ليل السبت (29 تموز)، وقبل اندلاع الأحداث الأخيرة في مخيم عين الحلوة، كنّا خارج المنزل لزيارة أحد الأقارب. أضاء الهاتف، وإذ بخبر اغتيال شاب من آل فرهود في المخيم، لم يفد الخبر بأكثر من ذلك. لكن أسئلة كثيرة تسارعت في رأسي، كما تسارعت الأخبار على منصات التواصل الاجتماعي.مباشرة قرّرنا الذهاب إلى المنزل، بعد ورود خبر عن اشتباكات بين حي الصفصاف وحي البركسات. منزلي في منطقة الفوار القريبة من مخيم عين الحلوة في صيدا. وخلال عودتنا أنا وأسرتي، شاهدت ما بات معتاداً، نزوح الناس إلى مسجد الموصللي الذي يبعد بضعة أمتار عن مدخل المخيم. كان الخوف على وجوه الأطفال، والانتباه والحذر على وجوه أهلهم. كانوا يهربون من موت محتمل.
مرّت ليلة الأحد هادئة نسبياً، باستثناء خبر ورد عند العاشرة مساء، يفيد بأن عائلة فرهود ستدفن ابنها ظهر الأحد. طمأنني هذا الخبر، ونقل طمأنينتي إلى أسرتي وإخوتي القادمين من دول الاغتراب، فقد عاشوا سابقاً حرب تموز. ظننت أن الأمر سينتهي كما كل مرة، عند الدفن. لكن ما حصل في ظهيرة الأحد، حرّك الأمور إلى ما هو سيّئ، اغتيل قائد «الأمن الوطني» الفلسطيني العميد أبو أشرف العرموشي ومرافقوه. وبدأت بعدها أصوات الرصاص والقذائف. وانقسم الشارع «السوشل ميدياوي» إلى اصطفافات وتحليلات وشائعات.
اشتدّت المعارك، وشُلت الحركة التقليدية في جوار المخيم، فالقصف وصل إلى مناطق في صيدا. نزلت من بيتي إلى مستشفى الهمشري الذي أجاوره، فاستمعت إلى حكايات الناس. فجأة، وصلت فتاة تبكي، وتسأل عن شقيقها، كانت بجانبي امرأة قالت: «يا حرام هاض أخوها واحد من مرافقي العرموشي، أخوها مات وهي مش عارفة». وفي الأثناء، سمعنا أصوات قذائف أخرى، كأنها مرّت فوق رؤوسنا. بعد ساعة وصلت العديد من الإصابات، بعضها طفيفة وبعضها خطيرة.
وأنا واقف في ساحة المستشفى أراقب وأوثّق، سمعت امرأة تقول: «شكلنا رح نام بالشارع»، فردّت ثانية «خلو الجيش يفوت ويريحنا». وكانت هذه الأحاديث تأتي متقطّعة، فالوجوه كلها على الهواتف، للاطمئنان على الأهل والأصدقاء، ولمتابعة الأخبار التي تأتي تباعاً، بعضها صحيح وبعضها مفبرك.
حاولنا التخفيف عنها، فقالت: «والله زهقنا فوق ما نحنا نازحين، بخربولي البيت كل مرة»


عدت إلى البيت، وبعد نصف ساعة، سقطت قذيفة هاون خلف مستشفى الهمشري، فأصيب شاب. شاء القدر أنّي غادرت قبل سقوط القذيفة، وقذائف أخرى في محيط المخيم وأبعد من المحيط أيضاً.
في عصر ذلك اليوم، أتى إلى منزلنا نازحون من منطقة الرأس الأحمر، من معارف والدتي منذ أن قبعوا سوياً في الملجأ إبّان الاجتياح الإسرائيلي للبنان. وفي مساء هذا اليوم، سقطت قذائف أخرى قرب «الهمشري» وخرقت شظاياها زجاج النافذة التي كنت أجلس قربها في بيتي جوار صديقة أمي، ولولا رحمة الله لكنت مصاباً أنا والسيدة التي هربت من الموت في المخيم.
جمعت أختي أغراضها، وأحضرت جواز سفرها، وطرحت فكرة مغادرة المنزل، فهذه شظية أرعبتنا، فما بال من بقوا في المخيم، كيف يأكلون وينامون. لم نخرج من المنزل، وقرّرنا الابتعاد عن النوافذ والتسليم بقدر الله.
ومع سماع أصوات الرصاص والقذائف، وصل خبر إلى صديقة أمي غيّر ملامح وجهها تماماً، عرفت أن بيتها في المخيم تضرّر جرّاء الاشتباكات. حاولنا التخفيف عنها، فقالت: «والله زهقنا فوق ما نحنا نازحين، بخربولي البيت كل مرة بيتنا بتدمر، مين بدو يساعدني كله بيوعد».
بعد ثلاثة أيام، أُعلن عن هدنة، فعادت بعض العائلات لتفقّد الأضرار. لم تطل الهدنة، وخُرقت، وعادت المعارك أشدّ من بدايتها. انفجرت عدة قذائف مدوّية، الأولى فوق مسجد الموصللي، ما استدعى نقل النازحين إلى مدارس «الأونروا» داخل صيدا، والثانية فوق سطح البناية التي أسكنها، والثالثة عند أول الشارع، والرابعة فوق منطقتنا أي «مشاريع الهبة». هذا القصف، دفعنا للنزول إلى مدخل البناية، وأولاد إخوتي بدؤوا بالصراخ خوفاً من الأصوات الرهيبة. قضينا ليلة قاسية بكل ما للكلمة من معنى.
شيء واحد أثلج قلوبنا بعد الأحداث المؤسفة، هو نتائج الطلاب في مدارس «الأونروا»، والتي كان فيها أعداد كثيرة من الناجحين. فبين صور الدمار ومشهد التفوّق، واقع تراجيدي واحد، يتكرر دوماً، هو أن المعاناة لا بد أن تنتج نجاحاً في يوم من الأيام.