيق ويختلف عن الخط الصحيح، والأمر ذاته حصل معها حين حاولت التطريز بالتقليد من دون استيعاب القوانين، تقول "الأمر الغريب أن هذه القوانين موجودة في داخل هؤلاء النسوة لكنها لم تكتب من قبل، هنّ فلاحات، بعضهن لا يتقن القراءة ولا الكتابة، ولا يتحدثن عن هذه القواعد، إلا أنها مغروسة في ذهنهن من دون أن يعرفن".
توفيت "بنورة" خلال رحلة بحث هايكا، إلا أن الأخيرة لم تتوقف وتابعت لتنجز أول قطعة متقنة لها وكانت "لوحة العرس"، وهي معروفة عند الفلسطينيين، وموجودة في بيوت الفلسطينيين، "العرس كلوحة تعبر عن الرقص الفلكلوري والأكل والملابس، والعروس التي ترتدي العباءة فوق الفرس وطقوس حمّام العريس، شعرت أن هذه الأشياء هي لبّ الروح الفلسطينية".

أسرار وميثولوجيا التطريز
بدأت هايكا رحلتها في البحث عن التطريز كفنّ متوارث لدى سكان المنطقة لفهمه واستيعابه من أجل العمل به، تقول "لا يكفي أن أقلد فقط، كان عليّ الفهم جيداً، كنت أستغرب من النساء، بعضهن لديهن الكثير من المهام اليومية مع 10 أو 11 طفلاً، ومع ذلك كنّ يجدن الوقت لممارسة هذا الفن الدقيق، إنها رغبة روحية، وليس فقط للتزيين، فبدأت أقرأ في الميثولوجيا لأتعرف على أسماء التطريزات".
"نقشة القمر لا تشبه القمر أبداً!" تصف هايكا نقشة القمر في التطريز، والتي تعتبر أحد العناصر الأساسية في هذا الفن، وتضيف "كانت عبارة عن صليبين فوق بعضهما، وعليهما مربع، إلا أن القمر لا يبدو هكذا!، فلم أفهم ما علاقة هذا الشكل الغريب بالقمر، لكن بعد البحث اكتشفت أنهم يقصدون بالقمر، أم الآلهة، وأن الصليبين يرمزان للخالق باللغة السومريّة"، تشرح هايكا أن التطريز في بلاد الشام يرتكز بشكل أساسي على تطريزة القمر، في دلالة على تمحور وارتباط حياة الإنسان القديم بحركة القمر، سواء بتوالي الليل والنهار، أو بتعاقب مواسم الزراعة والأعياد.
وخلال بحثها عن أصول التطريز، اكتشفت هايكا دلالات نقوش أو قطب التطريز المنتشرة في سوريا وفلسطين، مثل نقشة المثلث التي تدل على ثالوث (الولادة والحياة والموت) والتي رسمت على عرش الآلهة عشتار قبل آلاف السنين، وجسّدت لدى الفراعنة في الكثير من آثارهم، وكذلك نقشة الدرج التي تدل على إعادة الحياة والبعث من الموت، ووجدت محفورة على القبور في البتراء منذ آلاف السنين دلالة على إيمانهم بالبعث بعد الموت وخروج الميت عبر الدرج والعودة إلى الحياة. وتشير هايكا إلى أن النقوش والرموز المستخدمة في التطريز رسمت أيضاً على جدران الكهوف في الغرب، معللة ذلك بالقول "البشر كانت لهم النظرة ذاتها للعالم، والإنسان تميز عن الحيوان بقدرته على التعبير عن أفكاره التي استطاع أن يصورها تصويراً كاملاً، وهكذا تطورت اللغة والرموز".
تمكنت هايكا خلال فترة وجيزة من فهم الكثير من قواعد التطريز الثابتة وأصول النقشات المختلفة وأصل تسميتها، تقول "أصبح الآن التطريز متطوراً وأدخلوا عليه نقشات حديثة تواكب الموضة، لكن إذا نظرنا إلى التطريز في القرن العشرين والتاسع عشر، لن نجد ثوبين مثل بعضهما البعض، فكل ثوب مختلف عن الآخر تماماً إلا أنهما يحتويان على شيء مشترك، وهذا يدل على وجود قوانين ثابتة للتطريز".

تعلمت التطريز وعلمته
أصبحت هايكا بعد فترة من دراستها لأصول التطريز، قادرة على تمييز قطب القدس والجليل ورام الله وباقي المدن الفلسطينية بعضها عن بعض، مؤكدة أن كل واحدة لديها طابعها الخاص، تضيف "كل بلد له خصوصياته، فلم يكن التطريز نقلاً أو تقليداً، لكل ثوب خصوصية وقوانين ثابتة".
بدأت هايكا بتنظيم دورات في التطريز لنساء المنطقة، تقول "كان الإقبال على الدورات كبيراً، وأظن أن السبب في ذلك هو شعورهن بأن الشخص الأجنبي أفضل منهن للأسف". مع نهاية كل دورة تُخبر هايكا النساء المتدربات لديها، أن ما تعلّمنه هو من أجل بيوتهن وصناعة ألعاب لأطفالهن وهدايا لجيرانهن، كما يمكن أن يتخذنه مهنة شرط الالتزام بقوانين التطريز والمحافظة على روح التراث.
توسعت السيدة الألمانية في أعمال التطريز، وافتتحت مشغلها الخاص بالمشاركة مع نساء وفتيات فلسطينيات، إضافة إلى نسوة سوريات من مختلف القرى والمدن السورية، وهؤلاء عملن معها من بيوتهن وبطريقتهن في التطريز السوري، والتي استمدّنها من جدّاتهن، لتكتشف أن التطريز في مختلف مناطق (بلاد الشام) متشابه من ناحية النقوش والرموز والألوان، حيث تقسم المنطقة إلى قسمين رئيسيين، الشمالي الذي يضم سوريا ولبنان والجليل، والجنوبي الذي يشمل الضفة وغزة والبحر، وتؤكد أن التطريز في جميع المناطق يركز بشكل أساسي على رموز القمر الذي يمثل "عناة" أم الآلهة والدرج والمثلث.
حملت هايكا منتجات النسوة اللواتي يعملن معها، ودارت بها العالم وصولاً إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، تقول "كنت أطرز كل النماذج بيدي، وعندما أصبحت البنات تعملن معي، لم يعد لدي الوقت الكافي لصنعها لهن، فأصبحت أرسمها على الورق، ثم بدأت باستخدام برامج الحاسوب، لكن أصبحت في كل مرة أفقد شيئاً من الروح والفن، لأنني عندما كنت أصنعها بيدي وببطء كان فيها عمق أكبر".
ترفض هايكا فكرة التغيير على الأساسيات، التطريز من رموز ورسومات وألوان، والتي ترتبط بالتراث الإنساني لهذه المنطقة وتعكس روحها، وتشدد على أن التراث القديم يجب المحافظة عليه، فهو جاء نتيجة تراكم الحكمة الإنسانية ويحتوي على عمق إنساني وغنى أكبر، وتضيف "يفعلن ذلك في بعض الأحيان ظناً منهن أنه يحسّن من الإقبال على الأثواب المطرزة، فيدخل تلوث ثقافي مع الرسومات الحديثة المستوحاة من حضارات أخرى لا تمت للمنطقة بصلة، ويصبغونها على الأثواب المطرزة، إلا أنني أرى أن الجمالية تكمن في المحافظة على التصاميم القديمة والألوان بالطريقة القديمة الصحيحة كما ورثته الفلاحات عن جداتهن".

نساء غزة.. والكمال لله
في نهاية التسعينيات انتقلت هايكا من حي التضامن مسبق الصنع لتسكن داخل أحياء دمشق القديمة، وذهبت مرات عدة في زيارات إلى الأراضي المحتلة لتنظيم المعارض، تتحدث عن أحد المواقف خلال إحدى زياراتها إلى غزة لتنظيم دورة للنسوة هناك، وعرض الأزياء في نهاية عام 1990 برفقة الأونروا، فتقول "واجهتنا مشكلة حيث كانت اتفاقية أوسلو حديثة العهد آنذاك، وبداية عودة السلطة الفلسطينية، وقبل أن أبدأ المعرض أوصلت السلام من فلسطينيي سوريا إلى الناس هناك، وأخبرتهم أن اللاجئين يودون العودة إلى بلادهم ويريدون منكم ألا تنسوهم، هذا الكلام جعل مدير الأونروا في غزة، وهو ألماني الجنسية يستشيط غضباً بسببي وحدثت مشكلة، طبعاً أتت جميع الفضائيات الفلسطينية بسبب هذا الكلام الذي أثار إعجابهم".
نظمت هايكا خلال رحلتها إلى غزة دورة في التطريز لبعض النسوة الفلسطينيات، الأمر الذي خلق نوعاً من الغيرة لدى النسوة، بأن امرأة ألمانية تأتي لتعليمهن جزءاً من تراثهن، تقول هايكا "نظرن إليّ نظرات غريبة، توحي بأنهن يقلن، هذه فتاة صغيرة وأجنبية كيف ستتمكن من تعليمنا"، تجاوزت هايكا الموقف من خلال الحديث معهن عن التراث الفلسطيني والمنطقة بشكل عام وعن الأحجار القديمة، فبدأ النساء يشعرن بالارتياح نحوها ويؤكدن ما تقوله من خلال موروثهن من الجدات، تضيف "اكتشفن أنني كأجنبية باحثة في الجانب الميثولوجي للتطريز يمكنني أن أذكرهن بأشياء قد نسوها عن التراث".
"أحياناً كانت النسوة اللواتي يطرزن يعطونني بعض الإرشادات، كنا نتفاهم ونتعلم من بعضنا البعض" تروي هايكا عن العلاقة التي استطاعت نسجها مع النساء الغزاويات فتقول "أخبروني بعض الحكايات القديمة مثل أن الإنسان لا يجب أن يستحم أو يطرز في الليل، لأن الليل لأرواح الموتى وشكّ الإبرة قد يزعجهم، وهذه الأشياء لم أكن أعرفها من قبل، إلا أن الأصل في ذلك أنه في السابق لم يكن لديهم في الليل سوى الشموع لذلك لم يكن في وسعهم التطريز".
ورثت الفلاحات عن جداتهن، إضافة إلى فن التطريز، مفاهيم العين والحسد، حيث كن يتعمّدن وضع خطأ مقصود في قطع التطريز كي لا يكون كاملاً، لأن الكمال لله وكي لا يصيبهن الغرور، وبحسب هايكا فإن هذه الأمور تدل على أهمية التطريز في مجتمعات المنطقة وارتباطه بالقيم الدينية والأخلاقية.

التطريز والانتفاضة الفلسطينية
عملت هايكا على دعم الانتفاضة الفلسطينية عبر لوحات أخذت شهرة واسعة وحملت المعاني السياسية المناصرة للقضية الفلسطينية، مثل لوحة شجرة البرتقال التي كانت جذورها عبارة عن قصيدة للشاعر الفلسطيني الراحل أبو سلمى "يا فلسطين الأغلى والأحلى كلما حاربت من أجلك أحببتك أكثر"، وفيها تعيش حمامة السلام وتحمل في منقارها علم فلسطين، وتحت الشجرة امرأة تعطي لابنها الحجر ليرميه بوجه المعتدين على الشجرة، ولوحة الشهيد التي تحمل أبيات قصائد لمحمود درويش وتظهر كيف يُحمل الشهيد ملفوفاً بالكوفية، أما لوحة التنين المستمدة من القصص اليهودية، والتي حولتها إلى الطفل الفلسطيني الذي يقف أمام المعتدي والمحتل بمقلاعه وحجره.

الحرب السورية وتأثيرها على التطريز
في الحرب فقدت هايكا التواصل مع جميع النساء اللواتي كن يعملن معها، واللاتي وصل عددهن إلى أكثر من ألف امرأة من مختلف القرى السورية والمخيمات الفلسطينية في سوريا، إلا أنها ومع تصاعد حدة التوتر والمعارك في البلاد فقدت الاتصال مع غالبيتهن، على الرغم من سعيها الدائم للتواصل معهن واستئناف نشاطهن، لكن ظروف الحرب والموت والهجرة والنزوح وغيرها كانت أقوى، تقول هايكا "لدي أرقام هواتف لعشرين امرأة منهن فقط، وأنا اليوم عدت إلى التطريز بيدي مثلما بدأت".
وعن تمسّكها بالبقاء داخل أحياء دمشق القديمة التي نالت نصيبها من خوف وأذى الحرب، تؤكد هايكا أن الأمر مرتبط بشغفها بهذه البلاد التي عاشت فيها سنين طويلة، وزارت معظم قراها وخالطت سكانها وتأثرت وأثرت بهم، وسمحت لها بإطلاق مشروعها حول التطريز الذي يمثل كل حياتها، واعتاشت عليه على مدى أعوام هي ومئات النساء اللواتي عملن معها، تضرب المثل فتقول "كنت دائماً أناقش مع السوريين وضع الفلسطينيين، حيث الكثيرون كانوا يلقون اللوم على الفلسطينيين لأنهم تركوا بلادهم عام 1948، فكنت أحاول أن أشرح لهم أنه كان هناك هجوم وحرب دفعتهم إلى الخروج، إضافة إلى أن الجيوش العربية السبعة طلبت منهم المغادرة ريثما يتم تحرير فلسطين من العصابات الصهيونية، لذلك خرجوا ومعهم مفاتيح ديارهم، وهم لم يكونوا على دراية بهذه اللعبة السياسية، أما أنتم السوريون على دراية الآن باللعبة السياسية، والمفروض أنكم تعلّمتم من الفلسطينيين لتتمسكوا بهذا البلد، ومهما كان الهجوم فلا أحد سيدافع عن البلد سواكم أنتم".

التطريز تراث لا مادي وجزء من المعركة
تشير هايكا إلى معركة التراث التي يخوضها الفلسطينيون اليوم مع محاولات الاحتلال الإسرائيلي سرقة التراث العربي، وتؤكد أن الإسرائيليين كانوا قبل احتلال فلسطين موزعين في أصقاع العالم، ولهم طقوسهم الدينية ولكن ليست طقوساً شعبية، فاليهودي في روسيا يختلف عن اليهودي في ألمانيا أو اليهودي في فلسطين أو اليمن أو المغرب، وتتابع بالحديث "كل العرب يأكلون الفلافل لكنهم يدّعون بأنها إسرائيلية! وهذا جزء من الحرب".
تجد السيدة الألمانية أن الفلسطينيين كانوا ماهرين جداً لناحية المحافظة على التطريز الفلسطيني حيث عملوا بجد في مجال الحفاظ على هذا الفن وهويته، فالتطريز وفق هايكا يعكس الترابط بين الفلسطينيين في الداخل والخارج، فمنهم من يصنع ومنهم يأخذ ليبيع وبذلك بنوا اقتصاداً مهماً وحافظوا من خلاله على هويتهم الفلسطينية من خلال هذه الأعمال والأثواب التي أصبحت رمزاً لقضيتهم المحقة.

أربعون عاماً في كتاب
جمعت هايكا بحوثها وخبراتها حول التطريز وأصوله في كتاب أصدرته باللغة الإنكليزية ويحمل عنوان: (ANAT And Her Hero BAAL: The embroidery Pattern Language of the Levant) أي عناة وبطلها بعل: لغة نمط التطريز في بلاد الشام، حيث هايكا تمتلك قناعة أن موضوع التطريز التراثي ليس مهماً فقط للعرب بل هو شأن إنساني عالمي، وتضيف "هذا الكتاب نتيجة بحث أربعين سنة اكتشفت خلالها معاني رموز التطريز التي وجدت منذ آلاف السنين وعكست نظرة البشر إلى العالم، حيث لا توجد حياة من دون موت، والقمر هو منظم الوقت ومقسّم التقويم، فكانت النظرية أننا كبشر مرتبطون بالطبيعة وعلينا التأقلم معها ومنها تأتي الحياة والموت التي علينا تقبله كوننا جزء من هذه الطبيعة"، وتعتزم هايكا إصدار كتابها باللغة العربية قريباً ليكون بمتناول كل من يبحث عن أصول وحكايات تراثه.
تخرج هايكا اليوم من منزلها الدمشقي مرتدية الملابس المطرزة بالنقوش، حيث تضع رموزاً إيجابية على ملابسها لتحميها، تقول "في كل قطبة أعطي قيمة إيجابية لثوبي وأحمي نفسي عندما أطرز الصليب"، وترى المرأة الألمانية الأصل السورية والفلسطينية الهوى أن التطريز هيبة تفتخر المرأة به، فالفتاة قديماً عندما كانت تذهب من القرية إلى المدينة تلبس ثوب قريتها فيعرفون من أي قرية هي من خلال ثوبها، فإذا حصل معها مكروه ما، الجميع سيدافع عنها، وتختم حديثها "لذلك أرتدي التطريز دائماً".