بعد كل مواجهةٍ مع الاحتلال أو عمليةٍ نوعية، يقوم بها فدائيو الشعب الفلسطيني، يغمرنا شعورٌ جمعي عابرٌ للقارات بالفخر والاعتزاز، بعناد وشجاعة شعبنا الباسل. فترى الشباب العربي ينشر صور وفيديوهات الفدائيين على صفحاتهم ويصممون البوسترات ويوزعون الحلويات في مدنهم وقراهم، وتصدر البيانات من قوى المقاومة والمنظمات، مشيدة بهذا العمل البطولي.لنأخذ الشهيد عدي التميمي على سبيل المثال: قام الشاب ذو الـ 23 سنة بعمليةٍ نوعية، مواجهاً جنود العدو منفرداً على حاجز شعفاط سيئ السمعة، وانسحب من الاشتباك بسلام، بعد تصفية وإصابة عددٍ من الجنود، ليختفي في أزقّة القدس الشريف. تابع الشعب الفلسطيني والعربي قصّة هذا المحارب عن كثب على مدار عشرة أيام، متتبعين أخباراً عنه، وحصار مخيم شعفاط، فحلق شباب المخيم شعر رؤوسهم، ليربكوا الاحتلال، بعد أن نشر معلومة تشير إلى أن منفذ العملية حليق الرأس، لم يجدوا عدي، إلى أن أتت الأنباء عن تنفيذ عملية، أمام مستوطنة «معاليه أدوميم»، أدت إلى ارتقاء المشتبك مع جنود المستوطنة، فكان هذا الشهيد هو عدي التميمي. ملايين الفلسطينيين والعرب في كل أنحاء العالم شاهدوا مراراً وتكراراً لحظات اشتباكه الأخيرة، وإصراره على المواجهة حتى استشهاده، وقرأوا وصيته الّتي تحثّ الشعب الفلسطيني على المقاومة قائلاً: «هدفي أن أُحرّك مئات الشباب ليحملوا البندقية بعدي».
جدار في شارع العرب - برلين

في الوقت نفسه، ندرك كامل الإدراك، أنّ هذا العدوّ الساديّ سيمارس إجراءات انتقامية ضد أهل الشهيد، ردّاً على بطولة ابنهم، حتّى وإن لم نعلم التفاصيل. فبعضنا تابع اقتحام الاحتلال لقريته وهدمه منزله. وبعضنا قد يخمّن أن الاحتلال سيبدأ بالتّضييق على أهله أمنيّاً. لكنني أكاد أجزم أن أغلبنا لا يتخيّل أن عديّ التميمي، بطل الشعب الفلسطينيّ الذي اشتبك واستشهد، يقبع الآن، وأنت تقرأ هذا المقال، في ثلّاجة داخل ثكنة عسكرية، يجوبها جنود العدو، وأن أهله وأخوته ومخيمه وشعبه، حُرموا من دفنه في أرضه كما يليق بالفدائي الشهيد. فهذا بُعدٌ آخر لسياسات العقاب الجماعيّ التي ينتهجها الاحتلال الصهيوني بحق أهالي الشهداء إلى جانب هدم بيوتهم، واعتقال أقاربهم، وإبعاد أهلهم عن مكان سكنهم.

ثلّاجات الموت
بعد اشتباك الاحتلال مع المقاومين واختطاف جثامينهم، أو بعد استشهاد أسير تحت التعذيب أو إهماله طبياً، ينقل الاحتلال الشهيد إلى ثلاجات حتّى يقرر مصيره، وقد يبقى الشهيد في «ثلاجات الموت» سنين طويلة. يتّخذ العدو هذا النوع من الاحتجاز كوسيلة لمعاقبة أهالي الشهداء، كما يستخدم الجثامين باعتبارها «رهينة» وبوصفها «ورقة تفاوضية» لأي صفقات تبادل للأسرى مع قوى المقاومة، كما أقرّت ما تسمى بـ«المحكمة العليا الإسرائيلية». إلى جانب هذه الحرب النفسية التي يشنّها الاحتلال على أهل الشهيد، ينتهج العدو أيضاً سياسة الامتناع عن إصدار شهادات وفاة للشهداء، مما يعرقل حياة عائلاتهم، ويمنعهم من أي إجراءٍ قانوني باسمه مثل التصرّف بأملاكه أو إنهاء عقد زواجه أو حتّى رفع قضية في المحاكم الدولية لاستعادة جثمانه.
بدأت سياسة احتجاز الجثامين منذ احتلال فلسطين، إلا أنها تكرست عند انطلاق العمل الفلسطيني المسلح في الرابع من حزيران عام 1967، وتوقفت مؤقتاً عام 2008. منذ العام 2015، وفي «انتفاضة السكاكين»، عاد الكيان الصهيوني إلى هذا الفعل الهمجي ضمن سياسة تتيح له سرقة أعضاء الشهداء، أو استعمالها لإجراء تجارب ودراسات في «معهد الطب العدلي الإسرائيلي»، أو سرقة جلود شهدائنا لمعالجة جنوده المصابين بحروق، كما كشفت الفضائح المشينة قبل سنين. منذ العام 2015 حتى الآن، هناك ما يقارب الـ 130 جثماناً، يحتجزهم الاحتلال في الثلاجات بطريقة غير إنسانية، إذ يوضع في بعض الأحيان أكثر من جثمان في نفس الثلاجة، ويتم تخزينهم بدرجة حرارة منخفضة جداً تُجمّد الجثمان تماماً وتشوّهه.
بعد احتجاز جثمان الشهيد سنين عديدة، قد تُقرر المحاكم الصهيونية نقل الجثمان إلى ما يسمّى «مقابر الأرقام» من دون إخطار أهله أو محاميه، والذي يُعتبر كابوساً للأهالي، بسبب ازدياد صعوبة استرجاع الجثمان بعد نقله إلى هذه المقابر. فما هي «مقابر الأرقام»؟
وفق معطيات الصحافة الصهيونية، فإن تلك المقابر تفتقر إلى الحد الأدنى من المواصفات التي تصلح لدفن الأموات من البشر


مقابر الأرقام
مصطلح يطلق على مدافن سرّية من دون شواهد، حيث تُثبّت على أعلى القبر لوحة معدنية، تحمل رقماً بديلاً عن اسم الشهيد، يدلّ على رقم ملفّه الّذي تحتفظ به مؤسسات العدو الصهيوني. من الجدير بالذكر أن سلطات الاحتلال تنتهج سياسة إهمال متعمّدة، فلا تحتفظ بمعلومات وافية عن الجثامين، ولا تدون في بعض الأحيان مكان الدفن، ولا تحتفظ بعينات «DNA»، وغيرها من السياسات التي تهدف إلى خلق شكوك حول هويّة الجثمان الحقيقية. تخضع مقابر الأرقام لما يسمى «وزارة الدفاع الإسرائيلية»، وتُعتبر مناطقها مناطق عسكرية مغلقة، يطلق عليها الاحتلال اسم «مقابر قتلى العدو»، ولا يسمح لذوي الشهداء أو ممثلي المؤسسات الدولية والإنسانية أو وسائل الإعلام بزيارتها أو تصويرها.
ما زال الكيان الصهيوني، يحتجز جثامين مئات الشهداء الفلسطينيين والعرب الذين استشهدوا في مراحل مختلفة من النضال الفلسطيني، إضافة إلى أسرى استشهدوا تحت التعذيب أو بسبب الإهمال الطبي المتعمد. عدد الشهداء الموثّق وجودهم في مقابر الأرقام هو 256 شهيداً وشهيدة. لكن المؤسسات الحقوقية والإنسانية تؤكّد عدم مقدرتها على معرفة العدد الحقيقي في «مقابر الأرقام» وأماكنها، أو عدد الشهداء المدفونين فيها وهوياتهم. ووفق معطيات الصحافة الصهيونية، فإن تلك المقابر تفتقر إلى الحد الأدنى من المواصفات التي تصلح لدفن الأموات من البشر، حتّى أنّ بعض الجثامين، قد فُقدت تماماً بفعل انجراف التربة والعوامل الجوية. هذا عدا عن إبراز الاحتلال همجيته في التعامل مع جثامين شهدائنا الأبرار، إذ يجري في أغلب الأحيان وضع الجثمان في كيس بلاستيكي، ثم طمره بالرمال من دون وضع عازل إسمنتي، وأحياناً يدفن أكثر من شهيد في القبر ذاته، وربما تضم القبور شهداء من الرجال والنساء.

الحملة الدولية لتحرير جثامين الشهداء
«لا يمكن أن ننسى آخر واجب بحق أبنائنا، وهو واجب دفنهم بكرامة»-أزهار أبو سرور، أم الشهيد الأسير عبد الحميد أبو سرور، المحتجز في ثلاجات الاحتلال منذ 2016.
هكذا بدأ بيان انطلاق «الحملة الدولية لتحرير جثامين الشهداء الفلسطينيين المحتجزة في ثلاجات ومقابر أرقام الاحتلال الصهيوني». تسعى هذه الحملة إلى تدويل قضية الشهداء المحتجزة جثامينهم، فهي لا تلقى الاهتمام الكافي وطنياً، وغير معروفة عالمياً، ونظمت عبر أسبوع من النشاطات على الأرض، وكذلك الافتراضية في مختلف دول العالم، في مسعى لجعل هذه القضية على جدول الأعمال اليومي للمنظمات الداعمة، والتي يزيد عددها على 50 منظمة، كما تسعى إلى تناول القضية بشكل مكثف سنوياً في الأسبوع 3/11 - 3/18 حيث يتزامن هذا اليوم مع يوم الأسير السياسي العالمي. وأوضحت الحملة في بيانها أنها تعتبر الشهداء المحتجزة جثامينهم «أسرى لدى الاحتلال الصهيوني، لأهلهم وللشعب الفلسطيني الحق بزيارتهم وتحريرهم ودفنهم في مراسم تليق بالتضحية التي قدموها من أجل هذه القضية العادلة».
نظمت الحملة الدولية في إطار هذا الأسبوع سلسلة من الندوات الرقمية مع أهالي الشهداء، ومجموعة من الفعاليات في ألمانيا وفرنسا وأميركا. ووجّهت دعوة إلى القوى المقاومة والشبكات والمجموعات التضامنية الداعمة لنضال الأسرى، وإلى حملات المقاطعة المنتشرة في العالم للمشاركة الفاعلة، توسيعاً لرقعة الدعم والتضامن مع الأسرى والشهداء الفلسطينيين والعرب، ورفضاً لنهج السلطة الفلسطينية التي تتحمل مسؤوليةً بتسليم معلومات، أدّت إلى استشهاد ثم احتجاز بعض المقاومين، ومن ثم انتهجت سياسة التخلي عن ملف الجثامين تماماً.