في البدء، فإنّه لتفسير النضال الفلسطيني بطريقة صائبة، وبمنظور فلسفي، يحتاج المرء إلى الانخراط في الفلسفة السياسية، وبطريقة لا تقفز على الحقائق التاريخية والاجتماعية. ومن خلال هذا النص، فإنّي أجادل أن العديد من تيارات الفلسفة السياسية الأفريقية، الحديثة على وجه الخصوص، لا تقفز عن هذه الحقائق. وعليه، فإنها تتمتع بقدرة أكبر على تفسير طبيعة النضال الفلسطيني. وهنا، سأركّز على التحليل الفلسفي لأميلكار كابرال عن أهمية الكفاح من أجل التحرر الوطني الفلسطيني.أميلكار كابرال (1924-1973)، زعيم المقاومة ضد الاستعمار البرتغالي، لتحرير وتوحيد غينيا بيساو والرأس الأخضر. أدّى كابرال دوراً أساسياً في تأسيس الحزب الأفريقي لاستقلال غينيا والرأس الأخضر عام 1956، وقاد الحزب حتى اغتياله على يد عملاء البرتغاليين في كانون الثاني من عام 1973. لا تنحصر الأهمية التاريخية لكابرال في كونه أحد قادة التحرر الأفارقة، وتكمن أهمية دوره في مجهوده النظري والتحليلي للمشاكل التي تواجهها الدول الأفريقية ما بعد الاستقلال. تميّز كابرال بقدرته على التنظير الدقيق والاهتمام بالواقع الملموس، فدأب على التأكيد أن النظريات، مهما بلغت من تعقيد، يجب أن تظل دائماً على صلة مباشرة بهذا الواقع، وعلى وجه الخصوص أن تبقى على صلة بالتجارب الحية للأفراد الذين صيغت هذه النظريات بهدف تحريرهم. كان لأعمال كابرال تأثير هائل على امتداد القارة الأفريقية، وكذلك على مستوى العالم ككل. وقد أثّرت على شخصيات بارزة في النضال من أجل تحرير السود، في الولايات المتحدة كأنجيلا ديفيس، ومفكرين مصريين كسمير أمين وحلمي الشعراوي، وكذلك على مستوى العالم.

يُرجع كابرال الإخفاقات والصعوبات التي واجهتها بعض البلدان الأفريقية التي حصلت بالفعل على استقلالها، إلى افتقارها إلى توجّه نظري واضح، حيث يقول: «إن القصور الأيديولوجي، فضلاً عن انعدام الأيديولوجيا، من جانب حركات التحرر، وبما يفسّر جهلها بالواقع التاريخي الذي تطمح هذه الحركات إلى تغييره، يشكّل إحدى أكبر نقاط الضعف، إن لم يكن أكبر نقطة ضعف في نضالنا ضد الإمبريالية». تجدر الإشارة هنا إلى التشابه بين هذه الخلاصة التي وصل إليها كابرال، وتلك التي استنتجتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بعد هزيمة عام 1967.
أدّى اهتمام كابرال بالقضايا النظرية، إلى حدّ وصفه بأعظم منظّر لحركة النضال ضد الاستعمار والإمبريالية في أفريقيا. وعليه، تمثّل أعمال كابرال كنزاً دفيناً لأيّ شخص مهتمّ بالفلسفة السياسية والاجتماعية الأفريقية الحديثة.
كان الشاغل الأساسي لكابرال هو إزالة العقبات التي تمنع الناس من صنع تاريخهم الخاص، وعلى حدّ تعبيره: «مع الحفاظ على الاحترام الواجب لجميع الفلسفات البشرية، إلا أنّ علينا أن لا ننسى أن العالم من صنع الإنسان نفسه. من هنا، يمكننا اعتبار الاستعمار بمثابة شلل أو انحراف أو حتى توقف، لتاريخ شعب واحد لمصلحة تسريع التطور التاريخي لشعوب أخرى». وبالنسبة إلى كابرال، كانت القضية الفلسطينية محاولة من قبل شعب للعودة إلى وضع يمكنهم من خلاله صنع تاريخهم الخاص، وهو التاريخ الذي سعت المناورات الإمبريالية إلى حرمانهم منه، فممّا كتب كابرال: «نحن مع اللاجئين الفلسطينيين الشهداء الذين تم خداعهم وطردهم من وطنهم بمناورات الإمبريالية، نحن بجانب اللاجئين الفلسطينيين، وندعم بإخلاص كل ما يقوم به أبناء فلسطين في سبيل تحرير وطنهم».
إن ما يعنيه هذا الخطاب بالنسبة إلى دراسة القضية الفلسطينية، هو أنه لا يمكن للمرء مقاربتها من دون الانطلاق من منظور النظام العالمي، والذي يمكّننا من فهم الحركة الصهيونية والدور الوظيفي لدولة إسرائيل في المنظومة الإمبريالية. إذ إن الانطلاق من «حقيقة» أنه صراع عربي - إسرائيلي، أو من وجهة نظر الصراع الحضاري، هو انخراط في التفكير المجرّد (بالمعنى السلبي للكلمة). ونقطة انطلاق مجردة كهذه، هي ما تسمح لبعض المثقفين بالاعتقاد بأن إسرائيل هي الملك داود الذي انتصر على جالوت العربي. وعليه، يجب أن تكون نقطة انطلاقنا لأيّ تحليل للقضية الفلسطينية، هي واقع وتاريخ الاستعمار. فكما يرى فايز صايغ، إن حقيقة أن إسرائيل كيان استعماري تأسس خلال منتصف القرن العشرين، أي خلال فترة إنهاء الاستعمار على المستوى العالمي، أدّت إلى ارتباك هائل، إذ كان من المفترض أن الاستعمار في هذه الحقبة التاريخية قد مات، وأن الاستعمار كمفهوم لم يعد مفيداً. إلا أنه ومع ذلك، واقع الأمر أنه ومن دون فهم الطبيعة الاستعمارية لدولة إسرائيل، لا يمكن فهم أيّ شيء له أيّ أهمية بما يتعلق بالوضع الفلسطيني. ثيودور هرتزل، ذاته، الأب الأيديولوجي للحركة الصهيونية الحديثة، يشير صراحة إلى أن دولة إسرائيل مشروع استعماري استيطاني. وبالنسبة إليه، إن نجاح هذا المشروع الاستعماري على شرق البحر الأبيض المتوسط، أمر ضروري ليتمّ قبوله من الدول المتحضّرة الغربية، ولأنه على وجه التحديد سيكون هذا المشروع مفيداً للغرب. يقول هرتزل: «يجب أن نشكّل (في فلسطين) جزءاً من الحصن الأوروبي ضد آسيا، وبؤرة أمامية للحضارة الغربية في مقابل البربرية».
وكما يوضح غابرييل بيتربيرغ، بأن المستعمرين الصهاينة الأوائل في فلسطين خلال عشرينيات القرن الماضي، مثل حاييم أرلوسورف، استلهموا من مثال جنوب أفريقيا، متحدثين عن قوانين تدرج ألوان البشرة في جنوب أفريقيا عام 1927، فيصف أرلوسورف جنوب أفريقيا بأنها «الحالة الوحيدة تقريباً التي يوجد فيها تشابه كافٍ من ناحية الظروف الموضوعية والمشكلات، ما يسمح لنا بالقياس عليها».
ينبع دعم كابرال للنضال الفلسطيني من أجل التحرر الوطني، من حقيقة أن إسرائيل كانت قد أدّت دوراً نشطاً في دعم الاستعمار البرتغالي لبلاده


لم تكن الطبيعة الاستعمارية للمشروع الصهيوني سرّاً من قبل قيادته المبكرة، وكانت هذه الطبيعة مبررة، وخصوصاً للرأي العام الأوروبي على وجه التحديد. إن حقيقة الأمر، أننا لو درسنا تاريخ دولة إسرائيل بعناية والواقع الحالي لها، فستنهار بسهولة سردية الاستثنائية التي تقول بأنه لا ينبغي تفسير هيكل وتاريخ دولة إسرائيل من خلال المقارنة بالمشاريع الأوروبية الأخرى، وذلك لخصوصية التاريخ اليهودي. فمثل كندا وأميركا، أراد مؤسسو إسرائيل تأمين أرض رخيصة الثمن، وكما نعلم جميعاً، أنه لا توجد أرض رخيصة دونما حيوات رخيصة، وهي حياة الشعوب التي شرّدت عبر الإبادة، في سياق المشاريع الاستعمارية الاستيطانية.
إنّ فهم هذه الأسطورة، والتغلب عليها، يمكّننا من القفز على المجال الوهمي لسردية الصراعات الدينية والحضارية، ويقودنا نحو إدراك أنّ أيّ تحليل مناسب للقضية الفلسطينية، يتطلّب تبنّي المنظور الاقتصادي السياسي لكل من الإمبريالية والاستيطان الاستعماري. وما يعطف على ذلك، هو أهمية فهم دور إسرائيل في المشاريع الإمبريالية على النطاق العالمي. وهذا ما يوصلنا إلى كابرال من جديد، لكون دور إسرائيل في النظام الإمبريالي بالنسبة إليه واضحاً: «لدينا مبدأ واضح، وهو الدفاع عن القضايا العادلة، وعلى هذا الأساس، نعتقد أن إنشاء إسرائيل قامت به الدول الإمبريالية، للحفاظ على هيمنتها في الشرق الأوسط، وكمصنع يهدف إلى خلق المشاكل في هذه المنطقة المهمة جداً من العالم. موقفنا هو الآتي: يحقّ لليهود الذين يتبعون الديانة اليهودية أن يعيشوا بشكل جيد في بلدان العالم المختلفة، إننا نأسف بشدة على ما فعله النازيون باليهود، لقد دمر هتلر وأتباعه ما يقرب من ستة ملايين خلال الحرب العالمية، لكننا نفهم أيضاً، أن هذا لا يمنحهم الحق في احتلال جزء من الأمة العربية، فنحن نؤمن بأن لأهل فلسطين الحق الكامل في أرضهم، وعليه، نرى كل الإجراءات التي اتخذتها الشعوب العربية من قبل الأمة العربية لاستعادة الوطن العربي الفلسطيني مبررة». ثم يكمل: «في هذا الصراع الذي يهدد السلام العالمي، نحن نؤيد تماماً الشعوب العربية وندعمها من دون قيد أو شرط، لا نتمنى الحرب، لكننا نريد أن تحصل الشعوب العربية على حرية شعب فلسطين، لتحرير الأمة العربية من مصدر الاضطراب والسيطرة الإمبريالية الذي تشكّله إسرائيل».
هناك عدة نقاط يجب ملاحظتها في مناقشة كابرال. أولاً، يجب أن تُفهم القضية الفلسطينية، من منظور حق الشعب المُستعمَر في تقرير المصير، أي أن يكون قادراً بشكل جماعي على صنع تاريخه الخاص، من دون عائق واضح من قبل الاستعمار. ثانياً، جميع الإجراءات التي يتخذها الفلسطينيون والشعوب المتحالفة معهم لتجاوز الوضع الاستعماري لها ما يبررها. من الواضح أن هذا يستلزم، منطقياً، استخدام العنف للتغلب على الوضع الاستعماري، وله ما يبرره وفقاً لكابرال الذي لا يتوسع في هذا الادعاء، لكن يمكننا إعادة بناء منطقه من خلال التركيز الوثيق على السياق الذي جاء منه كلام كابرال.
أولاً، من الواضح أن كابرال لا يؤيد المعاناة والعنف بشكل عام، أو العنف من أجل العنف. ومع ذلك، في حالة استعمارية، حيث لا ينقطع العنف المنهجي، فليس من النادر أن يكون العنف المركّز (حتى الواسع) ضرورياً لقلب الوضع الراهن، وإحداث نمط أقل عنفاً للوجود الاجتماعي والسياسي. يدرك كابرال أنّ من غير المتّسق الادعاء بأن شخصاً ما له الحق في شيء ما، بينما ينكر حقه في الوسيلة الوحيدة التي تمكّنه من الحصول على هذا الشيء. إضافة إلى ذلك، فإنّ تبرير العنف لا يقوم على الوعد ببعض اليوتوبيا المستقبلية التي ستظهر في حالة ما بعد الاستعمار. بدلاً من ذلك، يقوم التبرير على حقيقة أن العنف والتهديد بالعنف من قبل الطرف المستعمَر في حالة استعمارية، يمكن أن يخفف على الفور العنف الاستعماري المنهجي، وينزع الملكية من خلال إجبار المستعمِر على تقديم تنازلات (على سبيل المثال دور المقاومة المسلحة في تحرير جنوب لبنان عام 2000). لا تحتاج هذه اليوتوبيا إلى الحصول على وضع أفضل بكثير من الوضع الاستعماري. وهنا نلاحظ أنه كون العديد من دول ما بعد الاستعمار لم تلتزم بتطلّعات شعوبها، لا يعني أنه لم يكن هنالك تغيير جوهري نحو الأفضل في المجتمعات التي حصلت على استقلالها من الاستعمار. كما لا يمكن فصل مسألة المقاومة العنيفة عن مسألة الأمل. فإن أراد شعب مستعمَر مقاومة مضطهديه، يجب أن يكون لديه بعض الأمل، وحين يتعرضون للعنف الروتيني من قبل مستعمريهم، من دون أن يتمكنوا من الانتقام، فإن الأمل قد يتضاءل إلى درجة أن يخمد. أما الانتقام، فيمكن أن يعيد إشعال الأمل، وقد يكون في بعض الأحيان الشيء الوحيد الذي يمكن أن يبعث بالأمل.
ينبع دعم كابرال للنضال الفلسطيني من أجل التحرر الوطني، من حقيقة أن إسرائيل كانت قد أدّت دوراً نشطاً في دعم الاستعمار البرتغالي لبلاده. كان كابرال وقيادة الحزب الأفريقي لاستقلال غينيا والرأس الأخضر بشكل عام على دراية بدور إسرائيل، كقاعدة عسكرية وسياسية للإمبريالية الغربية، التي تهدف إلى سحق جميع الحركات التقدمية على نطاق عالمي. دعمت إسرائيل البرتغاليين بحزم في حملاتهم الشرسة لمكافحة التمرد في مستعمرات البرتغال الأفريقية. كما أشار لويس كابرال، الأخ غير الشقيق لأميلكار كابرال: «لدى البرتغال تحالف قوي مع إسرائيل... ولا يقتصر عمل إسرائيل على منح البرتغاليين الوسائل التي يحتاجون إليها لتدمير شعبنا. فأيضاً تحاول إسرائيل تخريب نضالنا باستخدام مجموعات من بلدنا يطلقون على أنفسهم قوميين، ومع ذلك هم عملاء للاستعمار البرتغالي. أُرسل هؤلاء الأشخاص إلى إسرائيل، ولدينا تقارير عن عملاء إسرائيليين مدرّبين، يحاولون التسلل إلى صفوفنا. نحن يقظون، إن كان هناك أيّ شيء، وعليه، إن كل انتصار للشعب العربي وللشعب الفلسطيني على الصهيونية هو أيضاً انتصار لشعبنا لكفاحنا التحرري».
يمكن للشعوب المستعمرة في أجزاء أخرى من العالم، أن ترى بوضوح أن إسرائيل كانت متورّطة بعمق في مشروع إمبريالي تقوده الولايات المتحدة، والذي يهدف إلى دحر الحركة العالمية المناهضة للاستعمار. يتيح لنا هذا المنظور العالمي أن نفهم بشكل كافٍ سبب دعم الولايات المتحدة وحلفائها لإسرائيل بقوة. إنهم يفعلون ذلك لأن إسرائيل خدمتهم تاريخياً، ولا تزال تعمل على حماية احتكار الولايات المتحدة لموارد النفط في المنطقة، ولأنّها أدّت دوراً رئيسياً في سحق الحركات الثورية القومية والاشتراكية. بعبارة أخرى، ومن وجهة نظر كابريالية، يمكننا القول إنه لا يمكن للفلسفة السياسية أن تساهم بشكل معقول في فهم القضية الفلسطينية، من دون دمج نظرية تحلّل عمل الإمبريالية على نطاق عالمي في منظومتها المفاهيمية.
ترجمة موسى السادة